الجمعة 25 أكتوبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

حكايات من دفتر أحوال زيجات المعاقين ذهنيًا!

حكايات من دفتر أحوال زيجات المعاقين ذهنيًا!
حكايات من دفتر أحوال زيجات المعاقين ذهنيًا!


فى حضن الجبل، تقع قرية جروجى، صحراء مقفرة وفقر مدقع، منازل قديمة وشوارع ضيقة، تخنق أنفاس الأهالى الذين يسكنون جنبا إلى جنب مع الأموات بمقابر القرية التى تستقبل الزائرين، تعانقهم قبل مصافحة الأحياء، تحكى لهم قصص أناس زارهم الموت قبل أن يذوقوا السعادة، تجرعوا ويلات الفقر ورأوا فى الموت الخلاص.

القرية التى تقع بمحافظة الفيوم، تشكو للدهر قسوة الأيام وتقص عليهم روايات زيجات معاقين ذهنيا أصبحوا آباء وأمهات، تخبرهم بجرائم تقع بحق المجتمع، وأطفال ولدوا لآباء فقدوا الأهلية، ليخالفوا كل الشرائع والقوانين، فيما وصفه أطباء علم النفس بالجريمة غير الأخلاقية.
منذ فترة عُثر على جثة رجل عار تمامًا وسط الزراعات، وقال ذووه إنه معاق ذهنيًا اعتاد الخروج من المنزل والغياب لأيام دون معرفة مكان اختفائه، وندبوا حالهم وبكوا فقيدهم للقريب والبعيد، وضربوا كفًا بكف، كيف ستعيش امرأته وأولاده، دون أن يخطر ببالهم أنهم ارتكبوا جريمة خالفت جميع الأعراف، لم يسألوا أنفسهم كيف قاموا بتزويج رجل معاق ذهنيًا، ودون أن يعرفوا أن حياة نجلهم فاقد الأهلية أو موته لم يكن ليضر أو ينفع زوجته وأولاده، فهو لا يستطيع التفكير لنفسه فما باله بآخرين.
قصة الرجل العارى دفعتنا فى «روزاليوسف» إلى التوجه للبحث عن وقائع مشابهة، وكانت قرية «جروجى» بالفيوم هى البداية، فزواج المعاقين ذهنيًا ظاهرة واضحة، وفور وصولنا استقبلتنا ابتسامات أطفال يغطى وجوههم غبار الرمال، وفضلات بشرية بحضن الجبل الذى يستخدم كمصب طبيعى للصرف الصحى، وبعد ساعات من التقصى، دلنا أحد المارة على منزل يستعد لاستقبال عروس ابنتهم المعاقة، لم نكذب خبرًا، توجهنا مسرعين إلى المكان.
على بعد عشرات الأمتار من المقابر، وجدنا ضالتنا، منزل قديم حوائطه تتداعى بفعل الأيام، وبعد طرق طويل على الباب تمكنا من الدخول، سيدة عجوز تجلس على سرير، وفتاة فى الثامنة عشرة من عمرها معاقة ذهنيًا، تقف بجوار الحائط، وعلى وجهها علامات الذعر، عرفنا فيما بعد أنها العروس المنتظرة، ولكنها تخاف من الأغراب، والتعامل معهم.
حالة من الفزع انتابت الفتاة، هربت مسرعة تحتمى بالعجوز، فى الوقت الذى اقتربت منها أختها «منصورة» لتهدئ من روعها، وبدأت فى سرد القصة مؤكدة أن أختها لا تعانى من إعاقة كبيرة، وتكمن مشكلتها فى أنها لا تحب الاختلاط خاصة مع الأغراب، وأن «العريس» الذى يمتهن الفلاحة، سعيد جدًا بحالتها، ويرى أنه اختيار موفق، وأنه وجد ضالته.
واستكملت شقيقة العروس، أن زوج شقيقتها المستقبلى لا يعرف القراءة ولا الكتابة، وأن الحقل هو كل حياته، وأراد أن يتزوج فتاة تشبهه مستشهدة بالمثل القائل: «كل حلة بتنادى غطاها».
أسرار مدفونة
خرجنا من المنزل، حيث كان فى انتظارنا «على القفصى»، أحد أهالى القرية، والذى أكد أنه سيقودنا إلى حالة أخرى، وفى الطريق بدأ الرجل يقص بعض أسرار القرية المدفونة التى فقدت بوصلة التطور، وعاشت على أطلال الأجداد وتقاليدهم، وقال القصبى: إن الأهالى لا يهمهم إذا كانت ذريتهم تعانى من إعاقة من عدمه، فهم بشر يحلمون بزفاف أبنائهم، يريدون أن يحملوا أحفادهم على أيديهم قبل أن يرحلوا، ويؤمنون بالحكمة القائلة: «الغلبان مش لازم يجيب غلبان زيه».
قادتنا أقدامنا إلى منزل «نوفل»، قصته مختلفة، فلم تسع عائلته لتزويجه، بل قرر الأهالى ذلك بعد وفاة والديه، اللذين تركا له محل بقالة، والذين قرروا تزويجه حتى يفرحوا به، «نوفل» لديه زوجة وثلاثة من الأبناء.. قصة «نوفل» بدأت عندما قسم والده المنزل إلى غرفتين يسكن فى منزل بسيط مكون من غرفتين، اقتطع واحدة منهما لتتحول إلى دكان، أقامه ليحمى ابنه المعاق من الحاجة وغدر الزمن، وسكنوا جميعًا الغرفة الثانية حتى مات الأبوان.
بعد وفاة الوالدين لم يستطع «نوفل» مزاولة التجارة وأغلق الدكان، ففكر الأهالى فى طريقة ليعيش الشاب حياة آدمية، ووقع اختيارهم على «منيرة» لتشارك «نوفل» حياته وتعتنى بالدكان، وتم الزواج وأنجبت منيرة 3 أبناء لـ«نوفل»، جميعهم لم يرثوا مرض والدهم.
اقتربت «منيرة» زوجة «نوفل»، وقالت إنها مثل باقى الفتيات، تسعى للستر، وعندما عرض عليها أبوها الزواج من «نوفل» لم تتردد: «غلبان وراضى بالمقسوم، يخرج طوال اليوم ولا يعود إلا فى المساء».
وأضافت منيرة: «نوفل» راجل بيطلع يشتغل طول اليوم فى شيل الطوب والأسمنت»، ولكنها عادت لتقبض فمها بالكلام المعسول، وتقول إن التعامل معه صعب، فقد اعتاد ضربها وكذا يضرب الأطفال فى الشوارع، مشيرة إلى أنها لا تعرف ماذا تفعل عندما تأتى أمهاتهم للشكوى منه، وفى أغلب الوقت يتعرض أبنائى للضرب بسببه بدافع الانتقام، حيث يقوم الأطفال بضرب أبنائى بدلاً من والدهم.
منيرة واصلت حديثها قائلة: إن أهلها  أكدوا لها أنها ستكون المتحكمة فى كل شىء، وأنه ليس من العيب أن تتزوج الفتاة برجل يعانى إعاقة ذهنية، فالرجل رجل، ولكن عليها أن تتوخى الحذر فى تعاملاتها، فعادة ما تثار حول تلك الزيجات الكثير من الشائعات، واستكملت: «نوفل بيغير عليا وبيدقق فى لبسى وأنا خارجة، ويطلب منى إزالة الكحل من عينى هو واعى بس غلبان».
وأنهت حديثها الذى ظل «نوفل» يرمقها بالنظر خلاله قائلة إنها تسعى لتربية أبنائها، مؤكدة أنهم أصحاء ولم تطلهم أى نسبة تخلف، وأنها سعيدة بعملها فى بيع المنظفات وبعض الحلويات بمحل زوجها، بينما يعيشون جميعًا فى غرفة أخرى.
ناس مبروكة
بينما نسير فى شوارع القرية، صادفنا «صلاح السيد»، شاب مفتول العضلات، ابتسامته تزين وجهه، وأخبرنا أحد الأهالى أنه يعانى من إعاقة ذهنية شديدة، وأنه تزوج مرتين، وحالته صعبة للغاية.
قادنا الدليل إلى منزل شقيقته «سناء»، أخبرتنا أنه طلق زوجته الأولى لأنها كانت عقيمًا، واكتشفنا ذلك بعد عامين من الزواج، وذلك بعد زيارة لعدد من الأطباء فى البندر، حاولنا معها كثيرًا، ولكن دون جدوى، حتى إننا اتجهنا لـ«الناس المبروكة» ووصل بنا الحال إلى أنها «استحمت بليفة وصابونة أحد الموتى، المشايخ قالوا لنا كدا»!
لم نيأس واتبعنا طريقة شعبية معروفة بـ«المشاهرة» أى أنها دخلت على سيدة خلال عملية الوضع، وأدخلناها قبرًا فى الليل، ونامت بجوار الموتى لدقائق، خلال أول أيام دفنهم، وكل هذا دون نتيجة تذكر، «فطلقناها»!
أثناء حديث سناء كان «صلاح» يلاعب طفلتها الرضيعة، وقد سقطت من يده، وأخذت الطفلة فى الصراخ، وصلاح لا يبالى، حتى التقطت والدته الطفلة وحاولت إسكاتها، وانطلق لاستكمال لهوه، فتقول أخته، أنها وشقيقها الأصغر «محمد» يراعيان أطفال  شقيقهم الأكبر «صلاح» بسبب مرضه، وأصعب ما فى الأمر هو أن الزوجة الثانية لـ«صلاح» معاقة ذهنيًا هى الأخرى، فكان محمد يشرح لهم كيفية الجماع.
دقائق قضيناها مع «سناء» بينما عادت الأم من الخارج، وملامح الجدية تبدو على وجهها، قصت عليها سناء ما دار، فأخبرتنا أن «صلاح» ابنها البكرى، وأنها كأى أم تسعى لليوم الذى ترى فيه ابنها «فى الكوشة» وبينما الحديث دائر، إذ خرجت زوجة «صلاح» تصرخ، وهو يلاحقها، صرخات تملأ المكان، بينما سناء حالت بينهما، وقالت إن هذا وضع طبيعى يحدث أكثر من مرة خلال اليوم الواحد، حيث يقوم «صلاح» بضرب زوجته لأتفه الأسباب.
كوم تراب
انتهينا من قصة «صلاح»، وفى الطريق أشار علينا أحد أهالى القرية، بالذهاب إلى منزل «سميحة».. وعبر الشوارع الضيقة، سرنا ربما 5 دقائق حتى منزل بالطوب الأبيض لم يكتمل بناؤه، يرفعه عن الأرض كومة من التراب، ولا توجد سلالم للصعود، تسلقنا التلة الصغيرة حتى باب المنزل الملوح بالخشب، وتغطى الشبابيك ببطاطين قديمة، وهناك فى إحدى الغرف تجلس سيدة فى العقد الثالث من العمر، مغطاة الرأس، يملؤها الخوف، حبست خلف نصف باب خشبى، تبين أن اسمها «عزة».
سارعت «سميحة» زوجة أخى «عزة» قائلة إن شقيقة زوجها تعانى من مرض نفسى، وأنها اضطرت لحبسها خوفًا عليها من ضرب الأطفال.
قالت: إنها لا تريد أن تحبس عزة أخت زوجها، ولكنها تضطر لذلك بسبب حالات الصرع والغضب التى تنتاب تلك الفتاة فتقوم بضرب الأطفال فى المنزل وأيضًا الشارع، ولا يجدون حلاً سوى إعطائها أدوية منومة أو مهدئات، لتنام وفى حالة عدم وجود تلك الأقراص لا يجدون بدًا من حبسها لمنع أذى الأطفال، وإن زوجها يعمل فى الفاعل، ويوميته لا تتعدى 05 جنيهًا، ما يجعلهم عاجزين عن دفع مصاريف علاج شقيقتها، وكان حلهم الوحيد هو شراء المنوم من الصيدلية وحمايتها داخل المنزل، وأكدت أن هناك حالات كثيرة بالقرية مشابهة لحالة شقيقتها «الناس هنا غلابة قوى».
ومن الفيوم إلى «عزبة فاطمة» بمحافظة البحيرة، سألنا عن منزل السيد جابر، بدا الاسم غريبًا على سمع المارة، إلى أن قال شخص: «أنتم عاوزين بيت أبو قطة»؟
كان البحث باسم «أبو قطة» أسهل كثيرا، فهذا الاسم الذى أطلقه عليه أهل القرية، وفور وصولنا المنزل، رمقتنا تلك العجوز الجالسة على كنبة بمدخل المنزلة، بنظرة يملؤها الشك، حتى طمأنها شخص كان بصحبتنا، وطلبنا منها أن تحكى لنا القصة من البداية.
11 طفلاً هم أحفادها، من خمسة أبناء أنجبتهم من «السيد» زوجها وابن عمها فى الوقت ذاته.
بدأت صفية حديثها بأن الفتاة فى القرى لم يكن لها رأى فى قبول أو رفض الزوج إذا اتفق الأهل، موضحة أن السيد ابن عمها، والذى أطلق عليه بعد ذلك لقب «أبوقطة» قام بأخذ الخلخال الخاص بها، ووضعه برقبة إحدى القطط التى كانت موجودة بالمنزل، والتى فرت هاربة به فوق المنازل ولم أعثر عليه بعد ذلك.
وقالت: «عانيت لسنوات بسبب هذه الزيجة، فهو كان يعمل شيالاً بالأسوق، وعند عودته من السوق كان لا بد أن يجد السرير نظيفًا، ثم ينام عليه بملابسه المتسخة، وإذا لم يجدنى قد قمت بتغيير فرش السرير يقوم بضربى أمام أولادى، حيث أنجبت منه خمسة أبناء، وكلهم بحالة جيدة وطبيعية، موضحة أنها لم تشعر في يوم واحد بالسعادة، ولكن قبلت حياتها على ما هى عليه لتستمر الحياة، وفضلت تربية أبنائها الخمسة الذين سلك كلٌ منهم حياته، حيث قام ابنى الكبير بفتح حضانة بمشاركة أخته الكبرى، وآخر يعمل سائق توك توك».
أصل وصورة
القصة تعيد نفسها، فى نفس القرية، حيث كانت حالة مشابهة تمامًا، عندما تزوجت «علية» إحدى بنات القرية من الشيخ «محمد. ص» والذى يعانى من تخلف عقلى خفيف، وهو الابن البكرى لشيخ القرية، والفرحة الأولى لوالده، والذى أصر أن يزوجه مثل إخوته، ليفرح بذريته، ولكن تأتى الرياح بما لا تشتهى السفن، حيث لم ينجب الشيخ محمد بسبب مرض يمنعه من الإنجاب، ورغم ذلك لم تطلب «علية» الانفصال عنه، لتؤكد أنها راضية بقضاء الله، وأنها لا تريد سوى أن تموت وهى فى منزله، رغم أنها لم يكن لها رأى فى زواجها من الشيخ، ولكن والديها وافقا على «محمد» لأن والده حسن السمعة، ومن أسرة ميسورة الحال.
«علية» أكدت أنها لم تطلب الطلاق رغم أن أغلب الأطباء أكدوا أنها يمكن أن تنجب، ولكنها كانت راضية بحياتها وسط أهل «الشيخ» والذى يعانى من إعاقة ذهنية خفيفة، وقالت: «يذهب خمس مرات يوميًا لرفع الأذان فى المسجد، ولكنى أقوم بتوجيهه لكى يعى طبيعة التعامل مع أهل القرية، ومع إخوته وجيرانه، لأنه يتعامل بطريقة طفولية طوال الوقت.
ظلم الزوجة
قال الدكتور حسن خليل أستاذ الفقه، بجامعة الأزهر: إنه يجوز للشخص المعاق ذهنيًا أن يتزوج، فهو إنسان وله احتياجاته مثل باقى البشر، ولكن يجب أن يميز الزوجة من ابنته وأمه، وإذا تعذر ذلك فلا يجب السماح له بالزواج.
وأضاف أنه بالنسبة لبعض المعاقين الذين يتركون منازلهم لأشهر، ويهيمون على وجوهههم فى البلاد، ثم يعودون مرة أخرى، فلا يجوز لهم الزواج، ففيه ظلم للزوجة والأبناء، فهو رب الأسرة وإذا فقد أهلية التصرف، فزواجه ظلم وهذا يقره الطبيب، إذا كان يستطيع التمييز من عدمه.
واستكمل: إذا كان الزوج لا يستطيع أن يعطى زوجته السكن والمودة والرحمة فلا يجوز الزواج، والزوجة كذلك إذا كانت لا تستطيع التمييز فلا يجوز الزواج بها، نزولاً على قوله تعالى: «يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر»، فالزواج قائم على المودة والرحمة وبناء أسرة، وإذا انعدمت المقومات فلا يجوز الزواج نهائيًا.
من جانبه قال الدكتور إبراهيم مجدى أستاذ علم النفس: إنه ليس من الضرورى أن ينجب الأزواج من ذوى الاحتياجات أطفالاً بنفس الإعاقة، فالإعاقة الذهنية تختلف عن الإعاقة النفسية والتى تورث للأبناء بنسبة من 51 إلى 02 %، أما بالنسبة للأمراض العقلية فليس من الضرورى أن تورث، حيث إنه يمكن أن ينجب الآباء المختلون أطفالاً طبيعيين تمامًا، ولكن إذا كان أحد الزوجين عاقلاً، وليس الطرفين.
وأشار أستاذ الطب النفسى، إلى أن الأمراض العقلية تتدرج ما بين محدودى الذكاء والمنغوليين، وهناك عشرات الدرجات، فمن الممكن أن يتم الزواج بشكل طبيعى دون أدنى مشكلة، وقال: «يتعاملون مع أبنائهم بغريزة العاطفة، أما بالنسبة للأفكار فأغلبها يستمد من المجتمع وليس الأب أو الأم المعاقة».