الأحد 16 يونيو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

الجسـد والحـب حفايا وأسرار

الجسـد والحـب حفايا وأسرار
الجسـد والحـب حفايا وأسرار


 
فى وقت كل المصريين يبحثون فيه عن مصر الجميلة، كان مهما أن نبحث داخلنا أولا عن قيمة الجمال!
 
لا تصدق مرآة الآخرين.. فربما أنت الأجمل والأروع فى مرآتك
 
ربما تبدو فى ظاهرك.. الأروع.. والأجمل.. ربما تسكن أفخم القصور.. وتشغل أرفع المناصب.. لكنك قد تخفى فى داخلك.. الأتفه.. والأسخف.. والأبشع.. قد ينبعث من داخلك الظلام الحالك.. مثلما ينبثق العفن من أعماق المستنقع الراكد.
 
وقد تبدو فى ظاهرك.. الأدنى.. والأفقر.. لكنك قد تخفى فى داخلك.. الأصدق.. والأعذب.. قد ينبعث من داخلك النور.. مثلما تنبثق الحياة من أعماق البذور.. لتطفى على كل الزهور.. أجمل الألوان.. وأرق العطور.
 
وحين نتساءل لماذا توحش القبح وتغلغل.. فى كل شىء حولنا.. فى تفاصيل البيوت المتهالكة.. وتلال القمامة المترامية.. ومذابح الأشجار.. وأغانى الخيار الخيار.. وشباب يعبد الاستهلاك.. وفتيات متشحات بالسواد.. ووجوه عابسة.. وأخرى شاردة.. ندرك أن جحيم الظاهر فى الواقع.. هو مرآة صادقة لخراب الباطن.. المتمثل فى خواء العقول.. وفساد الضمائر.. وتصدع النفوس.. إنها حياة.. لا حياة فيها.
 
إن غياب الإحساس بمعنى «الجمال» الحقيقى فى حياتنا.. هو إغلاق باب من أبواب المعرفة الإنسانية.. لأن المعرفة البشرية لا تدخل إلينا من باب العقل وحده.. إنما تتسرب إلينا طوال الوقت من كل مسام جلدنا وذهننا.. وروحنا ووعينا الظاهر والباطن.. فمن كان يتوق حقا إلى المعرفة الكاملة.. والحقيقة العظمى.. فليفتح لها كل الأبواب والنوافذ نقدم لكم ثلاثة ملفات متصلة عن الجمال على ثلاثة أعداد متتالية.
«الجمال» عالم بلا حدود. من المشاعر والخيال والإبداع.. لكن معناه المعتاد لدى الناس وهو كل ما يسر العين أو يطرب الأذن.. ليس هو موضوع «عالم الجمال».. الذى ظل شريدا بلا مأوى.. فى طريق طويل محفوف بالمخاطر.. إلى أن بادرت جامعة باريس فى تخصيص كرسى الأستاذية له.. كفرع من فروع الفلسفة.
 
وفى رحلة بحثى عن «الجمال» صادفت شخصية نادرة هى «امرأة» جاوزت مرحلة التوسل بسحر وجاذبية الأنوثة - رغم احتفاظها بكل مقوماتها - إلى مرحلة استيعاب الإنسانية الكاملة.. التى تشارك الرجل الفكر والعمل والإحساس.. ومواجهة ألغاز الكون وتعقيدات الحياة.. هى «د. وفاء إبراهيم» أستاذة «علم الجمال» بكلية البنات - جامعة عين شمس وحاورتها:
 
∎ فى تصورك هل الجمال والفن وجهان لعملة واحدة؟
 
- الجمال موجود فى كل شىء.. أما الفن سواء شعرا أو قصة أو لوحة أو موسيقى أو تمثيلا أو رقصا.. فهو إبداع إنسانى، يخلد هذا الجمال، ويجعله مستمرا ومتجددا، فنحن مازلنا حتى الآن نحب رؤية التماثيل الفرعونية. ونستمتع بقراءة الأدب المصرى القديم.. كملحمة «إيزيس وأوزوريس» والأدب الإغريقى والتراجيديا اليونانية.. والتى نهلت من الأدب المصرى العديد من قضاياه وأفكاره.. أما «الجمال» المتعلق بالأشياء بشكل استهلاكى فعمره قصير ومتغير.
 
∎ فى رأيك هل للجمال معايير ثابتة أم نسبية؟
 
- يرى «أفلاطون» أن للجمال نموذجا ثابتا، نقيس عليه كل الأشياء الجميلة، ويرى آخرون أن «الجمال» الموجود فى ذات الإنسان.. هو الذى يضفى الجمال على الأشياء حوله، لكن المشاعر الجميلة التى تخلقها جميع الفنون داخلنا.. تؤكد أن «الجمال» هو نتاج التفاعل بين «ذات الإنسان» و«الشىء الجميل».
 
∎ هل الإحساس بالجمال فطرة إنسانية؟
 
- نعم، الإحساس بالجمال فطرى، داخل كل إنسان، لكن الفرد الذى يمتلك عمق الإحساس.. واتساع الثقافة.. وارتقاء الوعى.. سيشعر بالجمال بشكل أفضل من الفرد الذى يفتقر جميع هذه الأشياء.. لأن ثقافة المجتمع هى «البوتقة» التى تحول هذه المشاعر الجميلة إلى قيمة ومعنى.. ومن ثم يجسدها المبدع من خلال مختلف الفنون.
 
ومن هنا يتأكد دور «التربية الجميلة» فى التنشئة الصحية للأبناء.. خاصة داخل منظومة «التعليم» بدءا من المرحلة الابتدائية وحتى الجامعية.. والتى تعدهم كتربة صالحة لاستيعاب الأفكار البناءة.. والتصدى للأفكار المضللة.. وتفجير طاقاتهم الخلاقة.
 
∎ فى تصورك هل يمكن أن يكون فى «القبح» جمال لا نراه؟
 
- «الجمال» ليس هو المضاد لكلمة «القبح» الذى يشعرنا بالنفور.. لأن «القبح» يمكن أن يكون موضوعا جميلا.. حينما يكشف الفنان عن روعة المعنى فى عالمه الواسع.. من خلال الألوان والخطوط ودرجات الظلال.. ليفتح لنا آفاقا ليس لها حدود.. وأبسط مثالين على ذلك هما: لوحة «حذاء الفلاحة» لڤان جوخ.. ولوحة «جرنيكا» لبابلو بيكاسو.
 
نجد فى لوحة «حذاء الفلاحة» زوجا من الأحذية البنية القاتمة.. الفظة والرثة.. لكن رغم قسوة هيئته.. يكشف عن عالم الفلاحة.. فتمزقه يعكس الخطوات المنهكة للفلاحة.. وخشونته تعكس مشقة العمل.. أما غلظته فتعكس رطوبة وخصوبة التربة.. وكأنه ينطق بالعطاء الصامت للأرض.
 
أما لوحة بابلو بيكاسو «جرنيكا» وهى اسم القرية الإسبانية المنكوبة التى ألقى عليها الألمان القنابل عام 1936 فدمرت عن آخرها، وقتل ألفان من مواطنيها المدنيين.. فنجد فيها أشلاء الأجساد المشوهة.. التى تجسد صدمة وبشاعة الحرب.. إلا أننا نجد «القنديل» الذى يعبر عن «الأمل» داخل مملكة الرعب والموت.. ليدعو للسلام وليس للاستسلام.. فهى تعبير صارخ عن الحرب والسلام معا.
 
وتذكرنا لوحة «جرنيكا» بما يحدث الآن فى مصر والشعوب العربية.. والتى يتعمد أصحاب النفوذ والمصالح الغربية تفكيك وحدة عناصرها إلى مفردات متناثرة، إلا أن مصر تمتلك روحا خاصة تميزها، تمنحها القدرة على تجاوز هذا التشقق السطحى، الذى أحدثته تلك الأطماع الخارجية، بهدف الهيمنة على المنطقة العربية، وأتساءل: هل ما نعيشه الآن من أجواء صناعة «الحروب الأهلية» فى بلادنا العربية يمكن أن يعبر عنه فنان على نحو جميل؟!
 
∎ هل ثمة علاقة بين الجمال والجلد؟
 
- يلعب «الجلد» دورا فعالا فى حياتنا الشعورية والوجدانية.. فهو مؤشر للآباء للاستدلال على بعض الأمراض التى قد تصيب الأبناء.. وهو بمثابة رادار للأطباء.. كما تؤكد بعض الآيات القرآنية على «الجلد» كوسيلة للعقاب.. تجدد الإحساس والشعور بالألم والعذاب.
 
ويعتبر «الجلد» أكثر عضو مناضل، لأنه يلمس الأشياء بنفسه، ثم يصدر أحكامه عليها، فهو يستقبل العديد من الملموسات المتضادة كالساخن والبارد، والخشن والناعم، والسائل والمتجمد ليقوم بتوصيل مشاعر اللذة أو الألم.. والقبول أو النفور.. فمثلا الفرد الذى اكتوى بلهيب النار.. هو أقدر فرد يمكنه الشعور بعذاب الحب.. ومن ثم يكون هو الأعمق والأبرع والأروع فى التعبير عنها.
 
∎ فى رأيك ما تفسير العلاقة بين الجمال والجلد والحب؟
 
- هى العلاقة التى تؤكد الحكمة الإلهية وراء خلق الإنسان والكون.. والتى تجدد الحياة فى كل لحظة، فالحب هو طاقة للإبداع، ودافع للخلق، ومن ثم كان الحب والجمال بدء الخلق.. يقول الله عز وجل فى حديث قدسى: «أحببت أن يعرفنى الناس فخلقت الكون»، فكان حب الخالق للبشر هى إرادة للخلق.. والعبادة هى علاقة حب بين البشر والله عز وجل.
 
أما الجلد فهو مركز الإحساس الوحيد للإنسان، الذى يستقبل مباشرة كل الأحاسيس بدرجات متفاوتة، مما يساعدنا على فهم الواقع، وتبنى إصدار الأحكام اللاشعورية على الأشخاص فى المواقف المختلفة، فمثلا: قد يجلس بجوارك شخصان، أحدهما تشعر تجاهه بالارتياح فتقترب منه، والآخر تشعر تجاهه بالنفور فتبتعد عنه، وقد ترى وجهين، أحدهما يبدو صافيا يبعث على الانشراح، والآخر يبدو عبوسا فيثير الشعور بالرهبة، كما أن اللمس على أيدى طفل بائس يفعل مفعول السحر، وملامسة الطبيب لجلد مريضه بمثابة لغة تفاهم تشعر المريض بالأمان، كما يوجه الطبيب عن طريقه المريض ويكسب ثقته، ويتعرف على آلامه بدقة، مما يساعده فى تشخيص نوع المرض.. وتحديد العلاج الملائم.
 
∎ كيف يستطيع الإنسان تربية جلده؟
 
- فى البداية يجب أن نشعر بقيمة الجلد، وتأثيره الخطير فى حياتنا، بسبب رهافة وحساسية استجابته، فهو القادر على توصيل رسالة الجمال والتواصل الإنسانى بين جميع البشر، ولهذا يجب أن يسمح الآباء لأبنائهم بمتعة التعرف على الأشياء، وملامستها عن قرب من خلال لغة التفاهم والحوار والحب.. ولا يلجأون إلى العنف أو القسوة، كوسيلة للتوجيه أو العقاب، لنهيهم عن هذه الأشياء، التى يخشون ضررها.
 
إن تعرض الجسم للضرب يجعله يتمرد، وحين يتمرد الجسم يموت الإحساس ليتحول إلى جسد متبلد، يعيش بنصف عقل، ونصف وجدان، أما الشخص الذى يعيش بقلبه وعقله وجسده فيمتلك الإدراك الكامل بكل ملكاته الشعورية والوجدانية، والتى تعمل بكامل طاقتها الإنسانية والفكرية، ولذلك من يقوم الآن بأعمال العنف والقتل المجانى هو إنسان يفتقر تماما إلى هذه الوحدة التى أشرنا إليها، وهذه هى المشكلة التى يجب أن ننتبه إليها جميعا.
 
∎ كيف تكونت شخصيتك المتفتحة العقل والحواس؟
 
- كان لأسرتى دور رئيسى فى تكوينى الفكرى والإنسانى، والذى ساعدنى على خلق رؤية واعية لذاتى، ومنحنى القدرة على تحديد أهدافى، واتخاذ القرارات الصائبة، والتعرف على الأسباب الحقيقية وراء التعلق بمختلف الأشياء.. وتناغمت هذه الرؤية مع مختلف الأفكار الفلسفية التى درستها.
 
كانت جدتى شخصية قوية، وتميزت والدتى بالحكمة والصبر والرحمة، أما والدى فكان مهندسا زراعيا مثقفا، يعزف ويغنى على آلة العود، ورغم جمال صوته إلا أنه لم يسع للغناء لأسباب اجتماعية وأسرية، كما مارس الكتابة الأدبية.. وله قصص قصيرة، وقد رفض العمل بالخارج.. لأنه يرفض الاقتلاع من جذوره.
 
واستطاع الأب أن يغرس فينا حب الوطن، فأول مرة اصطحبنى فيها كانت لرؤية تمثال «نهضة مصر» وكنت لم أتجاوز السابعة، وقال لى: هذا التمثال هو نتاج مشروع القرش، فكل مواطن مصرى دفع فيه قرشا، وكان هذا هو سبب إجرائى أول بحث عن «الشخصية المصرية فى فن محمود مختار».
 
∎ ما الروشتة التى يقدمها عالم «الجمال» فى ظل أوضاعنا الحالية؟
 
- أولا: أن يستعيد المصرى مكانة «العمل» القائم على روح الفريق، كما كان يحدث فى «فجر الحضارة الفرعونية القديمة»، ويتصدى للنزعة الفردية.. القائمة على الطمع والاستحواذ والسيطرة وتحطيم الآخر.. ومن ثم تتولد الصراعات التى تقتل كل شىء جميل.
وثانيا: أن يداوم كل شاب وفتاة على القراءة والاطلاع.. لامتلاك الفهم المستبصر.. لأنه المفتاح الوحيد للتخطيط الواعى.. القادر على صنع مستقبل ناجح.