الأحد 16 يونيو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
الطريق الثالث.. استدعاء (الضرورة) للأستاذ من رفوف الكتب إلى ساحة الحرب فى غزة (1) هيكل: لا سياسة بلا خريطة.. ولا سلام بالتهافت

الطريق الثالث.. استدعاء (الضرورة) للأستاذ من رفوف الكتب إلى ساحة الحرب فى غزة (1) هيكل: لا سياسة بلا خريطة.. ولا سلام بالتهافت

عندما يصيبنى الدوار السياسى وأفقد اتزانى وتتعثر رؤيتى، لا أجد غير الكتب سندا ومصباحا منيرا، أستعيد عبر الإبحار فيها دروس التاريخ وأحكامه، فهى مفاتيح لما انغلق وتعثر فهمه وتشابكت وقائعه. ليس فقط لأن التاريخ يعيد نفسه، لكن لأننا أيضا فى عالمنا العربى لا نزال ندور فى فلك تكرار الأخطاء، وكأن من يعيشون اليوم قد انقطعت صلتهم بتجارب السابقين، فيعيدون كل حين من الزمان اختراع العجلة فرحين بما أنجزوا، مغفلين أن بلادهم كانت يوما مصدرا للتطور ومركزا للحضارة.



ويمثل الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل قيمة خاصة فى مكتبتى بثقل حضوره، واتساع المساحة التى حجزتها مؤلفاته على قمة الكتب المرجعية التى تستدعيها الأزمات ومفترق الطرق السياسية التى نجبر عليها كطرف (مفعول فيه) فى الساحة الدولية، بحكم أوضاع ساخنة فرضتها حقائق الجغرافيا وأشعلتها أطماع السياسة، والأمر هنا لا يتعلق بدولة بعينها، بل بإقليم الشرق الأوسط، المترامى الأطراف والمكتظ بالثروات، بكل تناقضاته وصراعاته وحوادثه.

 درس ديجول

يحكى الأستاذ هيكل رحمه الله، فى كتابه غير المشهور «المقالات اليابانية»، فى مقال نشر فى أغسطس عام 1992، بعنوان «الجنرال ديجول: لا سياسة بلا خريطة»، تفاصيل لقاء جمعه مع الرئيس الفرنسى شارل ديجول فى سبتمبر سنة 1967، مشيرا إلى أنه مدين بدرس قيم فى السياسة تعلمه من الجنرال الفرنسى، وأكدت له الأيام قيمة هذا الدرس السياسى.

يروى هيكل فى مقاله أن الجنرال ديجول مد يده وضغط فلمس زرا على مكتبه، ودعا أحد مساعديه وطلب منه خريطة صغيرة للشرق الأوسط، ثم واصل كلامه قائلا: «إنه دائما يحرص على أن ينظر إلى الخريطة ويطيل النظر فيها قبل أن يبدى رأيا فى أى قضية سياسية، وحتى إذا كان يعرف خطوط المنطقة التى تهم فى لحظة بعينها، فإنه يريد أن يعيد تذكير نفسه بها، ثم إن كل نظرة على الخريطة وتأمل لها كفيلان أن يولدا عوامل واحتمالات لا بد من إدخالها فى أى حسابات للحوادث والتطورات».

وعندما نستلهم «درس ديجول» لهيكل، ونفرد اليوم خرائط الجغرافيا أمامنا ونطيل النظر فيها، سنجدها تبكى على حدود تبعثرت، وشعوب تشردت، ودول ذات حضارة عريقة تتسول الأمان، سنرى أيضا بؤر الصراع المشتعلة فى أرجاء المنطقة الممتدة من الخليج الثائر إلى المحيط الهادر، نظرة أكثر تأملا ستكشف عواصم عربية وقعت تحت سطوة مدافع آيات الله، وعواصم أخرى تتدثر بـ«الكيباه»، غطاء الرأس اليهودى لعله يسترها فى مواجهة الشره الفارسى المستعر، وما بينهما تترنح هيبة (بقايا) الدول وتدنسها ميليشيات عرقية ترعرعت فى كنف أنظمتها الفاسدة حتى انقلبت عليها.

العربى التائه

وضع الأستاذ «نهايات طريق»، عنوانا فرعيا موحياّ لكتابه «العربى التائه 2001»، الذى يسترجع فى مستهله زيارة نيفل تشمبرلين رئيس وزراء بريطانيا إلى ألمانيا سنة 1938 ومقابلته زعيمها أدولف هتلر، ثم عودته مبشرا الشعب البريطانى (وشعوب أوربا) بـ«السلام فى زماننا»، وهو لم يكن يدرك أن ميونخ كانت نهاية الطريق وأنه بوهم صنع السلام، جعل الحرب العالمية الثانية حتمية لأن هتلر رأى التهافت على السلام دليلا على الضعف والوهن، وشاهدا على تآكل الإرادة السياسية وقصورها عن تحمل مسئولية الصراع من أجل الحياة والصراع من أجل السلام.

لم يدرك تشمبرلين، وهو يبشر بالسلام، أن استرضاء العدو بأى ثمن هو أقرب الطرق للحرب لأن التهافت على الطلب مثير للطمع ولأن الغاية النبيلة لا تحققها وسيلة ذليلة فأول قوانين الصراع أنه حين يرضى طرف لنفسه أن يستحذى فإن الطرف الآخر مدعو لأن يستقوى، وتلك طبائع أشياء قبل أن تكون قوانين صراع.

 رئيس أمريكا.. عميل إسرائيلى

والعربى التائه اليوم فى رأيى الشخصى (وليس رأى الأستاذ) يمكنه الخروج من التيه، بقصص الخيال الملتبس بالحقيقة، ومنها «العملية هيبرون» الرواية ذائعة الصيت والصادرة عام 2000 لمؤلفها رجل المخابرات المركزية الأمريكية إريك جوردان، والذى انتدب فى آخر حياته المهنية مستشارا للرئيس رونالد ريجان فى ثمانينيات القرن الماضى، والرواية يختصرها عنوان فرعى وضعه الأستاذ: «مؤامرة لصناعة رئيس أمريكى» بين عناوين فصل «المؤامرة والسياسة والجريمة» من كتابه سالف الذكر.

وفى هذا الفصل المثير يسرد هيكل على غير عادته، تفاصيل مهمة من الرواية الشهيرة «العملية هبرون» ويرصد مدى تلامسها مع الواقع فى كثير من الأحداث، وذروة المؤامرة كانت تخطيط إسرائيل لوضع عميل من عملاء جهاز الموساد على رأس الإدارة الأمريكية فى البيت الأبيض، بدعمه للوصول إلى منصب الرئيس.

لم يمد الله فى عمر الأستاذ، كى يشاهد مسلسل «House Of Card»، ليكتشف سذاجة الرواية مقارنة بهذا المسلسل الملعون بأجزائه السبعة، التى جعلتنا نعيش داخل البيت الأبيض فعليا ونكتشف الخبايا والأسرار، ونشاهد مؤامرات جرى تنفيذها، وكأننا نشاهد أحد برامج «تليفزيون الواقع»، الذى يعرض لنا كيفية صناعة الرئيس فى أمريكا، وكيف يدار العالم من خلاله وفق مصالح وأجندات تعد سلفا من قوى داخلية عميقة وأطراف خارجية ذات مصالح فى مقدمتها إسرائيل بالطبع.

 غزة تحدد الرئيس القادم

لا شك أنه سؤال منطقى أو ربما تكون أسئلة، عن علاقة ما يجرى فى غزة بالانتخابات الأمريكية التى تجرى فى نوفمبر القادم، والتى تعد الأخطر فى تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، وعلاقة ما يجرى فى غزة بالحرب الدائرة فى أوكرانيا أيضا، وعلاقتهما بما جرى فى الكونجرس مؤخرا من خلاف واتفاق بين حزبى السلطة الأمريكية حول برنامج مساعدات سخى لكل من نتنياهو وزيلينسكى، تجاوز 85 مليار دولار أمريكى لهما مجتمعين.

وهل من علاقة بين رواية قديمة كتبها مسئول سابق فى الـCIA سنة 2000 وتدور أحداثها فى زمن غير معلوم، وبين ما يجرى فى عام 2024؟

ربما تجدون إجابات فى سطور سابقة أو تالية، وقد يحمل هذا المقطع الذى نقله هيكل عن رواية جوردان التى وصفها فى أكثر من موضع بأنها تصنف تحت باب «الخيال الملتبس بالحقيقة»، رواية «العملية هيبرون» التى قامت بها إسرائيل لكى تدفع أحد عملائها إلى منصة التتويج، رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية.

يروى الأستاذ عن الرواية: «ومن كلام مدير الموساد تظهر دوافع إسرائيل إلى تلك المغامرة المريعة إذا انكشفت والبديعة إذا نجحت. ومع أن مدير الموساد فى حواره مع رئيس الوزراء لا ينكر نفوذ إسرائيل فى واشنطن حتى بدون «العملية هيبرون»، لكنه كما يقول «لا يستطيع أن يضمن» ويرى شواهد تجعله لا يطمئن، منها: «مرات يلحون علينا (يقصد الأمريكان) حتى نتجاوب مع بعض المطالب الفلسطينية ولو «بطريقة تجميلية» يتوهمون بذلك أنهم قادرون على تهدئة مشاعر أصدقائهم من الزعماء العرب، وتسهيلا عليهم حتى يتمكنوا من احتواء «هوس» شعوبهم المعادية لإسرائيل. 

ويستطرد مدير الموساد فى هذا الموضع فيقول رئيس الوزراء: «يتصورون (الأمريكان) أن هناك سلاما ممكنا فى المنطقة ونحن كما تعلم (يا سيدى) نرتب خططنا على أساس أنه لن يكون هناك فى يوم من الأيام سلام. وفى الربع قرن الأخير حاولنا شغل العرب بأعداء آخرين غيرنا وظهر أن ذلك فى إمكاننا: ففى ثلث هذه المدة اعتبر العرب أن عدوهم هو روسيا، وفى الثلث التالى اعتبروا عدوهم هو إيران، وفى الثلث الأخير كان العدو هو العراق، لكن العرب لا يثبتون عند رأى، وهم يعودون إلينا فى نهاية المطاف لأننا (العدو المفضل) لديهم».

وأختم بما اختاره الأستاذ مفتتحًا للجزء الثالث والأخير من كتابه الشهير «المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل»، وكان عنوان هذا الجزء «سلام الأوهام»، استهله الأستاذ بقصيدة للشاعر الفلسطينى الكبير محمود درويش، يقول فيها: «للحقيقة وجهان، والثلج أسود فوق مدينتنا.. لم نعد قادرين على اليأس أكثر مما يئسنا، والنهاية تمشى.. إلى السور واثقة من خطاها».