احمد باشا
"عيد الميلاد النووي".. حين قدّم الرئيس هديته إلى الوطن
في التاسع عشر من نوفمبر، اليوم الذي اعتاد المصريون أن يقدموا فيه التهاني لرئيسهم بميلاده، قلب عبد الفتاح السيسي المعادلة؛ فبدلاً من أن يتلقى هدية، اختار أن يُقدم هو للوطن هديته الأغلى. خطوة تاريخية جديدة على طريق دخول مصر عصر الطاقة النووية السلمية، بإتمام تركيب وعاء ضغط المفاعل للوحدة الأولى بمحطة الضبعة. لحظة بدت كأنها تُكتب بحبر الإرادة لا بالحروف، وتسجل في ذاكرة دولة اختارت أن تبني مستقبلها بأيد من نور ومعرفة، لا بخيال سياسي عابر.
كان المشهد، الذي شارك فيه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عبر تقنية الفيديو، أقرب إلى استدعاء رمزيتين ؛ ذاكرة السد العالي التي جمعت القاهرة وموسكو قبل ستة عقود، ورؤية جديدة تتشكل اليوم فوق رمال الضبعة، حيث ينهض المشروع النووي الأكبر في تاريخ مصر، معلنًا الدخول الفعلي إلى عصر تنويع مصادر الطاقة، واستعادة الطموح العلمي الذي ظل محبوسا بين دفتي الحلم منذ منتصف القرن الماضي.
غير أن رمزية الحدث لم تقتصر على التقنية ولا على السياسة وحدهما، بل امتدت إلى ما هو أبعد.إلى فلسفة حكم يقوم على العطاء قبل الاحتفال، وعلى تحويل ذكرى الميلاد إلى مناسبة وطنية تتقدم فيها الدولة خطوة على درب المستقبل. إنها، ببساطة، هدية رئيس أحب بلده حتى تزامنت المناسبة الشخصية مع الحدث القومي.
في كلمته خلال الفعالية، قدّم الرئيس رؤية شديدة الوضوح لطبيعة هذا المشروع ،ليس مجرد محطة لإنتاج الكهرباء، بل شهادة على أن مصر تمضي بإرادة ثابتة نحو مستقبل مستدام، بعيدا عن تقلبات أسواق الوقود الأحفوري وأزمات الطاقة التي تضرب العالم. فمن قلب الاضطراب الدولي، تبرز حكمة القرار المصري بإحياء البرنامج النووي السلمي بوصفه خيارًا استراتيجيًا، يعزز أمن الطاقة، ويرسخ مكانة مصر كمركز إقليمي للطاقة، ويضعها على خريطة الدول الرائدة في الاستخدامات السلمية للتكنولوجيا النووية.
أما بوتين، فقد قرأ الحدث من زاوية أخرى لا تقل أهمية. استمرار الشراكة المصرية–الروسية في واحدة من أكبر المشروعات المشتركة منذ عهد السد العالي، في وقت تعيد فيه الجغرافيا السياسية ترتيب موازين القوى. فمصر، بهذا التعاون، ترسل رسالة واضحة ؛ علاقاتها الخارجية تتأسس على شبكة واسعة من الشراكات المتنوعة، لا على ارتهان لمحور دون آخر. إنها سياسة توازن نادرة في عالم تتجاذبه الضغوط، لكنها سياسة تمنح القرار المصري حرية المناورة واستقلالية الإرادة، وتُبقي للدولة مجالاً رحبًا للتحرك بين الشرق والغرب دون أن تفقد موقعها أو ثوابتها.
فى عمق هذا “الزواج النووي” بين القاهرة وموسكو، تكمن قيمة أخرى لا تقل وزنا .بناء الإنسان قبل الخرسانة. فالمشروع لا يستورد التكنولوجيا فقط، بل ينقل المعرفة، ويفتح أبواب تدريب وتأهيل للكوادر المصرية الشابة، ويخلق صناعة جديدة تنمو حوله، من الهندسة الثقيلة إلى التطبيقات الطبية والزراعية للطاقة النووية. إنه استثمار طويل الأمد في العقل المصري، وفي جيل سيحمل شعلة العلم، لا محض إضافة رقمية إلى قدرات إنتاج الطاقة.
ومع الإعلان عن جاهزية تركيب وعاء الضغط للمفاعل الأول، بدا واضحًا أن المشروع يسير بوتيرة أسرع من الجدول الزمني، وهو ما أشار إليه بوتين صراحة، وما يعكسه الإشراف المباشر للرئيس السيسي، الذي يرى في المشروع أحد أعمدة بناء الجمهورية الجديدة، المتمسكة بحقها في التنمية المستدامة، والماضية في فك ارتباطها عن أنماط الاستهلاك القديمة، لتعبر نحو دروب المستقبل بثقة وعلم ومعرفة.
لقد كان التاسع عشر من نوفمبر هذا العام، إذن، يومًا يتجاوز رمزية الميلاد ليحمل معنى آخر. ميلاد مرحلة جديدة من تاريخ الطاقة المصرية، وولادة حقبة يُعاد فيها توطين التكنولوجيا الثقيلة، ويُصاغ فيها موقع مصر في الإقليم بمعايير مختلفة.
يوم تجلت فيه صورة دولة تعرف أين تقف وإلى أين تتجه . دولة لا تنتظر أن تُمنح الهدايا، بل تبادر هي إلى منحها لشعبها.
وحدها الدول التي تحترم ذاتها تفعل ذلك.
وحدهم القادة الذين يوقنون أن قيمة الحكم تُقاس بما يُترك للوطن، لا بما يُطلب منه، يحوّلون لحظاتهم الخاصة إلى مناسبات عامة تُكتب في سجل الأمة.
ذلك ما فعله عبد الفتاح السيسي في عيد ميلاده.
وذلك ما فعلته مصر، مرة أخرى، وهي تخطو بثبات نحو مستقبل طاقة آمن، نظيف، ومستدام؛ مستقبل تبدأ فصوله من قلب مفاعل نووي على شاطئ الضبعة، وتمتد آثاره إلى أجيال لم تولد بعد.











