مشروعه الأدبى انتصر للكلمة على الخوف: صنع الله إبراهيم.. ضمير الرواية العربية

عبدالله رامى
فى زحام العابرين على أرصفة الأدب العربى، هناك من يمرّون كظلّ عابر، وهناك من يتركون بصمة كأنها نقشٌ على صخر. والكاتب الكبير صنع الله إبراهيم من الفئة الأخيرة؛ كاتب لا يُشبه إلا نفسه، وكتابة لا تُشبه إلا ما يكتبه هو. لا يمكن أن تفتح رواية له دون أن تشعر بأنك أمام «نصٍّ شقىّ»، يتمرد على الشكل والمضمون، ويجرّ القارئ إلى مساءلة العالم لا إلى الاكتفاء بمتابعته من الخارج.
ولد صنع الله إبراهيم فى القاهرة عام 1937، وعاش حياةً لم تنفصل يومًا عن قضايا الإنسان والمجتمع والحرية. كانت بداية مسيرته فى الصحافة، لكنه انحاز إلى الرواية بوصفها الوسيلة الأصدق لقول ما لا يُقال. ومنذ ذلك الحين، صار السرد عنده وسيلة مقاومة، وأداة تفكيك للعالم من حوله.
حين صدرت روايته الأشهر «اللجنة» عام 1981، استقبلها القراء بدهشةٍ ممتزجة بالقلق. كان بطل الرواية بلا اسم، يتنقّل بين المكاتب والغرف لاستجوابٍ لا تنتهى حلقاته، ولا يُعرَف له سبب. يكتب صنع الله وكأنّه ينسج كابوسًا بيروقراطيًا لا فكاك منه. يقول فى «اللجنة»:
«كان الباب مواربًا قليلًا. دفعتُه برفق، ودخلت. الغرفة خالية. جدرانها بيضاء، وفيها مكتب وثلاثة كراسٍ. لا شىء يدلّ على ما ينتظرنى».
وكأنّه بهذا المشهد يُمهّد لدخول القارئ إلى قلب المتاهة، لا ليخرج منها، بل ليفهم أنها حياته نفسها.
تميّزت أعمال صنع الله بارتكازها على تقنيات السرد الوثائقى، حيث يدمج بين السرد الأدبى والوثيقة الواقعية، كصحف قديمة، أو تقارير رسمية، أو أحداث تاريخية. فى روايته «شرف»، وهى من أهم رواياته وأكثرها تداوُلاً، يرسم صورة لسجن مصرى تتكثف فيه طبقات المجتمع. البطل، شاب يُدعى «شرف».. يدخل السجن بسبب جريمة دفاع عن النفس، لكنه يكتشف أن وراء القضبان حياةً كاملة تحكمها الطبقية والفساد.
يكتب: «لا يمكن أن تتكلم عن العدالة وأنت ترتعد خوفًا. إن كانت الكلمة ستؤدى بك إلى الزنزانة، فقلها، وادخلها مرفوع الرأس».
وكأنّه يصف مسيرته الأدبية بأكملها، حيث الكلمة أعلى من الخوف.
وربما لا تكتمل صورة صنع الله إلا بذكر روايته البديعة «وردة»، التى تتبع حياة فتاة عُمانية تنخرط فى صفوف الثوّار، فى سردٍ لا يخلو من العاطفة والاشتباك السياسى مع قضايا المنطقة. فى «وردة» كما فى بقية أعماله، نجد المرأة ليست كائنًا هامشيًا، بل فاعلة، قوية، ورمزًا للمقاومة. كتب فيها:«لم أكن أدرى أن الحلم قد يتحول إلى وطن، وأن الوطن قد يُسجن فى غرفة واحدة».
أما روايته «ذات»، فهى من أعمق أعماله وأكثرها اشتباكًا مع الواقع المصرى، إذ تتبع حياة موظفة بسيطة تدعى «ذات» منذ السبعينيات حتى التسعينيات، وتسرد من خلالها تحولات المجتمع المصرى: سياسيًا، واقتصاديًا، واجتماعيًا. استخدم فيها تقنية المزج بين اليوميات والقصاصات الإخبارية الحقيقية، فخلق توازناًً بين الخاص والعام، الفردى والجمعى.
يكتب فيها: «كانت الأخبار تتكدّس فوق بعضها، كأنها لا تخصّ أحدًا. لكن ذات، حين قرأتها، شعرت أنها تخصّها وحدها».
صنع الله إبراهيم ليس فقط كاتبًا، بل موقف. كاتب رفض الجوائز التى لا تتماشى مع مبادئه، مثلما رفض جائزة الدولة التقديرية عام 2003 احتجاجًا على غياب الديمقراطية. وبهذا الموقف، لم يكن يخسر شيئًا، بل كان يؤكّد على أن «الكلمة موقف».
هذا الاتساق (النادر فى زماننا) بين ما يكتب صنع الله وبين حضوره فى المجال العام يجعله بمثابة ضمير للرواية العربية، والمجتمع كله.
أسلوب صنع الله لا يتورّع عن كسر النمط، واقتحام مناطق المسكوت عنه، وتمزيق الأقنعة. تتسم لغته بالاقتصاد والدقة، لكنها مشحونة بطاقة رمزية، وبنبرة حادة لا تعرف المجاملة. السرد عنده ليس ترفًا فنيًا، بل عملية بحث دؤوب عن الحقيقة، حتى وإن كانت موجعة.
يبقى صنع الله إبراهيم من القلائل الذين يصمتون كثيرًا ليكتبوا قليلًا، لكنهم حين يكتبون، تظل كلماتهم حية، قادرة على الاشتباك مع مرور الزمن.
وتحمل كتابته بصمته الخاصة.. بمجرد أن تقرأ سطوره؛ تقول: «صنع الله».