
رشاد كامل
مصطفى أمين يكتب : حياتى فى روزاليوسف!
مائة عام تمر على ميلاد (مصطفى وعلى أمين) - الظاهرة الصحفية والسياسية التى يندر أن تتكرر فى 21 فبراير سنة .1914
ولا يمكن الكتابة عن المشوار المهنى والسياسى للتوءم (مصطفى وعلى أمين) بغير الكتابة عن سنواتهما فى روزاليوسف، وبداية المشوار الصحفى الذى امتد وطال بعد ذلك حتى أسسا (أخبار اليوم) فى 11 نوفمبر سنة 1944 - أى بعد حوالى عشر سنوات من تركهما روزاليوسف للعمل مع الأستاذ الكبير (محمد التابعى) وتأسيسه لمجلة آخر ساعة فى يوليو سنة .1934 روزاليوسف صانعة النجوم ومكتشفة المواهب رصدت فى ذكرياتها بدايات (مصطفى وعلى أمين) فى مجلتها فكتبت تقول:
ككل مجلة ناجحة أيضا بدأت روزاليوسف تجتذب عددا كبيرا من الشبان والناشئين الذين يحلمون بمستقبل لامع فى عالم الصحافة ويريدون أن يبدأ حلمهم فى (روزاليوسف).
والصحف عادة تستقبل سيلا لا ينقطع من هؤلاء الشباب.
وكنت أفرح حين أرى هؤلاء الشباب يأتون إلى المجلة، وأرى هذه الآمال تبرق فى عيونهم، ولى فى هؤلاء الشباب نظرة لا تخطئ، أتبين منها على الفور من لديه الاستعداد للنجاح ومن هو غير أهل له.
وقد لفت نظرى من المترددين شاب طويل ضخم بشكل ملفت، عيناه صغيرتان لامعتان تتحركان بسرعة عجيبة، كأنهما تبحثان دائما عن شىء صالح للالتقاط، وكان هذا الشاب يدخل المجلة متلفتا هنا وهناك وهو يسرع الخطى إلى حجرة الأستاذ (التابعى)، يدفع إليه بعض الأخبار ثم يمضى، وكان يرانى فى بعض الأحيان وهو خارج فينكس رأسه ولا يحيينى، ولمحت فيه بوادر هذا الاستعداد، فسألته وهو خارج فى إحدى المرات : ما اسمه فقال : (مصطفى أمين)، ثم عرفت أنه تلميذ فى المدارس يهرب من مدرسته ليتصيد الأخبار ويحملها إلى المجلة، ويملك سيارة صغيرة جدا، عتيقة جدا، يستعملها فى الجرى وراء الأخبار، و(مصطفى) مخبر بالسليقة، له العين اللماحة والأنف الحساس والإصرار على هذا الوصول، وهو منذ اللحظة الأولى يحلم بامتلاك دار صحفية كبيرة ويعمل لذلك !
وكان مألوفا منه أن يسافر بسيارته سفرا بعيدا لكى يحصل على خبر ويعود فى نفس اليوم، أذكر أننى سألته يوما إلى أين هو ذاهب ؟! فقال : إنه ذاهب إلى الإسكندرية لأن سيدة تنتظره فى ميدان المنشية لتعطيه خبرا !!
وكان أول باب ثابت حرره مصطفى بابا عن الطلبة بعنوان (لا يا شيخ) وقد عارض الأستاذ (التابعى) فيه أول الأمر معارضة شديدة حتى أقنعته به، وكان سرور مصطفى بهذا الباب عظيما، و(على أمين) هو النصف الثانى لمصطفى الذى لا ينفصل عنه فلم يكد (مصطفى) يشق طريقه قليلا ويصبح له مكان فى المجلة حتى أشرك معه (عليا)!
ثم تذكر السيدة (روزاليوسف) أسماء الشباب الذين عرفوا طريقهم إلى المجلة ومنهم (جلال الدين الحمامصى)، و(كامل الشناوى) و(يوسف حلمى) والدكتور (سعيد عبده) والرسام (صاروخان) ثم تضيف روزاليوسف قائلة :
(هؤلاء الشباب الذين تخرجوا جميعا من روزاليوسف كانوا يحلمون بالنجاح ويعملون له، وكان (مصطفى أمين) بالذات أكثر نشاطا وأكثرهم إصرارا على النجاح، وكان تفوقه عليهم ظاهرا، وقد قضوا سنوات طويلة يعملون بغير أجر. فـ (مصطفى) مثلا ظل يعمل فى روزاليوسف ثلاث سنوات قبل أن يصبح له مرتب، لم يأخذ خلالها إلا عشرة جنيهات، كانت لها قصة طريفة، إذ اشتركت معه فى شراء عشر ورقات يانصيب المواساة ولم يحدث فى حياتى أن كسبت شيئا من يانصيب أو مراهنة، ولكن إحدى هذه الورقات كسبت عشرة جنيهات، فقررت أن أتركها كلها له - ر غم معارضته الشديدة - مكافأة على نشاطه، أنفقها فيما أذكر على إصلاح سيارته العتيقة !!
انتهت شهادة (روزالويسف) عن الصحفى الشاب (مصطفى أمين) !! وتبقى شهادته عليها وكما سجلها بقلمه أكثر من مرة !
وصف (مصطفى أمين) السيدة روزاليوسف بأنها امرأة كانت لها شجاعة ألف رجل وقد بدأت حياتى الصحفية معها وشهدت معاركها مع الحكومات وصراعها مع الدول ومقاومتها للطغاة والمستبدين وتحديها للظالمين المتجبرين، كانت دائمة قلعة للحرية لم تقع فى يد الغزاة والفاتحين!
كانت الحياة فى مجلة (روزاليوسف) مليئة بالأحداث، فى كل يوم أزمة، فى كل ساعة تحقيق فى النيابة، وكانت حياة الصحف حياة شاقة، اضطهاد وسجن وتشرد، صحف تغلق وتصادر ولم تكن فى مجلة روزاليوسف خزانة تصرف المرتبات بل كانت خزانة الجريدة هى محفظة التابعى أو حقيبة السيدة روزاليوسف، ولم يكن المحررون يتقاضون مرتباتهم أول الشهر، بل كانوا يتقاضون المرتب على أقساط بعض الأقساط يرتفع إلى جنيه واحد، وبعضها يهبط إلى نصف ريال!
وكانت مالية الصحف مضطربة لأن (صدقى باشا) - رئيس الحكومة - كان ينتظر حتى تتم الجريدة المعارضة طبع نسخ العدد ثم يصادرها، فتخسر الجريدة ثم الورق وأجرة الطبع ويرفض أصحاب الإعلانات أن يسددوا ثمن إعلانات لم يرها الناس !!
وكانت مجلة روزاليوسف تصادف فى شهور أزمات طاحنة، وكانت السيدة روزاليوسف تحرص أن تدفع لكل محرر حقه، وكثيرا ما كانت تحرم نفسها من الضروريات لتسدد الالتزامات المطلوبة منها وفى شهور أخرى تعيش مجلة روزاليوسف فى رغد ورخاء ويتصادف ألا يصادر منها عدد ويتضاعف الإيراد وتنتظم مرتبات المحررين وكانت السيدة روزاليوسف مقتصدة مدبرة، استطاعت فى هذه الظروف الدقيقة أن تجمع مالا يكفى لشراء مطبعة صغيرة بالتقسيط.
ومضت روزاليوسف تتحدى العقبات وتعبر الأزمات ويزيد كل يوم توزيعها، كان من أبرز ما فى روزاليوسف طموحها، لأنها لا تؤمن بالممكن وإنما تحلم بالمستحيل، ولم يكن يكفيها أن مجلتها أصبحت فى مقدمة المجلات الفنية فى مصر بل أرادت أن تكون أولى المجلات السياسية فيها، وكانت هى و(التابعى) يؤلفان فريقا مؤتلفا هى تحلم وهو يكتب.
وأصبحت مجلة روزاليوسف مجلة وفدية متطرفة، وفجأة تولى (محمد محمود باشا) الحكم وبدأ عهده بمصادرة روزاليوسف، ودوى النبأ كالرعد فى مصر، فقد كانت أول مجلة تصادر فى عهد الدستور، وكتبت الصحف عن المصادرة، وخطب (النحاس باشا) رئيس الوفد محتجا على مصادرة (روزاليوسف)، وأطلق كُتاب الحكومة على الوفد اسم (حزب روزاليوسف) وخطب النحاس وقال : نعم نحن حزب (روزاليوسف)
وكانت المصادرة نعمة وبركة على المجلة فتضاعف توزيعها وزاد انتشارها، وأصبحت لأول مرة المجلة الأولى فى مصر، وصمدت روزاليوسف للتهديد والوعيد والتعطيل والمصادرة والتنكيل، وفى كل يوم تقوى روزاليوسف وتضعف الصحف والمجلات التى اختارت السلامة ولا تخرج من معركة إلا لتدخل معركة، ولا تنجو من أزمة إلا وتقع فى أزمة أشد وأخطر.
ويضيف مصطفى أمين قائلا : أصبحت حياتى كلها فى مجلة روزاليوسف شارع الأمير (قدار) المتفرع من شارع كوبرى قصر النيل يذهب إلى هناك فى الصباح قبل أن يذهب إلى الجامعة الأمريكية، ثم يعود ويذهب إلى روزاليوسف فى فترة الغداء، ثم يعود إلى الجامعة ويبقى بها حتى الساعة الرابعة بعد الظهر، ثم يعود إلى مجلة روزاليوسف فى المساء، ويخرج لمقابلة الساسة والوزراء ويحصل على الأحاديث ويلتقط الأخبار !
وقد تعلم فى تلك الأيام متاعب أن يكون الصحفى محررا فى جريدة حزبية، الحزب لا يدفع لها مليماً واحدا ولا يعوضها إذا صودرت ولا يقف بجوارها إذا أغلقت ولا يكلف محاميه بالمرافعة عنها إذا حوكمت ولكن الحزب يتدخل فى كل كلمة تنشر ويدس أنفه فى كل خبر يكتب! وكانت السيدة روزاليوسف تشكو أن الأستاذ (مكرم عبيد) سكرتير الوفد يتصل بالمجلة كل أسبوع ويطلب منها أن تكتب أن وزارة إسماعيل صدقى ستسقط فى الأسبوع القادم، ويجىء الأسبوع القادم، والشهر القادم ولا تسقط الوزارة، وكانت هذه الأنباء مقصوداً بها ألا يياس الشعب ويستمر فى المقاومة، ولكنها كانت تضعف ثقة الرأى العام بمجلة روزاليوسف!
وعندما دخل (محمد التابعى) السجن بدأت السيدة روزاليوسف تدير لأول مرة مجلة روزاليوسف، وكان الفرق كبيراً بين التابعى رئيس التحرير، وروزاليوسف رئيسة التحرير، روزاليوسف تحب الحرب والتابعى يحب المناورة، روزاليوسف تقاتل لتقتل والتابعى يقاتل ليناوش، وإذا اندفع تراجع، وروزاليوسف إذا اندفعت صمدت وفضلت أن تسقط شهيدة على أن تتراجع خطورة واحدة !