د. مني حلمي
قطارات الفقراء ومنتجعات الأثرياء
الآن أدرك، لماذا تتعاقب علينا حكومات ليست مهتمة حقا، بالانفجار السكاني، الذى يعد «نقمة»، فى ظل الاقتصاد التابع، الراكد، الذى يعمل لخدمة الأثرياء فقط.
الآن أدرك، أنها حكومات «ذكية»، «حكيمة»، «رشيدة».
لماذا تهدر الفلوس فى برامج، وسياسات، وخطط، لتحديد النسل، وهى لديها واحدة من أفضل، وأكفأ، وأسرع، وسيلة للقضاء على «الأحياء» إن لم تكن بالفعل هى الوسيلة المثلى.. «القطارات»؟!
لماذا تخصص بضعة ملايين لتحويل «القطارات» إلى وسيلة آمنة كريمة تليق بشعب، ينتمى إلى أقدم حضارة إنسانية متحضرة، وهى «مشغولة»، و«مؤرقة»، و«مهمومة» بتلبية مطالب الأثرياء من منتجعات، وقرى سياحية، وشواطئ خاصة، ومساكن ولا الأحياء الأوروبية، وسيارات تسد وجه الشمس، وتدوس الماشيين فوق الأرض.
تقدم «القطارات» خدمة جليلة لكل منْ يريد «الانتحار» بسبب الفقر، أو الاكتئاب، أو الملل، أو المرض، أو اليأس، أو عدم العدالة، أو الفوارق الطبقية، التى تنمرت، وتوحشت دون أن يصفه أحد بالكُفر.
ليس مطلوبا منه، غير ركوب واحد من القطارات المتهالكة، بتذكرة ذهاب فقط، وسوف تكون فعلا رحلة بلا عودة. الرحلة اليقينية، الأخيرة، من عالم الشقاء، إلى عالم مجهول. فالمجهول لديه أفضل ألف مرة من العيش فى وطن لا ينتمى إليه، إلا بالرقم القومى.
المجهول، أيا كان، لن يكون أسوأ، من حياة، لا ينقصها إلا الكفن، لتصبح موتا.
ولا ننسى كذلك، الخدمة الجليلة التى يقدمها ركوب القطارات لكل منْ لا يريد الموت، «قطعة واحدة»، معلومة الملامح، مكتملة الأعضاء، بل يريد أن تتناثر، وتضيع أشلاؤه، كما تناثرت وضاعت أحلامه.
ربما يعتقد أن التعرف على جثته، «إهانة» فى هذا الوطن، وهو فعلا على حق. فكيف الوطن الذى ينساه، طوال العمر، وهو «حي»، يريد التعرف عليه، وهو «ميت»؟
حوادث القطارات للشعب المصري، «عِشرية». هى تحب الشعب المصرى حبا جارفا، ولا يتوقف اشتياقها له، والتعبير الجامح عن حبها.
«ومن الحب ما قتل».. هذا أفضل تعبير عن حب القطارات تجاه الشعب المصرى.
ولكنه، حب من طرف واحد. حب محرم.. حب ملعون.. حب آثم.. حب مفزع.. حب إرهابى.. حب المستذئبين مصاصى الدماء.
وماذا يفعل الوطن، لإبادة هذا الحب، الملتف حول العنق، والجسد، مثل رأس أفعي، خبيثة، متربصة، لفتك المحبوب؟
ماذا يفعل الوطن؟ لا شيء .. إلا إصدار قرارات عاجلة، لدفع فلوس فورية للضحايا، والمصابين، يسمونها اسما مهينا «تعويضات».
ماذا يفعل الوطن ؟ لا شيء .. إلا عقد مؤتمرات صحفية عاجلة، تشرح أن مصر تعاقدت مع عدة شركات بالفعل لتطوير، وتحسين، قطاع السكك الحديدية.
ماذا يفعل الوطن؟ لا شيء.. إلا الأمر بفتح تحقيق عاجل، فى أسباب الحادث.
فلوس «عاجلة».. مؤتمرات صحفية «عاجلة».. تحقيقات «عاجلة».
ولا أدري، فيم «العجلة»؟ ما خلاص انفض المولد، ورأس الأفعى أنجزت مهمتها، «كالمعتاد»، على أكمل وجه. والبقاء لله.
ما يجعل الدم يفور حقا أن الوطن يظل يطالب الناس بالولاء والانتماء. أى ناس؟ اللى بياخدوا حمام شمس على شواطئ المنتجعات الخاصة، أم الذين نلم أشلاءهم بفعل القطارات؟
فى سنة 1938 يغنى عبدالوهاب متسائلا: «يا وابور قوللى رايح على فين»، لكننا، فى سنة 2017 نعرف جيدا «الوابور رايح على فين».
>من واحة أشعارى:
الوطن
رغيف ساخن من الحرية
وكأس مثلجة من الفرح
كم نشعر بالجوع
كم نحس بالظمأ
فى هذا الوطن.>







