الاختلاف فى الرأى لا يفسد لـ«نولان» فيلمًا

أحمد قاسم
بعيدًا عن أى إعلانات أو إجابات شافية قطعية، وكما قال «ليو تولستوى» ذات مَرّة؛ فإن السينما هى تلك «الصامت العظيم»، والصمت هنا ليس خرسًا، فحتى البُكم يمتلكون فيما بينهم أسلوبًا للتخاطب عندما يكون لديهم شىءٌ ما ليقولوه.
على إثر ذلك، يمكن أن نفهم الدلالات العميقة لجملة «تولستوى» حينما تقلب السينما عالمنا الواقعى كما اعتبره «لودفيج فيتجنشتاين» بأن «حدوده هى حدود لغتى»، فالفن عمومًا والسينما خصوصًا، مسرح واقعى للأحلام والأوهام وللجانب الروحى الوجدانى فينا، يمكننا أن نقول عَبرهما ما لا يمكن أن يقال.. حتى لو كان صَمتًا.
على عكس ما يلوح للجميع، يُعتبر «كريستوفر نولان» كائنًا ميتافيزيقيّا عن جدارة يَسبح فى فضاء أحلامه ثم يترجمه لنا فى صورة سينمائية. انظر إلى أفلامه التى كتبها بنفسه وسترى هذا الأمرَ، والشىء نفسه ينطبق على أفلامه التجارية مثل ثلاثية (The Dark knight أو Insomnia أو The Prestige) جميعها تأتى مصداقًا لجملة قالها ذات مَرّة: «لطالما كنتُ شغوفًا بالأحلام منذ نعومة أظافرى، ولطالما شعرتُ بالفضول إزاء العلاقة بين السينما والأفلام».
لهذا فإنك ستجد على الدوام فى النظام العام المفروض لخطابه السينمائى حضورًا أفقيّا آليّا للقصة بمعناها عند «بول ريكور»، هى إنتاج المعنى من خلال تمثيل أو تجسيد الخبرات والأحداث التى تشكل الحياة، والتى بدورها، تشكل معناها من خلال القراءة الحالية لتلك الأحداث.
باختصار، يمكنك أن تَعتبر أن أفلام «نولان»؛ خصوصًا منذ ( Inception) هى عبارة عن دفاتر شخصية تنفتح على مستودع هائل لذاكرة «نولان» ومشاعره وأفكاره وأحلامه باعتباره فنانًا رأى فى السينما وسيطًا وحيدًا للتعبير عن حسّه بالواقع، ونحن كجمهور نشاركه حسَّه هذا، وأى قراءة أو مقاربة نقدية تأويلية لفيلم من أفلامه لا تختلف عن مثيلتها مع رواية لـ«نجيب محفوظ» أو قصيدة لـ«بودليير» أو لوحة لـ«سيزان» أو أى خطاب فنى عمومًا.
إن فيلم (Tenet) هو أكثر أفلام «نولان» تعقيدًا وتركيبًا وتجريبيةً وذاتيةً، ولهذا؛ فإن أكثر أفلامه تعرضًا للهجوم والنقد، بل ذهب البعض إلى حد الدخول فى النوايا ووصف «نولان» بأنه «أجرم» فى حق مشاهديه؛ لأن الفيلم اتخذ من التعقيد غاية له وليس وسيلة، من منطق «استعراض العضلات»و«فزلكة»، لا لشىء سوى أن يُبهر الجمهور ويُشعرهم بالغباء أو أن الفيزياء فيه مجرد فرضيات غير مثبتة، فى حين أن كل هذا التعقيد جاء على حساب عُمق الشخصيات ومباشرة وبساطة دوافعها وجماليات الفيلم التقنية الأخرى من تصوير ومكساج ومونتاج.. إلخ، وهذا نسبيًّا منطقى، فلو كانت الحَبكة عادية لسقطت جمالية الفيلم. ولمّا كان الفيلم المطلق المثالى الذى يمكننا الالتجاء إليه لقياس أحكام قيمنا عن(Tenet) أو أى فيلم، غير موجود؛ فإن جميع الآراء التى تكيل للفيلم سواء إيجابية أو سلبية لا يمكن النظر إليها إلّا باعتبارها مجرد آراء وليست حقائق. هذه قاعدة بديهية: الاتفاق فى الفن أمرٌ لا معنى له على الإطلاق.
يمكن اختزال جميع النقد السلبى والهجوم الذى تعرّض له الفيلم فى كلمة الغموض. هذا اللغز الذى يشكل أحد جوانب ماهية «صمت السينما» ومن ثم المجهول، الذى تستحيل ترجمته بمصطلحات معرفية؛ لأنه- فيما يقول «إيمانويل ليفيناس»- يتمرد على حميمية الذات والأنا التى إليها تعود كل تجاربنا، وهو يولد تمامًا ذاك القلق الأنطولوجى الذى يصاحب أى إدراك لحضور المجهول؛ لأنه حدث تَكُفُّ الذاتُ إزاءَه أن تكون ذاتًا وتفقد الذات سيادتها كذات.
«إن مَن يحيا فى القلق هو وحده الذى يجد الراحة».. هكذا قالها «سيورين كيريكجارد»، وهل يمكن أن نصف الرسام «فرانسيس بيكون»- وهو أحد أبطال «نولان»- أو «جوستاف ماهلر» أو «صامويل بيكيت» أو «ديفيد لينش» بالجُرم لأن أعمالهم «أهدرت الجانب الحسّى» وكانت غامضة مبهمة؟! هل يمكن أن نِخرس «سارتر» حينما يصيح: «عاش الأدب اللا ملتزم؟!»، وهل كانت أزمة الفن فى القرن العشرين سوى أنه «أجرم» فى حق المباشرة والتبسيط وجعل الغموض والإبهام والتشويه موادّ خام له؟.
هذا الفزع من المجهول مما هو خارجنا، «من الخارج ذاته» بتعبير «موريس بلانشو»، يعزو إلى طبيعة أدمغتنا فى ميلها إلى إدراك المباشر والأنماط، صحيح أن الفيلم شأنه شأن أى فيلم آخر، يُقَسّم عالمه إلى حقليْن: حقل الأشياء المرئية/المباشرة وحقل الأشياء اللا مرئية/الغامضة فما أن تتوجه عدسة الكاميرا إلى موضوعات مُعينة يثار لدينا التساؤل حول ما يبقى بعيدًا عنها وغير موجود بالنسبة لها، لكن ما يميز (Tenet)هو أن حقل الغموض فيه طغَى على حقل المباشرة والوضوح.
فى (Tenet) أصبح ما نراه على الشاشة بشكل واضح ومباشر نفسه غامضًا. ثمة شىءٌ ما يحدث على الشاشة لا تعرف كُنهه.. لا نستطيع أن نجتذب حدثًا فى أى لحظة من الفيلم ونشير إليه قائلين: «أنت هو أنت».. المسألة لا تكمن فى صعوبة التقاط أنفاسنا بسبب تعاقب مَشاهد الفيلم السريعة بشكل جنونى، ولا تكمن فى تعقيد الحبكة ومقاربة «نولان» للزمان الوجودى والنفسى والفيزيائى المبتكرة للغاية، ولا فى عُسْر هضم الفيزياء النظرية فيه ولا حتى فى مَشاهد الرجوع بالزمن.
بل تكمن بالأحرَى فى غموض المباشر وغياب الإمكانات وفى التلاشى الذى كان حاضرًا بقوة طيلة الفيلم بسبب تحطم الديمومة وجدلية الزمان التى استخدمها «نولان» فى الفيلم، وهى الجدلية نفسها التى لاحت لوهلة قصيرة فى نهاية (Interstellar) حينما كان «كوب» فى الفضاء رباعى الأبعاد.
الرِّتم السريع للفيلم الذى يُذكرنا بأرجوحة الملاهى Merry Go Round- والمفارقة أن هذا الاسم كان عنوان الفيلم الأصلى-يجعل فجأة كل شيئًا ممكنًا ومستحيلًا فى الوقت نفسه، الحاضر يتداخل مع الماضى وبات هناك حاضرٌ للماضى وماضٍ للحاضر.. انهارَ الزمانُ بمعناه التقليدى وأصبح «محكوم على وعْيكَ أن يعيش فى حاضر دائم» بتعبير «إيف ميتشو»، وهذا له تداعيات أنطولوجية خطيرة استدعيت فى المشهد الأخير، الذى كان بمثابة «زلزال وجودى» للشخصيات، وبمجرد انتهاء الفيلم ستشعر بصدمة استطيقية/جمالية، وهذه سمة التجريبية.
يمكن لو أن «بيكاسو» أو «هنرى ميلر» أو «فرانز ليست» شاهدوا (Tenet) لاحتفوا به كثيرًا، فالفيلم تكعيبى للغاية كل عنصر فيه يخدم غايته الوحيدة وهى الشكل، وليس الشكل هنا الصورة السينمائية التى كانت تقليدية للغاية فى الفيلم، بل شكل القصة، أى السَّرد. فالقصة وإن كان بسيطة للغاية-عميل لوكالة الاستخبارات الأمريكية يحاول إنقاذ العالم- سُردت على الشاشة بطريقة لم تعهدها السينما من قبل.. البعض يقول إن هذه مقاربة «نولان» لفيلم «جيمس بوند»، وهو أحد أحلامه منذ فترة.
لقد اجترح «نولان» أفقًا سرديّا جديدًا وعمل ما سَمَّاه «جيل دولوز» حركة «ترحال وتغريب» للحكى، فما انفكت القصة أن استغلت الحقائق العلمية مثل «القصور الحرارى» Entropy ونسبية «آينشتاين» ووظفتهما بشكل ديالكتيكى/جدلى فى الحبكة، فكان موضوع الفيلم- القصة والشخصيات-ثانويّا متواريًا ولكن شكله ظل أساسيّا.
انتقل «نولان» فى (Tenet) من سرد الموضوع إلى موضوع السّرد، ولأول مَرّة نرى فى عمل له قطيعة بين شكل الحبكة وموضوعها، فجاءت الحبكة هندسية ومُرَكبة وأكثر تعقيدًا من حبكة (Memento) ، وهنا نقل «نولان» الزمنَ من مجرد عَقبة، كما كان يحصل عادة فى أفلامه، إلى أداة.
نعم إن هذا الفيلم تجريبى ويجعل المُشاهد فى حالة احتياج شديد لأن «يتعرض له» مرارًا ويشاهده أكثر من مرّة وليس بعيون المُشاهد المتمرس فى الفن أو الفيزياء النظرية، ولكن بعيون من يَطلق عليهم «أفلاطون»، «عاشقو الوهم والظنون»، بعيون تدرك أهمية المجهود فى عملية التذوق، وكما يقول «هنرى برجسون»، فإن المجهود الذى يبذله الوعى يتسبب فى إرهاق كبير للأنا ولكن قيمته لا تقدّر بثمَن؛ لأن بفضل الجهد نصل إلى استخلاص ما لم يكن موجودًا فى الذات».