الأربعاء 21 مايو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد امبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد امبابي

مسودة دستور .. تُسوّد وجوه من وضعوها

مسودة دستور .. تُسوّد وجوه من وضعوها
مسودة دستور .. تُسوّد وجوه من وضعوها




 


يقول الله فى القرآن الكريم «ولا ينبئك مثل خبير»، وإذا كان البعض يقف عند علم الظاهر فإنه لن يصل إلا للشىء الذى رآه طافيا على السطح، ولكن الأعمال كما هى بخواتيمها، فهى أيضا ببواطنها وبواطن مسودة الدستور التى طرحتها الهيئة التأسيسية على الرأى العام لمناقشتها تدل على أن مصر استغنت عن رجالها أصحاب القدر والقيمة ووضعت بدلا منهم فى موضع التشريع أفرادا لا يعرفون الألف من كوز الذرة، ولم يسبق لهم أن عرفوا ما هو الدستور وما هى مفاهيمه وكيفية صياغته ولله الأمر من قبل ومن بعد.


كانت الآفة الكبرى أن جلس على رأس الهيئة التأسيسية للدستور رجل ـ هو المستشار حسام الغريانى ـ قيل إنه وهب عمره للدفاع عن استقلال القضاء واحترام أحكامه ، فإذا به يجلس فى مقعده بالمخالفة لأحكام القضاء دون أن يرمش له جفن أو تتحرك ذاكرته القضائية تحركا إيجابيا، ولكن لأنه أصبح رئيسا لهيئة ستضع دستورا وسيكتب اسمه فى التاريخ.. لذلك لا ضير أن تهدر أحكام القضاء، بل ولا ضير أيضا أن يصرح سيادته تصريحا مفجعا مفزعا بأنه لو صدر حكم جديد من محكمة القضاء الإدارى بحل الهيئة التأسيسية للدستور.. فإن الرئيس مرسى سيقوم بتشكيل الهيئة التأسيسية الجديدة على ذات نمط المحلولة وبنفس الأشخاص، وهو أمر شبيه بما كانت تفعله وزارة الداخلية فى عهد مبارك إذ عندما كانت تصدر أحكام من محكمة أمن الدولة العليا بإلغاء قرارات اعتقال لمواطنين فإنها ـ أى الداخلية ـ كانت تفرج عن المعتقل تطبيقا لأحكام القضاء، ثم قبل أن يخرج المعتقل المسكين من بوابة السجن تقوم باعتقاله مرة أخرى!! وبهذا تكون فى زعمها قد احترمت أحكام القضاء .
كنت أريد رؤية وجه المستشار الغريانى عندما وصل إليه خبر أن أحد المحامين من الإخوان ثار فى وجه المستشار «تناغو» رئيس محكمة القضاء الإدارى أثناء نظر دعوى حل التأسيسية، لم يثر المحامى فقط ولكنه اتهم القضاء بالكفر، كنت أريد معرفة رأيه ورأى الإخوان فى عشرات الأحكام التى كانت تصدرها محكمة القضاء الإدارى فى عهد المخلوع مبارك لمصلحة أفراد من الإخوان وكانت جهة الإدارة تمتنع عن تنفيذها ، وقتها كنا نتهم المخلوع ورجاله بالتعدى على قدسية الأحكام ، ومع ذلك فإن المخلوع احترم العديد من أحكام القضاء ورضخ لتنفيذها ، لم يستطع المخلوع الامتناع عن تنفيذ أحكام حل البرلمان التى صدرت فى عهده! وقام بتنفيذها صاغرا، وعندما أقمت بنفسى دعوى للإفراج عن مرشد الجماعة الحالى محمد بديع لمرور ثلاثة أرباع المدة مع حسن سيره وسلوكه.. لم يكن من الرئيس المخلوع إلا أن اقام إشكالا فى تنفيذ الحكم وعندما صدر الحكم برفض الإشكال قام بالخضوع لحكم الإفراج وأفرج عن محمد بديع، وقتها كنا نتحدث عن قوة القضاء الإدارى - وقضاء المحكمة الدستورية - فى مواجهة مبارك ونظامه، وذهب مبارك وذهبت أيامه فإذا بنا نقول «داونى بالتى كانت هى الداء»، وليقول لسان حال الغريانى ورجاله من الإخوان ، فلتذهب أحكام القضاء إذا كانت ضدنا إلى الجحيم .
ومن المضحكات المبكيات أن المستشار الغريانى اجتهد ما وسعه الجهد فى مسودة الدستور ليضع المادة 66 التى تنص على أن (تصدر الأحكام وتنفذ باسم الشعب وامتناع الموظف العام المختص عن تنفيذها أو تعطيل تنفيذها جريمة يعاقب عليها القانون..)  فإذا جاز لنا أن نتحدث عن الغرائب فى عالم التشريع المصرى فلابد أن يدخل المستشار الغريانى فى هذه الموسوعة الغرائبية، فهو قد تقلد موقعه بالمخالفة لحكم نهائى صادر من محكمة القضاء الإدارى وقد امتنع الموظف العام المختص عن تنفيذ هذا الحكم.. فأصبح بذلك مرتكبا لجريمة، ثم إذا بالغريانى المستشار يضع مادة تحظر الفعل الذى جعله رئيسا للهيئة وتجعل صاحبه مجرما لأنه تعدى على حكم قضائى نهائى!!
ومن كوارث هذه اللجنة أنها شكلت نفسها بنفسها لتكون عنوانا لفئة معينة دون غيرها، تسعى إلى وضع أفكارها وتصوراتها الساذجة فى الحكم، وتستخدم الصوت العالى والذراع والتهديد والميليشيات فى فرض الرأى، ثم لتحمى نفسها مستقبلا إذا بها تضع شرطا تحكميا فى المادة 022 وهو أنه (لا يجوز تعديل الدستور قبل مضى خمس أو عشر سنوات على تاريخ العمل به) أى أن المستشار الغريانى وأصحابه يقولون لنا افعلوا ما تشاءون فإن دستورنا سيظل على رقابكم لا حيلة لكم فيه حتى إذا فرض وانتهى عهد حكمنا!!
ورغم أن مواد هذه المسودة سطحية وسقيمة المعانى وركيكة الصياغة حتى إننا لا نستطيع أن نتعقب أخطاءها من كثرتها إلا أننا سنقتصر فى حديثنا على المواد الخاصة بالسلطة القضائية وبرئيس الجمهورية، إذ ليس من المستساغ أن ننهى حكم فرعون من الفراعين لنضع مكانه فرعونا آخر.
المسودة التى خرجت من الهيئة التأسيسية «المنحلة» تقول إنها مسودة لدستور ينتمى إلى النظام الرئاسى، لم تنتقص صلاحيات الرئيس فيها حتى ولو بمقدار خردلة، اللهم إلا تجميل بعض العبارات حتى يكون وقعها على النفس مقبولا، ولكن ما زال الرئيس هو رئيس كل شىء وهو صاحب كل شىء وهو الأعلى فى كل شىء، ينقصنا فقط أن نقول له سبحانك ، فهو رئيس الدولة ورئيس السلطة التنفيذية، ليس له نائب، ولم يرد بالمسودة أى تفصيل لوظيفة نائب الرئيس،  هذا هو الرئيس الإله الذى قمنا بثورة ضده، فإذا بالإخوة من الإخوان وعلى رأسهم مستشارهم حسام الغريانى يعيدون لنا نسخة مبارك مرة أخرى وكأنها النسخة المصرية المعتمدة التى لا يجوز الخروج عن دائرتها أبد الآبدين.
ما هو وضع السلطة القضائية فى مسودة الدستور؟! خلت المسودة على كثرة عباراتها من أى شىء ذى قيمة يتعلق بالقضاء والسلطة القضائية، مجرد عبارات عامة منقولة من دستور 1791 ثم سكتت المسودة سكوتا أبديا عن الهيئات القضائية وتنظيمها، فقط تحدثت عن مجلس الدولة فى مادة واحدة والمحكمة الدستورية فى أربع مواد، فإذا ما نظرنا إلى مواد المحكمة الدستورية نجدها وكأنها مواد انتقامية وتصفية حسابات، فالمادة  281 تنص على  أن (المحكمة الدستورية العليا جهة قضائية مستقلة قائمة بذاتها، مقرها مدينة القاهرة وتختص دون غيرها بالفصل فى دستورية القوانين واللوائح دون الفصل فى الدعوى الموضوعية...) وعبارة دون الفصل فى الدعوى الموضوعية هذه تبين الروح الثأرية للإخوان وهم يضعون مسودة الدستور، إذ إنهم وضعوا ما يتعلق بـ«الدعوى الموضوعية» على خلفية حكم حل البرلمان الصادر من المحكمة الدستورية على وهم منهم أن هذا الحكم قضى فى موضوع الدعوى مع أنه لم يفعل، وهذا يدل على مدى تحصيلهم للقانون وفهمهم إياه، كما أن تقرير تلك العبارة فى النص هى مجرد تحصيل حاصل.. لأن هذا الأمر من المبادئ المتفق عليها التى لم تحد عنها المحكمة الدستورية لو كانوا يفقهون.
ولأن المشرع الإخوانى الذى وضع هذه المسودة لم تكن لديه عقلية قانونية سليمة تنتهج منهجا واحدا، لذلك فإنه وضع فى بداية المادة مبدأ مهمًا هو أن المحكمة الدستورية مستقلة، ثم فى المادة التى تليها جعل من رئيس الجمهورية صاحب الحق فى تعيين رئيس المحكمة الدستورية وأعضائها فأفقدها بذلك قدرا من استقلالها!
وحتى يمنع المشرع الإخوانى الدستورى المحكمة الدستورية من أن تحمى أحكامها سلب منها ما كان منصوصا عليه فى دستور 1791 من أن القانون يحدد الاختصاصات الأخرى للمحكمة، وقد وضح هذا التعمد عندما أوردت المسودة فى المادة 181 اختصاصات مجلس الدولة ثم نصت فى نهاية المادة على أن (... ويحدد القانون الاختصاصات الأخرى للمحكمة).
أما فى شأن المحكمة الدستورية فإنه جعل اختصاصها حصريا فى المواد التى أوردها بالمسودة، ولم يشر إلى حق القانون فى إضافة اختصاصات أخرى للمحكمة، كل هذا سببه أن المشرع الإخوانى أراد أن يسلب من المحكمة الدستورية حق تفسير أحكامها والأمر بتنفيذها ونظر الإشكالات المتعلقة بالتنفيذ، ولعل هذا التغافل سببه المعركة التى حدثت بين الرئيس والمحكمة الدستورية والتى خرجت منها مؤسسة الرئاسة مثخنة بالجراح.. فأرادت أن تنتقم لنفسها من خلال رجالها بالهيئة التأسيسية للدستور، لم يبق لى إلا أن أطالب بضرورة أن يقوم رئيس الهيئة التأسيسية للدستور إن كتب الله لها وله عمرا بتعيين متخصصين فى الدساتير مثل الدكتور العلامة إبراهيم درويش والاستغناء عن مجموعة بعينها من حلاقى الصحة.