الطهر الزائف
كيف ينتج تنظيم الإخوان ازدواجيته.. ثم يخفيها وينكرها؟
حسام الغمرى
تبدأ الجماعات السرية عملها بوعدٍ أخلاقى صارم، وبخطاب طهورى يُغرى الأتباع بالشعور بالتفوّق والاصطفاء، ويمنحهم يقينًا جاهزًا يُعفيهم من عناء التفكير والبحث والتأمل والسؤال.
فى هذه المرحلة، لا يُطلب من الفرد أن يُعمِل عقله، بل أن يُسلِّمه لمسؤوله،ولا أن يُراجع ما حوله، بل أن يثق كالدمية.
وهنا تحديدًا تبدأ البذرة الأولى للخلل النفسى.
علم النفس حذّر مبكرًا من هذا المسار، فقد رأى إريك فروم (Erich Fromm) -عالم النفس الاجتماعى والفيلسوف الألمانى، وأحد أبرز مفكرى القرن العشرين الذين ربطوا بين علم النفس وبنية المجتمع والسلطة والدين المؤدلج- أن الإنسان حين يعجز عن تحمّل عبء الاختيار، يبحث عمّن يفكّر عنه ويختار بدلًا منه، مقابل راحة نفسية زائفة اسمها «الانتماء للتنظيم».
عند هذه النقطة، لا تعود الأخلاق فعلًا نابعًا من الضمير الفردى، بل تتحول إلى تعليمات تنظيمية قابلة للتأويل الأخلاقى وفق مصلحة الجماعة فقط ببرجماتية فجة بغيضة.
فى هذه اللحظة يتكوّن الخلل النفسى الأول، حين يُطلب من الإنسان أن يكون نقيًا فى العلن، مطيعًا فى الجوهر، وصامتًا كالميت أمام سلطة المرشد أو القيادة الإخوانية،عندها يبدأ الكبت فى أداء دوره الخفى.
والكبت، كما يوضح علم النفس، لا يُلغى الدوافع الشهوانية ولا يُهذّبها، بل يدفعها إلى الظل، حيث تنمو بعيدًا عن الاعتراف والمساءلة، لتعود لاحقًا فى صور أكثر اضطرابًا وقسوة.
وهكذا، لا تصنع الجماعة الفضيلة بقدر ما تُراكم تناقضًا داخليًا بين خطابٍ مثالى ظاهرى، وسلوكٍ باطنى قد يبلغ حدّ الشذوذ والتطرّف الأخلاقى.
ومن هنا، لا يصبح السؤال، لماذا ينحرف الأفراد داخل هذه الجماعات؟
بل السؤال الأعمق والأخطر: كيف تصنع البنية الإخوانية نفسها هذا الخلل، ثم تُنكره، ثم تحميه باسم الدعوة؟
يقدّم تاريخ جماعة الإخوان نموذجًا تأسيسيًا مبكرًا لهذا المنهج لا يجوز القفز فوقه، فقضية عبد الحكيم عابدين، صهر حسن البنا، لم تكن مجرد واقعة تحرّش داخل تنظيم ناشئ، بل كانت اللحظة الكاشفة لطريقة تفكير الجماعة فى أزماتها الأخلاقية.
لم تكن الخطورة فى الاتهام ذاته، بل فى الاستجابة التنظيمية، صمتٌ مقصود، غطاءٌ معنوى، وتقديم «المصلحة الإخوانية» على حقوق النساء والضحايا.
منذ تلك اللحظة، استقرّ تقليد إخوانى غير مكتوب مفاده أن الأزمة الأخلاقية لا تُحلّ، بل تُدار، وأن الخطأ يُعاد تعريفه إذا كان صاحبه داخل الدائرة الآمنة فى الجماعة.
لم تكن حادثة عابدين استثناءً، بل قاعدة تأسيسية لطريقة عمل توارثها التنظيم عبر الأجيال.
ويزداد هذا المنهج خطورة حين يدخل الإعلام الإخوانى بوصفه جهاز الجماعة الأكثر أهمية.
فالإعلام داخل التنظيمات المؤدلجة لا يعمل كمرآة نقدية، بل كآلة لصناعة صورة ذهنية مثالية، وإدارة ولاءات، وتوزيع امتيازات.
هنا يحذّر فيليب زيمباردو (Philip Zimbardo) -عالم النفس الاجتماعى الأمريكى وأستاذ جامعة ستانفورد، الذى كرّس أبحاثه لدراسة أثر السلطة ذات الطابع الثيوقراطى على السلوك الإنسانى- من أن السلطة حين تُمنح داخل إطار مقدّس بلا مساءلة، لا تُغيّر السلوك فحسب، بل تُعيد تعريفه أخلاقيًا لدى صاحبها.
فالعضو العادى داخل الإخوان -بحسب زيمباردو- قد يرتكب سلوكيات منحرفة،لا بسبب طبيعته، بل بسبب الدور الذى يوضع فيه داخل التنظيم والبيئة الإخوانية التى تحميه وتديره.
وعندما يتزاوج هذا النفوذ الإعلامى مع بيئة تنظيمية تُقدّس الطاعة العمياء وتكره الاعتراف بالخطأ، تتكوّن داخل الجماعة «سوق داخلية» لها عملتها الخاصة، القرب من القيادات، نيل رضا مكتب الإرشاد أو وسيط التمويل، وامتلاك ما يشبه «مفاتيح المرور» إلى الدعم والفرص والسفر والإقامة، بل وأحيانًا الجنسيات الأجنبية.
فى مثل هذه الأسواق الرخيصة، تتحول القيم والأخلاق إلى قضية هامشية، ويتحوّل «الاحتواء» من قيمة إنسانية إلى أسلوب إدارة فضيحة أخلاقية، ثم طلب ولاء إضافى، ثم فرض صمت على الانحرافات الأخلاقية كصمت القبور.
ومن هنا تظهر -فى شهادات مؤكدة خرجت من داخل دوائر الجماعة نفسها- حكايات عن استغلالٍ عاطفى شاذ، أو ابتزازٍ مالى، أو توظيفٍ منحرف للثقة.
والفاضح أن كثيرًا من هذه التحذيرات لم يأتِ من خصوم الجماعة، بل من داخل بيئتها، وكأن الداخل الإخوانى نفسه بدأ يفهم أن شيئًا يتآكل تحت شعار الطهر الزائف والجماعة الربانية.
وعندما تنفجر فضيحة أخلاقية داخل الجهاز الإعلامى الإخوانى، لا تسلك الجماعة طريق الاعتراف والمساءلة، لأنها تُدرك أن إعلامها ليس فردًا يمكن التضحية به، بل أداة نفوذ مرتبطة بالسمعة والتمويل والتحالفات مع الأجهزة المعادية والخصوم.
وهنا تعمل آليات التستّر التنظيمى كما تعمل فى كل التنظيمات السرية، لجان داخلية بدل مساءلة شفافة، تدوير للأزمة داخل الغرف والجروبات، واستخدام لغة مطاطة من نوع «سوء فهم»، «فتنة»، «تشويه»، و«ابتلاء»، حفاظًا على الصورة الذهنية الكاذبة لا على الأخلاق والفضيلة.
هذا النمط لا يصنع فسادًا إداريًا أو ماليًا فقط،بل يُنتج فسادًا نفسيًا عميقًا، فالفرد الإخوانى حين يرى أن النفوذ داخل الجماعة يحمى صاحبه، وأن القداسة المفترضة تُعطّل المساءلة، يتعلّم درسًا خطيرًا: ليست الفضيلة معيارًا، بل الولاء لقيادات الجماعة!
عند هذه اللحظة تتحول الأخلاق من ضمير حيّ إلى شارة عضوية عاملة بالجماعة، وتتحول «الدعوة» إلى ستار بل إلى قناع !!
الهشاشة النفسية والقابلية للانصهار
هنا تبرز حقيقة نفسية لا يجوز القفز فوقها، التنظيمات السرّية لا تُنتج الخلل من العدم، لأنها تجذب فى الأساس شخصيات لديها قابلية نفسية للانصهار والطاعة العمياء والاحتماء بالتنظيم لا نتحدث عن «مرضٍ نفسى» مؤكد بالمعنى الطبى، بل عن هشاشة سابقة، حرمان عاطفى، خوف من الفقد، أو حاجة عميقة للاحتواء.
هذه القابلية -كما يوضح علم النفس- تجد فى التنظيم إجابة جاهزة وهوية تبدو صلبة تُخفّف القلق الوجودى ظاهريًا لدى المتطرف، لكنها تفعل ذلك بثمن باهظ، تعليق الضمير الفردى وإحلال ضميرٍ تنظيمى خبيث مكانه.
وحين يتعرّض هذا البناء الهشّ لاحقًا لصدمة سقوط الرموز أو انكشاف الازدواجية الأخلاقية، لا يملك الفرد أدوات المراجعة الصحية، لأن شخصيته صيغت على الطاعة العمياء لا على السؤال.
هكذا يُغذّى التنظيم الخلل النفسى الذى اجتذب صاحبه ابتداءً، ثم يتنصّل منه حين ينفجر مريضًا نفسيًا وربما عقليًا.
هكذا جاءت لحظة الانكشاف فى الخارج لتفضح هشاشة الأقنعة، اغتراب طويل، قطيعة أسرية لدى كثيرين، انهيار سردية «التمكين»، وصدمات معيشية قاسية.
فى هذا المناخ، تضعف الرقابة التنظيمية، وتظهر التناقضات بوضوح أكبر.
ولا تقف النهاية عند حدود السلوك، حين يكتشف الشاب الإخوانى أن الخطاب الذى عاش عليه سنوات كان مجرد واجهة، وأن «الطهر الزائف» لم يمنع التناقض الكارثى، وأن «الأخوة» لا تمنع الاستغلال الجنسى، عندها تتحول الصدمة إلى أزمة وجودية.
يشير علماء الاجتماع إلى أن اختزال الدين فى تنظيم يجعل سقوط التنظيم صدمةً إيمانية، فالمرء لا يغادر جماعة فحسب، بل يشعر كأنه فقد معانى كان يربطها بالإيمان ذاته.
ولهذا ظهرت شهادات -ضمن أعمال توثيقية منشورة- تتحدث عن انتقال بعض شباب الإخوان فى الخارج من التدين التنظيمى الصارم إلى الشك، ثم إلى القطيعة التامة مع الدين -الإلحاد-، بوصفها رد فعل على انهيار النموذج الأخلاقى الذى وُعِدوا به من قيادات الجماعة ومسؤولى الأسر الإخوانية.
الطريق الوحيد لكسر هذه الدائرة هو تفكيك المنهج الإخوانى الخبيث وتطهير فكرة الإيمان من زيف جماعة الإخوان.







