خذوا الحل ولو من البرازيل!

منى بكر
قد يظن البعض أن الأزمة الاقتصادية الطاحنة التى نمر بها هى المستحيل بعينه، أو أنها مشكلة أزلية مستعصية على الحل، يحتاج حلها إلى خبراء لهم عقول خارقة أو حكومات فذة غير موجودة على سطح كوكبنا إلا أنه بنظرة بسيطة على تاريخ الأمم على مر التاريخ نجد أنه لا توجد دولة واحدة لم تمر بأزمات اقتصادية فى تاريخها. هذه الدول تخطت أزماتها ونجحت فى العودة باقتصادها إلى مساره الصحيح بل إن بعضها أصبح أقوى من ذى قبل وذلك دون معجزات إلهية أو بشرية ودون حكومة ذكية أو أخرى تتذاكى. الأهم من كل ذلك هو نجاح هذه الدول فى تحقيق مشروعها للنهضة فى سنوات قليلة من خلال خطة مدروسة وعمل دؤوب دون تهليل أو خطب رنانة تعجز عن إنقاذ أوطانهم.!
ماليزيا تحولت من دولة زراعية تصدر المواد الخام إلى دولة صناعية تبلغ صادراتها المصنعة 85 % من إجمالى صادراتها
البرازيل التى يستمتع هواة كرة القدم بأسلوب لاعبيها المحترف فى اللعب هى أهم نموذج لدولة استطاعت أن تقوم من كبوتها الاقتصادية وتتخلص من ديونها على يد الرئيس لولا دا سيلفا ذى الفكر اليسارى الذى نجح فى إنقاذ بلاده من الانهيار وأعاد الحياة للاقتصاد البرازيلى من جديد. للعلم بدأت أزمة البرازيل الاقتصادية فى أواخر التسعينيات حيث كانت غارقة فى الديون التى وصلت إلى مائتين وأربعين مليون دولار بينما تولى دا سيلفا الحكم عام 2003 بعد تفاقم الأزمة.
وبما أن الاقتصاد والسياسة مرتبطان فإن تغيير السياسات الاقتصادية للبرازيل كان السبب الرئيسى فى إنقاذ البلاد. كان آخر مسمار فى نعش الرئيس البرازيلى الأسبق فرناند كاردوسو هو قرض صندوق النقد الدولى الذى أضاف عبئا جديدا على الاقتصاد البرازيلى المنهك أساسا آنذاك والأكثر من ذلك أن هذا القرض المريب لم يصل إلى الشعب بل ابتلعه رجال الأعمال والنخب المحيطة بالسلطة. فلم يشعر الشعب بالانفراج أو التحسن، فالبرازيل التى كانت من أكبر المصدرين للغذاء فى العالم لم يكن شعبها يجد هذا الغذاء.
جاء لولا دا سيلفا بخطة واعية وبمشروع نهضة حقيقى ذى ملامح واضحة وتفاصيل مدروسة بدأها بتعليق أو تأجيل سداد الديون لفترة بمنطق ما يحتاجه البيت يحرم على الجامع، وذلك لكى يستطيع تنفيذ خطته لتنمية البلاد والتى بدأها منذ اليوم الأول لتوليه الرئاسة. ونجح دا سيلفا بالفعل فى تسديد ديون بلاده لصندوق النقد الدولى كاملة عام 2005 وذلك قبل عامين كاملين من الموعد المحدد لسدادها.
أنشأ دا سيلفا صندوقا وضع فيه الأموال التى كانت تخصص لسداد ديون صندوق النقد الدولى لاستخدامها فى تمويل الأبحاث وتطوير التعليم والصحة والإصلاح الزراعى وأدارت هذا الصندوق لجنة مشكلة من البرلمان والنقابات والأحزاب السياسية، وبذلك نجح فى تحرير بلاده من الدين الخارجى وتنميته وتطويره فى الوقت نفسه. كانت البرازيل على وشك الانهيار عندما تولى دا سيلفا الرئاسة لكنه نجح أن يحقق فائضا بلغ 200 مليار دولار وتتمتع بأقل نسبة غلاء بين دول العالم الثالث.
أما ماليزيا فالأمر معها لم يختلف كثيرا فقد قامت السياسة الاقتصادية الماليزية على المزج الجيد بين آليات السوق والتدخل الحكومى بالإضافة إلى إشراك مختلف الفئات الاجتماعية فى التنمية. بعد الأزمة المالية كان تركيز الإدارة على استعادة قيمة العملة والحفاظ عليها وزيادة متوسط الدخل ودعم الفقراء دعما حقيقيا يشعر به الفقير فى كل مناحى حياته بحيث يدرك أن من يجلسون على رأس السلطة فى بلاده يشعرون بمعاناته ويسعون لتحسين أوضاعه. وعمدت الدولة إلى تدريب وتأهيل المهنيين بحيث يصبحون عمالاً مهرة وليسوا مجرد أيد عاملة بلا فائدة أى أن الحكومة استفادت من العنصر البشرى بشكل علمى. وكما حدث فى البرازيل ركزت الحكومة الماليزية على تحسين مستوى التعليم بوجه عام وربط الأجور بإنتاجية العمل.
انفردت الإدارة الماليزية آنذاك بقيادة رئيس الوزراء مهاتير محمد بأسلوب و سياسات خاصة لعلاج الأزمة وكان أهمها الشفافية التامة مع الشعب والتى أسهمت فى كسب حب الشعب الذى منحه الثقة التامة ودعمه وسانده بعد أن وجد فيه الزعيم صاحب السياسات المنحازة للفقراء ليس قولا فقط بل فعلا أيضا.
بدأت ماليزيا مراحل علاج الأزمة المالية منذ تولى مهاتير الحكم عام 1981 وقد لعب هذا الرجل ذو الفكر والسياسات المبتكرة دورا رئيسيا فى تقدم بلاده وليس فقط النهوض من كبوتها الاقتصادية، إذ تحولت ماليزيا من دولة زراعية تعتمد على إنتاج المواد الأولية وتصديرها إلى دولة صناعية متقدمة يساهم قطاعا الصناعة والخدمات فيها بنحو 90% من إجمالى الناتج المحلى وتبلغ نسبة صادرات السلع المصنعة 85% من إجمالى الصادرات، بل إنها أصبحت تنتج ثمانين بالمائة من السيارات التى تسير فى شوارعها. وكان مهاتير معارضا بشدة لسياسات صندوق النقد الدولى وما يترتب عليه من تدخل خارجى فى شئون البلاد من خلال الشروط المجحفة لمثل هذه القروض.
كانت النتيجة الطبيعية لهذا التطور أن انخفضت نسبة السكان تحت خط الفقر من 52% من إجمالى السكان فى عام 1970 إلى 5% فقط فى عام 2002 وارتفع متوسط دخل المواطن الماليزى من 1247 دولارا فى عام 1970 إلى 8862 دولارا فى عام 2002 أى أن دخل المواطن زاد لأكثر من سبعة أمثال ما كان عليه منذ ثلاثين عاما وانخفضت نسبة البطالة إلى 3%. وهو ما يؤكد مجددا أن الشعوب تعمل بدأب وتنجز وتسعى للتطور عندما يعمل قادتها بدأب وتتعامل معهم بشفافية ووفق خطط وسياسات واضحة. وتعتبر التجربة الماليزية فى هذا المجال مدرسة فكرية ومرجعية اقتصادية ناجحة للتعامل مع قضايا مالية واقتصادية، لم يتوقف الأمر عند اعتراف مهاتير باستشراء الفساد فى بلاده بل شن حربا ضد تجارة العملة ونجح فى القضاء على تجارة العملة.
فى بداية التسعينيات كانت هونج كونج فى طريقها لتصبح من الاقتصادات القوية فى آسيا إلا أن الأزمة الاقتصادية الأسيوية عام 1998 أثرت عليها ثم تأثرت مجددا بمرض السارس الذى اجتاح البلاد عام .2003 لكنها سرعان ما تعافت مجددا حيث ساهم انخفاض التكلفة على دعم القدرة التنافسية للصادرات ونجحت الحكومة فى إنهاء التضخم. واليوم تحتل هونج كونج المرتبة الحادية عشرة من بين أكبر كيانات تجارية فى العالم. ومؤخرا تم تصنيف هونج كونج كأكثر اقتصاد حر فى العالم وذلك للمرة الثامنة عشرة على التوالى.
ولا يمكن فى هذا السياق أن نغفل كوريا الجنوبية التى تعد من أفضل النماذج لدول نجحت فى تخطى أزمتها المالية والتحول من دول مثقلة بالأعباء الاقتصادية إلى دول منتجة غنية متقدمة. تحولت كوريا الجنوبية من ثالث أكثر الدول الأسيوية فقراً فى الخمسينيات إلى الدولة صاحبة المرتبة الثالثة اقتصاديا فى آسيا بعد كل من الصين واليابان بل العاشرة على مستوى العالم. تشكل الصادرات اليوم 40% من النشاط الاقتصادى بفضل قوة قطاع الصناعة حيث تتخطى صادراتها المائتين وخمسين دولاراً سنويا. منذ عام 2000 حققت كوريا الجنوبية تقدما هائلا على صعيد الاتصالات والتكنولوجيا ووصلت إيراداتها اليومية منها عام 2005 ما يفوق 300 مليون دولار.
واليوم تتصدر كوريا الجنوبية قائمة تنمية تكنولوجيا المعلومات والاتصالات حيث أحرزت المرتبة القيادية فى العالم للعام الثالث على التوالى فى مؤشر تنمية تكنولوجيا المعلومات والاتصالات الذى اختبر مائة وخمسة وخمسين دولة من حيث الوصول لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات واستخدامها والمهارات وفقا لبيانات حديثة من قبل الاتحاد الدولى للاتصالات وهى وكالة متخصصة تابعة للأمم المتحدة فى تكنولوجيا المعلومات والاتصالات.
ومؤخرا نصح رئيس البنك الدولى »جيم يونج كيم« الدول الفقيرة بالاقتداء بقصة الكفاح الاستثنائية لكوريا الجنوبية ورحلتها من الحرب والفقر نحو النمو والازدهار. مشيرا إلى أنها تقدم للعالم رسالة مفادها أنه حتى الدول التى تواجه أصعب الظروف بوسعها التطور والازدهار.■
لولا دا سيلفا
مهاتير محمد