الجمعة 3 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
السـعدنى من تانى

السـعدنى من تانى


منذ عامين ، وبالضبط يوم أربعة مايو سنة 2010، رحل عنا الكاتب الكبير الأسطورة الساخر «محمود السعدنى» وهو صاحب أشهر وأجمل مصطلح سياسى «حزب الكنبة» الذى بـات مصطـلحا أساسـيا ورئيــسيا مـنذ قـيام ثورة 25 يناير!

لقد اخترع السعدنى - رحمه الله - بعبقرية فذة عشرات المفردات والمصطلحات التى كانت تعبر بصدق شديد عن واقعنا العربى التعيس الذى قال عنهم المفكر العربى الكبير «العرب ظاهرة صوتية»، لكن «السعدنى» ببصيرته النافذة والناقدة كان يطلق عليهم «الحنجورية» وما أكثرهم هذه الأيام فى كل مكان، وكذلك النظرية الخنفشارية.
«السعدنى» كما كان يقول عنه أستاذنا الكبير الشاعر «كامل الشناوى» يخطئ من يظن أن السعدنى سليط اللسان فقط، إنه سليط العقل والذكاء أيضا.
إن عبارة «كامل الشناوى» هى المفتاح لفهم ظاهرة محمود السعدنى فى الحياة والكتابة، لقد كان يتحدث كما يكتب ويكتب كما يتحدث لم يكن يجيد تزويق وتلوين ما يقول سواء فى مقال أو مع شلة أصدقاء فى بيته أو فى نادى الصحفيين!
وعندما تقرأ تجربة «السعدنى» فى سجون عبدالناصر والسادات فلن تجد البكاء والنواح والعويل بل ستقرأ فصولا وصفحات من وطنية رجل هام عشقا بمصر دون انتظار لثمن ما، بل إنه يعترف ببساطة مذهلة «هذه الفترة التى قضيتها فى سجن الواحات وسجن القلعة وسجن الفيوم كانت من أخصب فترات حياتى، تعرفت فيها على تيار سياسى كان له وجود فى الساحة المصرية واكتشفت وسط هذا التيار مجموعة لآلئ كان يمكن أن يكون لها شأن كبير فى مصر لولا اهتمامها بالعمل السياسى وإصرارها على أن تقول كلمتها رغم كل الظروف».
إن بعض ما عانى منه الصحفى «محمود السعدنى» وأدهشه بعد أسابيع من قيام ثورة 23 يوليو 1952 هو ما حدث بالضبط بعد ثورة 25 يناير سنة 2 011 فبعد شهر من قيام ثورة يوليو وجد السعدنى نفسه مفصولا من الجريدة التى يعمل بها ويقول السعدنى:
وهكذا عدت والثورة لم يمر عليها سوى شهر واحد إلى الشارع عاطلا مفلسا ولكن بأمل جديد، أن الأمور لن تلبث طويلا حتى تعود إلى الوضع الطبيعى الذى ينبغى أن تكون عليه!! ولم لا؟! وأنا من جيل الثورة.. هؤلاء الكتاب الكبار تعفنوا تماما وتورطوا فى النظام الملكى حتى أصبحوا جزءا لا يتجزأ من النظام، الصحفى الكبير الذى كان مجده فى الحياة أنه يرافق جلالة الملك فى رحلاته للخارج والذى تلوك الألسنة سيرته على أنه كان يوما ما عشيقا لجلالة الملكة الأم!! والصحفى الكبير الآخر الذى كان يجلس على مائدة الملك ليضحكه حتى يستلقى الملك على قفاه!! والصحفى الكبير الثالث الذى أراد الملك أن يمزح معه فدفعه إلى حوض السباحة وهو فى كامل ملابسه ثم خرج من حمام السباحة يشكر جلالة الملك!!
هؤلاء السادة أصبحوا جميعا بهوات وباشوات وبعضهم يحمل نيشان «محمد على» لابد أن الثورة ستنحيهم عن الطريق لتفسح لجيل العبدلله طريقه فى الصحافة! والأقلام التى سبحت فى بحر النفاق لجلالة الهلفوت الذى يتربع على العرش لابد ستتوارى الآن خزيا عن أعين الشعب!!
وانتبهوا لدلالة كلمات السعدنى التالية:
«ولكن.. ما أغرب الحياة،نفس الأقلام هبت تقاتل من مواقع الثورة وكأنها هى التى صنعت كل شىء وراحت هذه الأقلام تكتب بشراهة عن مجون الملك وجنونه على الشاطئ الآخر من البحر المتوسط.»!!
هل لاحظتم بلاغة ودلالة ما حدث زمان ويحدث الآن وكأن الدنيا لاتتغير، وربما كانت قراءة مؤلفات الأستاذ «السعدنى» ومنها خاصة «الولد الشقى» و«مصر من تانى» و«مسافر بلا متاع» و«حمار من الشرق» و«على باب الله» و«الطريق إلى زمن» وغيرها من المؤلفات العميقة تكشف لك أن مصر الحقيقية المنتجة المبدعة ليست هى مصر التى يتحدثون عنها فى الفضائيات أو يكتبون عنها فى الجرانين أو يغنون لها: بحبك يامصر!!
إن مشكلة مصر الآن وكما كانت أمس هى بالضبط فى نوعية بشر كما قال عنها «السعدنى» شعارات جوفاء وكلمات فارغة من أى مضمون وعبارات مسبوكة، أمثال الحنجورى المتنامى فى اللانهائى المترامى عند الشفق لحظة الفسق المتأجج بفعل أنفاس الشغيلة وعرق العمال من أجل عالم يسوده الرخاء والماء والهواء والجلاء بالدماء، من أجل تأصيل مبادئ وتسديد البنادق فى الخنادق، ثم بعد ذلك يمكن شرب الكابتشينو فى الفنادق.
ولعل الأستاذ «السعدنى» كان رائدا بحق فى ارتياد. مجالات للكتابة كانت غير معروفة أو مطروقة، ومنها مثلا كتابه البديع «ألحان السماء» عن عظماء المقرئين فى مصر، وهو عمل أدبى وفكرى يندر أن يتكرر، وكذلك كتابه «المضحكون»، ودراسته الجادة عن النكتة المصرية وظرفاء مصر من «عبدالله النديم» حتى «كامل الشناوى»، حيث اكتشف أن أغلب هؤلاء الظرفاء قد اشتغلوا بالسياسة، وكانت النكتة سلاحا من أسلحتهم، ويؤكد السعدنى:
واكتشفت أيضا أنهم كانوا زعماء جماهيريين بحق لأنهم دخلوا مزاج الناس من خلال الكلمة الضاحكة واللفتة الذكية والنكتة الحلوة، ولقد قادتنى هذه الدراسة إلى حقيقة باهرة هى أن الذين يتصدون لقيادة الشعب المصرى ينبغى أن يعرفوه حق المعرفة وأن الذى يتصدى لهذه القيادة ينبغى أن يخاطب الشعب المصرى باللغة التى يجيد فهمها، ولا يمكن قيادة شعب مثل شعبنا بالكلمات المرصوصة والنصوص المحفوظة.
صدقت يا أستاذ «سعدنى»، وكلما قرأت كل هذه السخافات التى يدعى أصحابها أنها كتابات «ساخرة» أتذكرك بكل الخير وأفتقد كاتبا ساخرا ساحرا عن أصالة وموهبة!