الأحد 28 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
البطل الذى جعل من العلم سلاحــًا

البطل الذى جعل من العلم سلاحــًا

فى يوم 28 ديسمبر، تحل علينا ذكرَى وفاة عالم مصرى جليل، وضع عِلمَه فى خدمة وطنه، دون أن ينتظر مقابلاً أو سعَى إلى الشهرة والأضواء؛ بل سخر عِلمه وعمله لحل المشكلات، دون الاكتفاء بتوصيفها، ولهذا ظل بعيدًا عن الأضواء لإيمانه بأهمية قربه من العِلم والمعرفة وبناء العقل.. كرَّس حياته للبحث العلمى لتغيير واقع بلده العزيز مصر.



 السطور السابقة ليست سوى جزء يسير من حياة الدكتور محمود يوسف سعادة، الذى من المؤكد أن هناك أجيالاً عديدة من شبابنا لا تعلم عنه شيئًا، ولا عن الدور العظيم الذى قدّمه لوطنه، وبالطبع يُسأل فى هذا مَن يضع المناهج الدراسية لطلابنا، ووسائل إعلامنا التى تبحث عن نجوم الفن وكرة القدم (وطلاق علاّن وزواج ترتان)؛ عِلمًا بأن عالمنا الراحل خاض حرب أكتوبر المجيدة (صحيح) بعيدًا عن صوت المَدافع، إلا أنه كان شريكًا أصيلاً فى النصر.. الذى كاد أن يلغى، بعد أن أخبر قادة قوات الدفاع الجوى الرئيس السادات أن هناك مشكلة كبيرة تهدد قيام الحرب من الأساس، تنحصر فى عدم توافر الوقود الخاص بصواريخ الدفاع الجوى، والتى يقع عليها العاتق الأكبر فى حماية سماء مصر من الطيران الإسرائيلى خلال المعركة، لانتهاء صلاحيته.. عقب طرده للخبراء السوفييت فى سنة 1972؛ لشعوره بأن الاتحاد السوفيتى كان يعيق مصر سياسيًا وعسكريًا؛ خصوصًا فيما يخص تزويدها بالأسلحة المتطورة (مثل طائرات ميج-23 والصواريخ المتقدمة) التى تحتاجها لاستعادة سيناء، بسبب ضغوط أمريكية، مما يعيق قدرة مصر على استعادة أرضها، بخلاف رغبته فى التحول غربًا نحو الولايات المتحدة كحليف جديد، معتبرًا وجود الخبراء عائقًا أمام هذه الخطوة الاستراتيجية الكبرى، مما أدى لقرار طرد نحو 17 ألف خبير بهدف تصفية علاقة مصر بالشرق السوفيتى تمهيدًا لمرحلة جديدة من الانفتاح السياسى والعسكرى.. قرار الطرد جعل القيادة السوفيتية آنذاك تتوقف عن إمداد مصر بقطع غيار الأسلحة والوقود اللازم لصواريخ سام.. وهنا كانت المشكلة الكبرى فى الدفاع الجوى؛ لأن حائط الصواريخ بالكامل صناعة سوفيتية ووقودها له فترة صلاحية محددة، ومنع توريده يعنى عدم وجود حائط صواريخ، وعدم وجود دفاع جوى؛ يؤدى بكل بساطة إلى إلغاء فكرة الحرب من الأساس، وعليه تحركت أجهزة الدولة سرًا فى محاولة منها لحل مشكلة وقود الصواريخ؛ حيث عقدت اجتماعات مكثفة شارك فيها كافة الخبراء، وخلال تلك الاجتماعات طلب أحد المشاركين الاستعانة بأستاذ فى المركز القومى للبحوث، يبلغ من العمر 35 عامًا، عُرف عنه الذكاء الحاد والخبرة الكبيرة فى هذا التخصص الدقيق، وخلال دقائق انتقلت سيارة خاصة لمنزل العالم المصرى، محمود يوسف سعادة، وطلب منه قائدها التوجه معه لمقابلة مسئولين كبار، وفور وصوله عرضوا عليه تفاصيل المشكلة التى تؤرق الرئيس الراحل وقادة الجيش، وبفضل عالمنا المصرى وبمشاركة فعالة مع المسئولين فى مَعامل الجيش، تم التوصل إلى الحل السحرى الذى أبهر السادات، وقرّر بَعده اتخاذ قرار الحرب، وتحديد موعدها بدقة، بَعد إبلاغه أن المشكلة انتهت، ويمكن توافر الوقود اللازم خلال أيام، والتى تلخصت فى تكوين الوقود من العناصر المستخدمة فيه، والتى لم تنتهِ صلاحيتها بَعد، والاستعانة بالمواد الخام المتوافر مثلها فى مصر لإعادة تصنيعه من جديد، بعد تمكنه من فك شفرة مكونات الوقود إلى عوامله الأساسية وأعاد تكوينه، وتم إجراء تجربة شحن صاروخ به وإطلاقه، ونجحت التجربة تمامًا، وفرح الرئيس السادات وقادة الجيش كثيرًا بذلك.

هذا هو ملخص إسهام بطلنا فى حرب أكتوبر المجيدة، والتى عندما يحل موعد ذكراها السنوى تتجه الأذهان تلقائيًا نحو الجنود البواسل والقيادات العسكرية وخططهم الحربية، لكن خلف خطوط الجبهة كان هناك جندى من نوع مختلف، عالم مصرى وقف على حافة اليأس التام؛ صانعًا الأمل من رماد المستحيل، اسمه الدكتور «محمود يوسف سعادة»، أحد الجنود المجهولين، الذين كتبوا سطرًا مصيريًا فى تاريخ الوطن.

ومثلما عمل عالمنا الكبير فى صمت داخل معمله، تاركًا بصمة فى تاريخ أمّته وفى عقول طلابه وفى أوراق أبحاثه، رحل أيضًا يوم 28 ديسمبر من عام 2011 فى صمت؛ حيث شهد جنازته عدد من العسكريين والعلماء، الذين كانوا على عِلم تام بدوره الكبير فى حرب أكتوبر والنصر العظيم الذى تحقق لمصر، الذى لم يفكر ولو واحد من واضعى المناهج الدراسية أن يكلف خاطره فى تسليط الضوء عليه أو حتى على غيره من علماء مصر، وهم بالمناسبة كثر.. لأننا غرقنا وبطيب خاطر فى زمن أصبحت فيه القيمة تقاس بالظهور الإعلامى، لا بعمق الإنجاز.