
هاني عبد الله
دموع فى عيون «أمريكية» وقحة!
تقول منظمة «هيومان رايتس ووتش» (Human Rights Watch) عن نفسها؛ إنها منظمة «مُستقلة» لا علاقة لها بأى جهات حكومية، أو رسمية.. وإنها تسعى للدفاع عن «حقوق الإنسان» بجهات العالم الأربع(!)
هذا التوصيف «مُعلن» إلى حدٍّ بعيد.. وضعته المنظمة - بنفسها - على جُل تقاريرها.. كما زينت به - أيضًا - موقعها الإلكتروني(!).. لك أن تُصدق هذا «التوصيف»، أو لا تُصدقه.. لك أن تعتبر «المنظمة» كيانًا ملائكيًا يتقرب إلى الله زُلفى بالدفاع عن حقوق الإنسان «المهدرة» بأرجاء العالم كافة، أو تراها «شيطانًا» [رجيمًا] يُفرق بين المرء ووطنه(!).. فالتوجهات - غالبًا - ما تتشكل عبر ثلاثة معطيات: [الانطباعات، والاجتهادات، والمعلومات].. إذ تُصبح الانطباعات «خادعة» - إلى حدٍّ بعيد - من دون اجتهادات «مُخلصة» للفهم.. كما تُصبح «الاجتهادات» نوعًا من التخمين، إذا ما غابت عنها «المعلومات»، و«التفاصيل».
قبل عامين، تقريبًا.. أجبرت «المعلومات» إحدى الكاتبات «الأمريكيات» (Belen Fernandez) أن تكتب [بشكلٍ ساخر] عن منظمة «هيومان رايتس ووتش» (HRW) قالت الكاتبة: دعونا نؤسس منظمة دولية؛ للدفاع عن حقوق الإنسان، بأرجاء العالم كافة.. على ألا يكون لتلك «المنظمة» أى انتماء حكومي، أو علاقات بالشبكات، والشركات «العابرة للقوميات».. فأى من الشخصيات [التالية] يجب أن نستبعده من أداء أى دور بمنظمتنا تلك؟!
(1) قيادى بحلف الناتو (NATO) أشرف على عمليات قصف متعددة، بما فى ذلك عددٍ من الأهداف «المدنية»؟!
(2) أم مساعد «خاص» للرئيس الأمريكى الأسبق (بيل كلينتون)، اعتاد على كتابة خطب وزراء الخارجية السابقين: «وارن كريستوفر»، و«مادلين أولبرايت».. وكان عضوًا بقسم التخطيط السياسى فى «وزارة الخارجية»، وسبق له أن أعلن بالعام 2009م؛ أنه فى ظل ظروف محدودة، هناك «مساحة مشروعة» لبرنامج التسليم «غير القانوني» الذى أدارته وكالة الاستخبارات المركزية (CIA).. وهو البرنامج الذى أسفر عن عدد لا يحصى من الأبرياء ممن تم اختطافهم، وتعذيبهم؟!
(3) أم سفير سابق للولايات المتحدة بـ«كولومبيا»، اضطلع بممارسة ضغوط سياسية بالنيابة عن شركتين أمريكيتين تعملان على تدمير البيئة، هما: «نيومونت للتعدين» (Newmont Mining) و«جى بى مورجان» (J.P. Morgan)؟!
(4) أم مُحلل سابق بـ«وكالة الاستخبارات المركزية» (CIA)؟!
وتابعت الكاتبة: أما إن كان كُل هؤلاء بالمنظمة.. فأنت قاب قوسين أو أدنى من «هيومان رايتس ووتش».. إذ لم تكتف المنظمة باستضافة هؤلاء فقط؛ بل أضافت إليهم الكثيرين ممن يتمتعون بـ«خلفيات» مماثلة(!)
وفى الحقيقة.. كانت تؤشر النماذج السابقة نحو كل من:
(1) خافيير سولانا (Javier Solana) الأمين العام الأسبق لـ«حلف شمال الأطلسي»، خلال هجوم العام 1999م، على يوغوسلافيا.. وهو الحدث الذى وصفته «هيومان رايتس ووتش» نفسها بأنه ينطوى على «انتهاكات للقانون الدولى الإنساني».. ومع ذلك؛ أصبح «سولانا» عضوًا بمجلس إدارة المنظمة (!)
(2) توم مالينوفسكى (Tom Malinowski) الذى شغل موقع مدير المنظمة بـ«واشنطن» خلال الفترة من العام 2001م، حتى العام 2013م، قبل أن يعاود نشاطه مُجددًا [كمسئول حكومي].. إذ عاد «توم» - بعد ذلك - ليشغل موقع مساعد وزير الخارجية الأمريكى لشئون الديمقراطية وحقوق الإنسان(!)
(3) مايلز فريشيت (Myles Frechette) السفير الأمريكى الأسبق لدى «كولومبيا».. إذ شغل «مايلز» عضوية اللجنة الاستشارية بمنظمة «هيومان رايتس ووتش» لشئون الأمريكاتين.
(4) ميجيل دياز (Miguel Diaz) المُحلل السابق بـ«وكالة الاستخبارات المركزية»، الذى قاد المجموعة الاستشارية لمنظمة «هيومان رايتس ووتش» خلال الفترة من العام 2003م، حتى العام 2011م.. قبل أن يعود [هو الآخر]؛ للعمل لحساب الحكومة الأمريكية - مرة أخرى - كمنسق بين مجتمع الاستخبارات الأمريكى (Intelligence Community) والخبراء غير الحكوميين [مُمثلاً عن وزارة الخارجية الأمريكية].
أى أنّ القراءة الدقيقة لخريطة العناصر الفاعلة داخل المنظمة تؤكد أن مزاعم الاستقلالية فى نشاطها، ليست إلا نوعًا من الاستهلاك الإعلامى لا أكثر ولا أقل.. وأنها أقرب إلى [بوابة خلفية] للحكومة الأمريكية، وشركائها الأوروبيين.. تتسع لاستضافة عناصر هذا التحالف «الرسمية»، و«الاستخبارية»، عبر أكثر من حقبة تاريخية؛ لتكريس «الهيمنة الغربية» (الإمبريالية الجديدة).
وفى الواقع القريب، أيضًا.. كان أن لعبت تقارير المنظمة المثيرة للجدل (وغيرها من المنظمات الأمريكية) دورًا [محوريًا] فى تمهيد الأرض أمام التحالف (الأمريكي/ الأوروبي)؛ لتمزيق «الجماهيرية الليبية» خلال ما عُرف بـ«ثورات الربيع العربي».. إذ قادت تلك التقارير عملية التمهيد [الإعلامي]؛ لتبرير التدخل العسكرى [المباشر] بالمستنقع الليبي.
لكن.. لم يكن «التدخل الأمريكي» المباشر، بالتعاون مع حلف شمال الأطلسى (الناتو)، هو كل الأوراق التى لجأت إليها «واشنطن»، داخل «ليبيا»، وقتئذ.. فوفقًا لمبدأ «القيادة من الخلف» (Leading from behind) الذى اعتمدته «إدارة أوباما»؛ كان على «البيت الأبيض» أن يدفع بشركائه الإقليميين، إما لتمهيد الأرض داخل «طرابلس»، من حيث الابتداء (أي: قبل إطلاق عملية فجر الأوديسا)، أو لإعادة استثمار «الحالة الليبية» فى تكريس «أعمال العنف» ضد «النظام السوري»، فى وقتٍ لاحق.
ومن ثم؛ كان أن انعكست توجهات تلك السياسة، على السياسات العامة للدويلة «القطرية».. إذ (وفقًا لـ«رسميين» أمريكيين)؛ دأبت قناة «الجزيرة» على عرض «صور»، و«فيديوهات» دول الجوار الليبى (أي: مصر، وتونس)، وسقوط أنظمتها الحاكمة، على مدار الساعة؛ من أجل تأجيج سرعة تفاعل «حركة المتمردين» داخل العمق الليبي.. إذ لم تكن تلك التحركات «عفوية»، بأى حال من الأحوال، بل كانت «مُرتبة» بعناية شديدة؛ لتحقيق أهداف محددة (ربما كان أقلها: تأسيس حكومة ليبية «صديقة للولايات المتحدة»، فى مرحلة «ما بعد القذافي»).
.. وهو الدور، نفسه، الذى لعبته - أيضًا - وسائل «الإعلام الأمريكية» و«الغربية»، بشكلٍ متزامن.. إذ عمدت تلك الوسائل - خلال المرحلة نفسها - إلى تسويق تيارات «الإسلام السياسي» (ومنها: تيارات العنف القريبة من «القاعدة») فى ليبيا، باعتبارها «تيارًا وطنيًّا» يسعى نحو «العدالة» و«الاستقلال السياسي»، فى مقابل «شيطنة» نظام القذافي، وتصويره «ديكتاتورًا»، لا يتورع عن ارتكاب أفظع الجرائم؛ للبقاء فى السلطة.. على غرار «التكتيكات الإعلامية»، التى تم استخدامها فى التمهيد لـ«غزو العراق» بالعام 2003م.
وهى «ممارسات إعلاميّة» استندت (بحسب «بيت هويكيسترا»، المدير الأسبق للجنة الاستخبارات بالكونجرس)، على تقارير حقوقية «مُلفقة» عن انتهاكات حقوق الإنسان على يد «نظام القذافي»، واستخدام تلك التقارير كذريعة؛ للتدخل الدولي، وإصدار قرارات من قِبل «مجلس الأمن»، إذ كان مصدر أغلب تلك التقارير، هم «معارضو القذافي».. ومن ثمَّ.. كانت تتسم - فى مجملها - بالمبالغة الشديدة (!).. ولأن «أوباما»، و«إدارته»، سبق أن قرروا الإطاحة بالقذافي، بأى ثمن؛ ألقوا - فى المقابل - بكل ثقلهم خلف «قوات التمرد الليبية»؛ لتحقيق ذلك الغرض.. ومن ثمَّ؛ دعموا ترديد تلك الادعاءات على نطاق واسع.. وهى ادعاءات ثبت - فيما بعد - أنها كانت «كاذبة»، جملة وتفصيلاً، مثل:
(أ) - عدد ضحايا نظام العقيد «الراحل»، تجاوز الـ«50 ألفًا».
(ب)- ادعاءات المسئولين الغربيين بأن «القذافي» استخدم طائرات هليكوبتر «مسلحة»؛ لضرب المتمردين، وهو الادعاء الذى ردده «رئيس الوزراء البريطاني» فى 28 فبراير/ شباط من العام 2011م؛ لفرض منطقة حظر للطيران على ليبيا (كان هذا الأمر جزءًا من الخطة الأمريكية، التى تحدثنا عنها سابقًا).. إذ أكد تقرير مفصّل لـ«مجموعة الأزمات الدولية» - فيما بعد - أنه لا يوجد دليل على هذا الأمر.
(ج)- ادعاء حدوث عمليات «اغتصاب جماعي» اقترفها جنود القذافى (ادعاء روجت له - فى حينه - قناة الجزيرة القطرية).
.. كما كان من المثير - هنا - أنّ كلاً من: «هيومان رايتس ووتش»، و«العفو الدولية»، و«مجموعة الأزمات الدولية»، نفت [بعد سقوط نظام العقيد] هذا الأمر (!)
وفى الحقيقة - أيضًا - فإنّ نشأة منظمة «هيومان رايتس ووتش» كانت - من حيث الأصل - نشأة استخبارية [بامتياز].. إذ تأسست، ابتداء، بالولايات المتحدة فى العام 1978م، تحت اسم «هلسنكى ووتش»؛ لرصد انتهاكات حقوق الإنسان فى الكتلة السوفيتية السابقة، والضغط على أولئك الذين يمتلكون السلطة؛ لاحترام الحقوق وضمان العدالة.. وهو ما كان - فى الواقع - جزءًا من «الحرب الباردة» التى تديرها «وكالة الاستخبارات المركزية» مع الكتلة السوفيتية.
كما أنّ عديدًا من أنشطة المنظمة، التى تحولت إلى «هيومان رايتس ووتش»، فيما بعد.. لم تبتعد فى أى وقت من الأوقات عن تنفيذ الأجندة «الخارجية» للحكومة الأمريكية.. وهو ما حفلت به وقائع تاريخية عدة؛ بدءًا من أمريكا اللاتينية، حتى «الشرق الأوسط».. إذ كان أغلب تقاريرها نتاجًا مباشرًا لسياسات مؤسسات «الدولة الأمريكية العميقة».
ونتاجًا لسياسات بعض روافد «الدولة الأمريكية العميقة» - أيضًا - وما تحمله بعض تلك الروافد من تربصات بـ«الدولة المصرية» فى الوقت الحالي؛ يُمكننا أن ندرك لماذا اتهمت «هيومان رايتس ووتش» قوات الشرطة و«جهاز الأمن الوطني» فى مصر (من دون أدلة حقيقية) بتعذيب معتقلين سياسيين بأساليب مختلفة، من بينها الاغتصاب(!).. خصوصًا بعد ما بدا من سياسات «استقلالية» واضحة للدولة المصرية (من بينها حلولها ضيفًا على قمة «البريكس»).
إذ قالت المنظمة، فى تقريرها الخاص بـ«حقوق الإنسان فى مصر»؛ إن «ضباط وعناصر الشرطة وقطاع الأمن الوطنى فى عهد الرئيس عبدالفتاح السيسى يعذبون المعتقلين السياسيين بشكل روتيني، وبأساليب تشمل الضرب والصعق بالكهرباء، [وأحيانا الاغتصاب!].. وادعى نائب المدير التنفيذى لقسم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بالمنظمة «جو ستورك» أنّ الرئيس السيسى أعطى ضباط وعناصر الشرطة والأمن الوطنى الضوء الأخضر لاستخدام التعذيب كلما أرادوا(!)
وبلهجة تحريضية على العنف؛ اتهم التقرير «السلطات المصرية» بأنها منذ يوليو من العام 2013م، قامت بملاحقة المعارضين (تقصد أعضاء جماعة الإخوان) فى أعقاب إطاحة الجيش بـ«محمد مرسي» (المنتمى للجماعة الإرهابية)، بعد الاحتجاجات الشعبية [الواسعة] المناهضة لحكم الجماعة.
ومن ثمَّ.. حسنًا فعلت «وزارة الخارجية المصرية»، عندما تداخلت [بشكل قوي] مع تقرير المنظمة، وأوضحت حقيقة أن التقرير يحمل عديدًا من علامات الاستفهام، أبرزها: توقيت صدوره (تزامنًا مع نمو الاقتصاد المصري)، و(استعادة مصر لمكانتها الطبيعية بمنطقة الشرق الأوسط).. وأنّ التقرير يتحدث عن الأوضاع فى مصر خلال ثورة 30 يونيو، باعتبارها «انقلابا عسكريا»، ويشبه الأوضاع الآن بفترة ما قبل العام 2011م.. وأن هذا الأمر بمثابة تحريض [مباشر] على الدولة المصرية.