الجمعة 17 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
مشاهد من الحياة اليومية.. وجوهر الإبداع

مشاهد من الحياة اليومية.. وجوهر الإبداع


إذا كنت مثلى ممن يؤمنون بأن فهم الناس فى مصر مسألة تحتاج لأن تترك نفسك بشكل متكرر ومتجدد للمشاهدة الحية والمشاركة الحياتية لأحوال يومية؛ فإن متابعة تكاثر الأبراج الشاهقة يؤكد أن النمو العمرانى العشوائى فى عدد من الأحياء السكنية المصحوب بنمو سكانى خارج المدن التى تقيمها الدولة هو خطر داهم يجب الانتباه إليه.. البشر لا يعرفون بعضهم بعضًا.. أخذوا العزلة الموحشة من فكرة الأبراج الضخمة.. وأخذوا من ضيق شوارعها وزحامها وترابها وملامحها الفظة بؤس مدن نصف ريفية، لم تعد فى هيئة القرى، ولا هى بالمدن التى عرفتها مصر مع القرن التاسع عشر.. ومن هنا تأتى جاذبية وحيوية عرض «سَلِّم نفسك» إخراج «علا فهمى»، وإشراف «خالد جلال».
لا أحدثك عن فقراء، إذ يمكن بسهولة ملاحظة تداول الاقتصاد اليومى الكبير لدوائر مال غير منظورة، ذات صلة مباشرة بفهم خاطئ للحريات الشخصية فى تلك المعازل الأسمنتية باهظة الثمن، إن التفكير والسلوك ورؤية الحياة والنظر للمستقبل يحمل صفات وأفكارًا جديدة خطيرة على هذا النوع الجديد الخليط من المتوسطين والشعبيين فى مصر، مما يؤكد ضرورة حضور الدولة المهم فى التخطيط العمرانى والسكانى الحُر، منعًا لأن نترك العشوائية كوسيلة لصنع أنماط الحياة اليومية.
لا نشير للعشوائيات التقليدية، بل لمعازل جديدة يدار فيها اقتصاد عمرانى حُر كبير يحتاج لتدخل التنسيق الحضارى، ويحتاج لنظرة تحليلية ورؤية واقعية تجيب عن سؤال الثقافة والتعليم والمواطنة لدى المصريين فى مثل تلك التجمعات السكنية المتكررة فى مختلف أنحاء مصر، وكل هذا يقدمه عرض «سَلِّم نفسك» بسخرية وعفوية، فنرى شابًّا يأتى من تجمع عمرانى مماثل ليدخل منطقة حضارية متطورة، فيتأمله البشر المتحضر ربما فى زمن قادم، أو عبر عبوره للشاطئ الآخر بملابس نظيفة بيضاء وأسلحة متطورة، ثم يأخذونه للمستشفى ويطالبون بعزله لأنه بعد تأمل الملفات المهمة فى عقله يرى الطبيب المتحضر أنه خطر على الحضارة الإنسانية المتطورة ويحب التخلص منه.
هذه الدلالة الفنية الصادمة ربما تحمل فهمًا غير دقيق لهذا الشاب المصرى، والذى تعرض المسرحية لمشاهد عديدة من عقله هى عن نوع الفن الردىء، وسائل المواصلات المتهالكة، غياب قصص الحب، الحقد العام غير الموجّه، الحرمان الجنسى، غياب أفكار العمل الجاد، الانتماء للجماعة، إلا ملف مهمل يتم فتحه وهو ملف الأمل متمثلًا فى (ثورتى مصر 25/30)، التى تجمع بين الشباب الحُر الثائر بملابسه البيضاء الملائكية «أبطال  الجيش المصرى».
وحقيقة الأمر أن هذا المشهد يأتى فى النهاية ليشير للأمل، لكن المسرحية فى ملفاتها الأخرى السلبية لا تشير للأسباب الموضوعية التى صنعت هذا السياق، كما أنها لا تملك القراءة الصحيحة للشارع وللشباب المصرى بميراثه الحضارى المتراكم الذى صنع تلك الثورة، مما يؤكد أن المظاهر العشوائية هى مظاهر طارئة، وأن جوهر المصريين النقى باقٍ وقابل للاستعادة، أمَّا الملف الذى لم يطرحه العرض عن أزمة الفنون والثقافة فهو ملف يتجاوز الفنون الحسية التى انتقدتها المسرحية لمسألة أعمق ألا وهى عزلة الإنتاج الثقافى الرسمى، فـ«مسرح الإبداع» بمقاعده المحدودة وقدرته على صناعة اهتمام إعلامي ملاحظ به فى دوائر النخبة، هو جزء من مشكلة هذا المواطن الذى لا يذهب إليه أحد.
المسرح المصرى المختفى هو جزء من الملفات المظلمة فى عقل هذا المواطن، بل إن جعل فنون (الاسكتش) رُغْمَ حيويتها فى «مركز الإبداع»، وخريجيه الذين يعمل معظمهم فى مسرح «أشرف عبدالباقى» التليفزيونى، هى النوع المتصدر للإنتاج المسرحى فى مصر، لهو خطر واضح على بلد رائد فى الإنتاج المسرحى، فالمسرح المصرى لديه أنواع درامية يجب استعادتها، ويجب دعم أجيال جديدة فى المسارات الإبداعية المسرحية، والتواصل مع الجمهور العام، والتجوال فى الأحياء السكنية الجديدة وغيرها.
ملف المسرح المصرى كدراما إبداعية - بميراثها الحضارى - لا يمكن أن يكون عنوانها الارتجال الضاحك ومشاهده التمثيلية التى يبتكرها الشباب - رُغم حيويتها وطزاجتها - لكنها بالتأكيد لا يمكن أن تكون هى المشهد الأول فى المسرح المصرى الذى هو بيت الثقافة الوطنية، الذى يجب أن نفكر كيف نستعيده لأنه والفنون الجماهيرية المضيئة مسار ضرورى لوصل ما انقطع من ميراث حضارى، فيجب أن يعيد هؤلاء قراءة مشاهد حياتنا اليومية قراءة نقدية جديدة، فالوعى الحقيقى بما يحدث فى مصر الآن هو الباب السحرى للدخول للمستقبل.>