الأحد 19 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

العظيمة اسمها فاطمة

العظيمة اسمها فاطمة
العظيمة اسمها فاطمة


«ابن الست».. كان اللقب الذى صاحب إحسان عبدالقدوس لفترة طويلة، والذى حاول التمرد عليه لكنه لم يرفضه، «صحيح أننى تمردت على لقب «ابن الست» الذى ظل يطاردنى لسنوات طويلة، ولكننى فى نفس الوقت لم أرفضه لأن أصحابه كانوا يريدون بطريقة خبيثة أن ينسبوا كل نجاح أحققه وكل نصر أتمكن منه إلى هذا اللقب وكأنى مجرد كائن يحسن التسلق على اسم أمه وشهرتها»، بهذه الكلمات لخصت الدكتورة أميرة أبوالفتوح فى كتابها «إحسان عبدالقدوس يتذكر» الصادر عن الهيئة العامة للكتاب 1982، المشكلة كانت تؤرق «عبد القدوس» طيلة حياته.
الاحتفاء بمئوية ميلاد الكاتب والأديب والروائى إحسان عبدالقدوس لا يمكن أن يمر دون أن نتوقف أمام العلاقة الفريدة بين فاطمة اليوسف ونجلها إحسان عبدالقدوس.. التى لم تكن علاقة الحب الطبيعية بين أم وابنها، ولكنها علاقة تحمل مشاعر خاصة منذ اليوم الأول لولادة إحسان ولم تنته برحيل فاطمة اليوسف.
«إليك يا بنى.. أهدى لك هذه الذكريات الناقصة كما تقول.. وإنك لتعلم أن من الأشياء ما يصعب على المرء أن يقوله أو يوضحه.. وأنه ليكفى أن تكون عالمًا بما فى هذه الذكريات من نقص لأطمئن إلى أنك سوف تكملها ذات يوم!».. كان هذا إهداء فاطمة اليوسف لنجلها إحسان فى مذكراتها التى سمتها «ذكريات».
فى يوم وفاتها كتب إحسان مقالاً تحت عنوان «الحياة لن تتوقف»!، قد يظن البعض أنها قسوة قلب، لكن حينما تتابع ما كتبه تدرك الكثير من المعانى، حينما قال: وقمت أسير فى العالم الآخر الذى أعيش فيه مع أمى.. وخرجت من الشرفة.. فوجئت مفاجأة كادت تخلع قلبى، لقد رأيت رجلا يسير فى الشارع ومركبًا تطفو على سطح النيل وعربة محملة بالخضار وورودًا جميلة فى الحديقة المجاورة.. وطلبة وطالبات وبائع جرائد يصيح .. صباح الخير!.. إننا لسنا فى العالم الآخر .. إن الحياة لم تتوقف، وعدت من الشرفة لأبحث عن أمى وأبشرها بأن الحياة لن تتوقف.. إن بابها مغلق.. أغلقوه بالمفتاح حتى لا أصل إليها!.. ووقفت طويلا أمام الباب.. ثم أقنعت نفسى.. أقنعت نفسى أنها ماتت.. أمى ماتت!
فاطمة اليوسف لم تكن مجرد أم لإحسان فقط، بل معلمته وملهمته، فقط كتب عن اليوم الأخير فى حياتها، قائلا: «كانت الحياة تسير فى يسر.. والنشرة الجوية تؤكد أن الجو معتدل.. لا عواصف ولا زلازل.. تحملنى الابتسامات إلى مكتبى وأجلس فى استرخاء أقلب فى الصحف وأرشف فنجان القهوة وأنفث دخان سيجارتى لا شىء يقلقنى لا شىء أخافه.. إننى مطمئن.. ويسرى فى الدار صوت رقيق عذب كأنه صوت طفلة.. كان ما يميزه عن صوت البنات أن فيه رنة حزم ونبرة ثقة.. لم يكن صوتًا عاليًا، لكنه كان صوتًا لا يذوب.. تتسع موجاته فى هدوء.. تتعدى الجدران حتى تصل إلى بعيد ووصل الصوت العذب إلى مكتبى فضويت الصحيفة بسرعة وأبعدت عنى فنجان القهوة وأسقطت السيجارة من بين أصابعى وأمسكت بقلمى وبدأت أعمل.. كالتلميذ عندما يحس بقدوم أستاذه.. لقد وصلت الأستاذة إلى الدار .. وسمعت صوت قدميها تصعد السلم وجاءت السكرتيرة نرمين تقول لى الست طلعت فوق.. فى الإدارة!
يكمل عن حكايات اليوم الأخير: «بعد فترة سمعت صوت قدميها وهى تنزل فجاءت نرمين -يقصد نرمين القويسنى مديرة مكتب إحسان عبدالقدوس آنذاك-  تقول لى: الست نزلت تحت فى المطبعة!.. ثم سمعت صوت قدميها تصعد مرة ثانية وقالت لى نرمين : الست فى مكتب الأستاذ بهاء - يقصد أحمد بهاء الدين رئيس تحرير صباح الخير آنذاك- ثم جاءت لى بعد فترة تقول لى: الست فى «أوضة» الرسامين.. ثم: الست فى مكتبها مع مستوردى الورق!
يضيف: «فى هذا اليوم الذى كنت أشعر فيه بالاطمئنان على يومى وغدى كنت أنتظرها لتدخل مكتبى كعادتها بعد أن تتم جولتها فى الدار.. كنت أنتظرها وقلبى يدق كأنى على موعد مع حبيبتى.. وهى حبيبتى.. إنها ليست كالرجال كما أرادوا أن يصفوها.. أن قوتها مغلفة بالحب بالحنان بالرقة.. إنها جميلة .. جميلة جدا.. أجمل سيدة فى حياتى.. وجاءت حبيبتى ووقفت قافزًا كأنما جاء فى ركابها موكب العظماء.. وخطوت إليها وانحنيت أقبل يدها وأرفعها إلى جبينى كما عودتها وقبلتنى فى جبينى كما عودتنى وقالت: «إزيك النهارده يا حبيبى»، قلت وأنا أشعر بصباى: «الله يسلمك يا ماما»، فقالت: «مبوز النهارده ولا بتضحك»، قلت: بضحك، فقالت: «اوع تبوز.. عايزة أشوفك بتضحك دايما»!
وعن آخر ما يذكره إحسان لوالدته: «فى المساء كنت جالسًا فى مكتبى أكتب قصة ثم بدأت القصة الكبرى عندما دق جرس التليفون فى مكتبى وأنا مازلت أكتب قصتى يملؤنى الغرور بأنى أستطيع أن أخلق حياة على الورق وأحرك أشخاصها كما أريد.. وقال الصوت فى التليفون: «والدتك تعبانة شوية.. هات دكتور وتعال»!
يضيف: «أمرت عامل التليفون بأن يبحث عن الطبيب.. وعندما أكتب صادرًا فى غرورى ثم فجأة تنبهت.. وألقيت بالقلم من بين أصابعى كأنه يلسعنى، تنبهت إلى أن الذى خاطبنى قال لى: تعال! .. إنهم فى العادة لا يستدعوننى عندنا تمرض أمى .. ولكنه قال: تعال، وارتديت سترتى وهرولت على السلم وركبت سيارتى الوساوس السوداء تملأ رأسى وأقنعت نفسى لا بد أنها أكلت شيئًا دسمًا فعاودتها نوبة المرارة، ودخلت البيت وقد وضعت بين شفتى ابتسامة كبيرة وفى رأسى بضع كلمات كأنها نكات لعلها تضحك لها.
البيت هادئ هدوءًا غريبًا.. هدوءًا له رائحة، والذين يستقبلوننى لا يبتسمون لى.. خطوت نحو غرفتها ثم تراجعت قبل أن أصل، لا أحد يكلمنى، وفى البيت طبيب صديق نظرت إليه لعله يتكلم، سألته: هل رأيتها؟، قال وهو لا ينظر إلى: نعم الحالة خطيرة.. هذا كل ما أستطيع قوله، قلت: والنبض، قال: لا أستطيع أن أتحسسه!، قلت: القلب ؟، قال وهو يدير رأسه عنى كأنى أتعبه بأسئلتى: ليس معى سماعة ولا أستطيع
أن أسمعه، أمسكت بذراع الطبيب وقلت له فى لهفة: والتنفس يا دكتور ؟، قال وهو يخطف ذراعى من يدى: نعم .. إنها تتنفس وسكت.
جاء الطبيب الإخصائى ودخل إليها ولم يمكث سوى دقيقتين، ونظرت فى وجهه متسائلا وجزعى يغلب تساؤلى، ولم يتكلم الطبيب ثم سمعت صوتًا لا أعرفه.. صوتًا غريبًا لم ألتق به من قبل.. صوتًا يقول: البقية فى حياتك!، وصرخت.. هل أنا الذى صرخت؟ لا أدرى .. ولكننى أحسست كأن شفتى قد انفجرتا وانطلقت منهما صرخة.. «البقية فى حياتك» هذه كلمة لا تقال لى لا يستطيع أحد أن يقولها لى.. ليس لى حياة كاملة إلا مع أمى».
هكذا كتب إحسان بلغة أدبية يصف فيها كيف ودع أمه بعد الفراق وكيف وصف آخر أيامها.. ولكن هل كانت فاطمة اليوسف هى المرأة الوحيدة فى حياة إحسان عبدالقدوس، ماذا عن زوجته وكيف أثرت فى حياته، «لولا»، والتى قال عنها: «هى حبى الأول والأخير، وقد لا يصدق الكثيرون هذا، ولكنها الحقيقة فمنذ عرفتها فى مطلع 1943 وكنت حينذاك طالبًا بالحقوق لم تستطع أى امرأة أن تزحزح مكانها فى قلبى، لقد أعطتنى الصورة المثالية للزوجة التى تفهم دورها فى حياة زوجها».
زواج إحسان، من حبه الأول كان أزمة كبيرة، فكلاهما يحب الآخر، لكن نظرة أسرة «لولا» لم تكن نظرة رضا، فكان قراره فرض الأمر الواقع على الجميع، بالزواج سرًا، داخل منزل محمد التابعى، فى عصر أحد أيام نوفمبر سنة 1943، وبعد أن اكتشفت أسرة «لولا» زواجها السرى، بعد ثلاثة أشهر، يقول إحسان: «لاحظت أخوات «لولا» البنات شيئًا ما بينى وبينها، ولكن لم يخطر ببالهن إطلاقا أننا متزوجان فضيقن الخناق عليها وشيئًا فشيئًا منعوها من الخروج واستدعونى، لإقناعى بالابتعاد عنها، ولا داعى إطلاقًا لفكرة الزواج.. فغلت الدماء فى عروقى فأخبرتهن فى الحال أننا تزوجنا منذ ثلاثة أشهر فأغمى على أختها الكبرى فى الحال».
انتصر إحسان لحبه الأول، بكتب كتاب صورى وإحضار نفس المأذون الذى عقد قرانه السرى، لكن أمه فاطمة اليوسف كانت رافضة لزواج ابنها لصغر سنه فقط، وكان قرارها الصادم بعدم حضور الفرح.
وعن المفارقة بين أمه وزوجته كتب إحسان : «قبل أن أقول رأيى فإنى مضطر أن أعرض المؤثرات التى صحبت حياتى الشخصية والتى كان لها الأثر الأقوى فى تحديد هذا الرأى .. فإنى منذ بدأت أتحمل مسئولية تحديد رأيى وتحديد موقفى وأنا مدين بالفضل فى بناء كيانى كله لسيدتين هما أمى وزوجتى.. ليس لمخلوق آخر فضل على.. ففضلهما لا يقتصر على بناء حياتى الخاصة ولكنهما صاحبتا الفضل الأول فى بناء حياتى العامة.. فى تكوين شخصيتى التى كافحت بها، وفى إعانتى على احتمال الصعب،  وفى اجتياز السقطات».
ويكمل فى وصف أمه وزوجته: «رغم اشتراكهما فى الفضل، فقد كان هناك دائمًا ما يجبرنى فى الوصول إلى رأى محدد فى صفات المرأة وفى وضعها الاجتماعى.. للخلاف الكبير فى الصفات وفى الوضع الاجتماعى بينهما.. بين أمى وزوجتى، أمى امرأة عاملة، وزوجتى امرأة ليست عاملة.