الثلاثاء 17 سبتمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

اختلاف وجهات النظر وعدم تنسيق وحدة القرار كيف تساهـم التوترات العالميــة فى تفكك أوروبــا؟

حالة من الغليان تسود المسرح الدولى جراء تصاعد حدة التوترات فى مختلف أنحاء العالم، بداية من العدوان الإسرائيلى على «غزة» وتداعياته الإقليمية، وصولًا إلى الأزمة «الروسية - الأوكرانية» المتواصلة منذ أكثر من عامين وتداعياتها على «أوروبا» والعالم، مرورًا بتصاعد التوترات فى أقصى الشرق العالمى سواء فى بحر الصين الجنوبى، أو الأزمة الكورية، وما نجم عن ذلك من تحالفات جديدة مثيرة للقلق. 



وفى خضم تصاعد الأحداث، وصعود لاعبين آخرين على الساحة الدولية، تفاجأ الغرب بعدم هيمنته على مجريات الأحداث، ما اضطره لإعادة تشكيل التكتلات، والبدء فى صياغة نسق جديد للأحلاف والشراكات، إلا أنها كشفت -فى الوقت ذاته- عن أزمات وتصدعات حدثت خلف الكواليس، ولم يكن ظهورها للعلن -بالنسبة لهم- فى الحسبان.

بشكل أكثر وضوحًا، بات «الاتحاد الأوروبي» -الذى طالما تفاخر أعضاؤه بالوحدة لسنوات- أكثر تفككًا مع مرور الأيام، واختلاف القضايا فيما بينهم، طريقة التعامل معها، بينما جاءت التحديات الدولية الأخيرة لتضرب بيد من حديد على تلك الوحدة.

 صدمة غربية

لعقود طويلة، شكلت «أوروبا، والولايات المتحدة» شئون العالم من خلال قوتها العسكرية، والاقتصادية، والثقافية، وزاد من قوة قبضتها مؤسسات، مثل: الأمم المتحدة، وصندوق النقد الدولى، والبنك الدولى.

ولكن، خلال السنوات القليلة الماضية، بدأت قوى اقتصادية جديدة، مثل: «الصين، والهند» يتجلى ظهورهما على الساحة.. كما يتضح من المبادرات الكبرى، مثل: (مبادرة الحزام والطريق)، أنها تمثل الانتقال من نظام أحادى القطب (تتولى فيه «الولايات المتحدة» قيادة العالم) إلى عالم متعدد الأقطاب، حيث تعمل جهات فاعلة، مثل: «روسيا»، و(رابطة دول جنوب شرق آسيا)، و(اتحاد دول أمريكا الجنوبية)، و(الاتحاد الإفريقي)، وغيرها على تعزيز نفوذها.

كما كانت التحولات الجيوسياسية مصحوبة بتحول اقتصادى كبير، كمحور التجارة العالمية نحو آسيا، والابتكار التكنولوجى الذى يمتد إلى ما هو أبعد من الغرب، والتأثير المتزايد لصناديق الثروة السيادية الصينية، والاستثمارات فى الأسواق المالية. 

 

 

 

وفى الوقت نفسه، واجه التفوق الثقافى الغربى تحديًا، على سبيل المثال -لا الحصر- صعود (بوليوود)، و(نوليوود)، وغيرهما الكثير، وتوسع المنصات الاجتماعية غير الغربية، فضلًا عن زيادة التبادل التعليمى الدولى.

باختصار.. تخضع ديناميكية القوة العالمية لتحول عميق وبسرعة كبيرة، فيما يبدو أن النفوذ السائد للدول الغربية -وتحديدًا «الاتحاد الأوروبي»- بدأ يتفكك؛ وذلك جراء عدة أسباب داخلية وخارجية، من بينها قضايا الهجرة، خروج «بريطانيا» من «الاتحاد الأوروبي»، الذى أضعف الاتحاد اقتصاديًا وسياسيًا، والاضطرابات الاقتصادية، وتداعيات الحرب الأوكرانية، وغيرها.

أوروبا فى مواجهة التحديات الخارجية

على الصعيد السياسى، يتعرض «الاتحاد الأوروبى» لهزة عنيفة بسبب التحديات الخارجية، خاصة مع تزايد التوترات مع قوى مثل: «روسيا»، و«الصين»، والتى تمثلت فى العقوبات المفروضة على «روسيا» فى أعقاب عملياتها العسكرية فى «أوكرانيا»؛ فضلًا عن القيود التجارية العالمية المفروضة على «روسيا»، و«الصين»، ما كان له تداعيات مباشرة على الاقتصادات الأوروبية، غذت بدورها الخلافات الداخلية بين دول الاتحاد.

ولعل الانقسام الاخير بين دول «الاتحاد الأوروبي»، و«المجر» التى تتولى رئاسة الاتحاد فى الوقت الحالى، آخر صورة من صور عدم الاتفاق فيما يخص عزل «روسيا»، وتطويق «الصين» الذى تسعى إليه دول التكتل.. حيث قال مسئول السياسة الخارجية فى «الاتحاد الأوروبي»، «جوزيب بوريل» -منذ أيام- إن «المجر» لن تستضيف اجتماع وزراء خارجية الاتحاد؛ موضحًا أن الاجتماع سيُعقد فى «بروكسل»، بدلًا من «بودابست»؛ وذلك بعد زيارة رئيس الوزراء المجرى «فيكتور أوربان» إلى «موسكو، وبكين» دون دعم من «الاتحاد الأوروبى».

من جانبه، وصف رئيس الوزراء المجرى القيادة الروسية بأنها (عقلانية بشكل مفرط)، وقال، إن: « «أوكرانيا» لن تتمكن أبدًا من تحقيق آمالها فى أن تصبح عضوًا فى «الاتحاد الأوروبى»، أو حلف شمال الأطلسى (ناتو)»؛ معتبرًا أن «آسيا» ستكون فى العقود الطويلة المقبلة، المركز المسيطر فى العالم؛ ومشيرًا إلى «الصين، والهند، وباكستان، وإندونيسيا» باعتبارها القوى العالمية الكبرى فى المستقبل. 

أما العلاقات الاقتصادية مع «الصين»، فهى ساحة خلاف أخرى بين حكومات «الاتحاد الأوروبى»، التى كشفت -مؤخرًا- عن وجهات نظر منقسمة بشأن الرسوم الجمركية التى يفرضها «الاتحاد» على واردات السيارات الكهربائية المصنعة فى «الصين»؛ وذلك فى تصويت غير ملزم، لكنه لا يزال مؤثرًا فى منتصف يوليو الماضى. 

فبعد أن فرضت المفوضية الأوروبية رسومًا جمركية مؤقتة تصل إلى %37.6 على السيارات الكهربائية المستوردة من «الصين» لمواجهة -ما تقول إنها- إعانات غير عادلة، واستطلعت –على أثرها- آراء أعضاء دول «الاتحاد الأوروبي» فى ما يسمى بالتصويت الاستشارى، صوتت 12 دولة عضو فقط لصالح الرسوم الجمركية، بينما صوتت 4 دول ضدها، وامتنعت 11 دولة عن التصويت.

على كل، إن الأزمة الأوكرانية، والعلاقات مع «روسيا، والصين» ليست الأزمة التى تختلف فيها وجهات النظر السياسية بين دول «الاتحاد»، بل برز العدوان الإسرائيلى على «غزة» كقضية لاختلاف وجهات النظر بين الدول الأعضاء.

فبعيدًا عما أدى إليه عدم رغبة «أوروبا» فى اتخاذ خطوات ملموسة لكبح العمليات العسكرية الإسرائيلية فى «غزة»، إلى كشف ازدواجية المعايير فى تعامل الكتلة الأوروبية مع «أوكرانيا» و«غزة»، فالحكومات الأوروبية نفسها، منقسمة فيما بينها فى موقفها من العدوان على «غزة» وتداعياته الإنسانية، وهو ما ظهر -بوضوح- فى تصويت دول «الاتحاد الأوروبي» على قرارين للجمعية العامة للأمم المتحدة فى أكتوبر وديسمبر الماضيين.

ففى التصويت الأول، الذى دعا إلى (هدنة)، أيدت 8 دول من «الاتحاد الأوروبي» القرار، وعارضته 4 دول، وامتنعت 15 دولة عن التصويت؛ وفى التصويت الثانى، الذى دعا إلى (وقف إطلاق نار إنسانى فوري)، أيدت 17 دولة من «الاتحاد الأوروبي» القرار، وعارضته دولتان، وامتنعت 8 دول عن التصويت!!

أزمات الداخل الأوروبى أسوأ

فيما يخص الأزمات الداخلية للاتحاد الأوروبي، فالعوامل الاجتماعية، بما فى ذلك: قضية الهجرة الجماعية والتوترات الناتجة عنها، تؤدى إلى تفاقم الانقسامات وتعزيز شعبية الحركات الشعبوية، مما يعقد تنفيذ السياسات الأوروبية؛ على سبيل المثال: ينظر إلى (ميثاق الهجرة)، الذى وافق عليه سفراء «الاتحاد الأوروبى»، على أنه استرضاء لليمين المتطرف، لأنه يقترح احتجاز القُصَّر غير المصحوبين بذويهم، الذين يعتبرون خطرًا أمنيًا، وسوف يؤدى -فى بعض الحالات- إلى حبس المهاجرين؛ إلا أن «بولندا» أعلنت أنها لن تنفذ بعض أجزاء الميثاق.. كما انتقد رئيس الوزراء المجرى «أوربان» الاتفاق، قائلًا: إن «ميثاق الهجرة مسمار آخر فى نعش الاتحاد الأوروبى، ماتت الوحدة ولم تعد هناك حدود آمنة».

 

 

 

وتمثل أزمة الهجرة داخل الاتحاد الأوروبى قضية معقدة ومتعددة الأوجه، تشمل أبعادًا سياسية واجتماعية واقتصادية وإنسانية، خاصة مع تسجيل عام 2023 رقمًا قياسيًا فى عدد المهاجرين غير الشرعيين الوافدين إلى دول «الاتحاد الأوروبى»، التى سجلت وصول 355 ألفًا و300 مهاجر، وهو أعلى رقم منذ عام 2016، وفق بيانات الوكالة الأوروبية لإدارة التعاون العملياتى على الحدود الخارجية «فرونتكس».

وإلى جانب قضية الهجرة، تأتى قضية الإنفاق الدفاعي كأزمة أخرى، إذ تُطالب دول، مثل: «بولندا» و(دول البلطيق) بزيادة الإنفاق العسكرى وبناء جيش أوروبى مشترك؛ بينما تفضل دول أخرى، مثل «ألمانيا»، نهجًا أكثر دبلوماسية وتركيزًا على التعاون مع حلف (الناتو).

الوضع الأوروبى الراهن

فى مواجهة هذه التحديات المترابطة، تجد «أوروبا» صعوبة فى تفضيل استراتيجية منسقة وموحدة للحفاظ على سلامتها وتعزيز وحدتها، فالأزمات الداخلية والخارجية تضرب «أوروبا» بيد من حديد وإن كان التكتل يحاول إخفاؤها، وهذا هو -أيضًا- السبب الأساسى لتفككها. 

بشكل عام، يواجه «الاتحاد الأوروبى» تحديات مالية كبيرة فى ظل الظروف العالمية الحالية، ما يجعل مستقبل «أوروبا» فى خطر، خاصة فى ظل تصاعد دور وتلاعب اليمين المتطرف، وهو ما أكدته وزيرة البيئة الإسبانية «تيريزا ريبيرا»، حين حذرت من أن مستقبل «الاتحاد الأوروبى» (معرض للانهيار)، بسبب استغلال بعض السياسيين للتوترات الاجتماعية، لتحقيق مكاسب سياسية، خاصة من قبل اليمين المتطرف؛ معتبرة أن انهيار (المشروع الأوروبى)، سيكون أحد أكثر الأحداث كارثية فى التاريخ الحديث.

أما ملف الهجرة فيبقى التحدى الشائك، نظرًا لإثارته الكثير من الانقسامات والخلافات ما يهدد تماسك «الاتحاد الأوروبى»، لا سيما عند الحديث عن توزيع اللاجئين داخل التكتل.

وفيما يخص الأحداث الدراماتيكية العالمية الحالية، فهو دليل آخر على بزوخ تفكك أوروبى، بل أبعد من ذلك، إذ أوضحت التوترات العالمية أن الدول الغربية -بشكل عام- لم تعد تحتكر الحوكمة العالمية، وهو ما يعكس صعود الاقتصادات الناشئة، وإعادة الهيكلة الجيوسياسية، والاضطرابات الاقتصادية، وتنوع التأثيرات الثقافية. 



فى النهاية.. يمكن القول إن الغرب -وتحديدًا «الاتحاد الأوروبى»- أدرك أنه لم يعد صاحب القرار فى أى شيء على المسرح العالمى، بينما تحاول «أوروبا» تهدئة حالة التفكك التى تحدث بوتيرة متسارعة بشكل متزايد.