الأربعاء 26 يونيو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

الغضب الذى أكل جون شتاينبك

الغضب الذى أكل جون شتاينبك
الغضب الذى أكل جون شتاينبك


كتب: مارتن كيلتون

ترجمة: رولا عادل رشوان

حلّت فى العشرين من ديسمبر الماضى الذكرى السنوية الخمسين لوفاة الكاتب الأمريكى جون شتاينبك، والذى سيكون موضوعًا لسيرة ذاتية جديدة تصدر قريبًا هذا العام. تكشف السيرة عن كون مؤلف كتاب «عناقيد الغضب» والحائز على جائزة نوبل، رجلًا معقدًا ومثيرًا للجدل.

فى إجلال ذاتى لموهبته، يقول جون شتاينبك، عملاق الأدب فى القرن العشرين، الذى توفى فى 20 ديسمبر 1968 عن عمر يناهز 66 عامًا: «أرسيت بصمات فارقة فى تاريخ الأدب».
بينما منحته روايات مثل «عن الفئران والرجال»، «عناقيد الغضب» و«شرق عدن» شهرة عالمية، ظلّت بعض الحقائق عن حياته الخاصة مجهولة واستغرقت ما يقارب نصف قرن لتظهر للضوء. كان شتاينبك رجلًا معقدًا ومتناقضًا - أغرب حتى مما كنا نعتقد.
«غاضب من العالم» هو عنوان السيرة الذاتية الجديدة التى ستصدر فى عام 2019، والتى تفسر بمبدأ الشك حقيقة أن شتاينبك كان رجلًَا غاضبًا. كان غاضبًا من الظلم والفقر والتحيز، كما أخبر عنه مضمون رواياته. كما أن غضبه امتد حد توجيه عدائه الشخصى وتفريغ شحنات استيائه تجاه أدولف هتلر، زوجته الثانية أو حتى نقاد الأدب.. «يا لهم من كائنات طفيلية».
لاحت إمارات غرابة شخصيته فى سن مبكرة؛ كان حلم شتاينبك بأن يصبح كاتبًا محترفًا يراوده بالفعل إبان التحاقه بجامعة ستانفورد فى عمر السابعة عشرة لدراسة الأدب الإنجليزى، وقد حاول ذات مرة التسجيل للحصول على دورة عملية فى كيفية تشريح الجثث. «أريد أن أتعلم أكثر عن حقيقة تكوين البشر»، هكذا فسّر رغبته الغريبة لعميد الطب بكل وضوح، غير أن طلبه قوبل بالرفض. خسره عالم الطب وفازت به دنيا الأدب التى استمر فى تزكيتها بإبداعه حتى فاز بجائزة بوليتزر فى فئة الرواية (1940)، وجائزة نوبل فى الآداب (1962) ووسام الحرية الأمريكى (1964).
ساعده عمه فى الحصول على وظيفة كمراسل لصحيفة نيويورك الأمريكية، لكنه سرعان ما فقد شغفه بالصحافة وعاد إلى كاليفورنيا. بدأ بعدها فى العمل كمرشد سياحى، وهناك التقى بزوجته الأولى كارول هيننج، وأقيم عرسه إليها بعد وقت قصير من نشر روايته الأولى، الكأس الذهبى. كان ذلك بداية احترافه لمهنة الكتابة التى أنتج عنها 16 رواية ونوفيلا، ومجموعتين من القصص القصيرة، و11 كتابا غير روائى، ومسرحيتين، و2 سيناريو سينمائى، وكمية كبيرة من الخطابات.
يتصور معظم الناس أن شتاينبك جاء من خلفية فقيرة وأن حياته تشابهت وأى من هؤلاء العمال الذين حكى عنهم فى «عناقيد الغضب»، لكن منزل عائلته فى ساليناس «كان منزلاً فيكتوريًا جميلاً، يقوم على خدمة الأسرة فيه خادمين وخادمات» وذلك بحسب تصريح كاتب سيرته الذاتية جاى بارينى فى عام 1994.
بعد سلسلة من الروايات التى نالت استحسان الجماهير والنقاد، بما فى ذلك «تورتيلا فلات» فى عام 1935، حصل شتاينبك على إشادة من النقاد فى عام 1937 عن روايته «عن الفئران والرجال»؛ الصورة المصغرة المؤثرة لكاليفورنيا فى الثلاثينيات من القرن الماضى التى استطاع القراء معايشة ظروفها بالتفصيل من خلال صداقة العمال الزراعيين الغريبين جورج ولينى. بعد ذلك بعامين جاءت «عناقيد الغضب»، إحدى أكثر الروايات تميزًا فى القرن العشرين، وهو عمل ذو قدرة وصفية غنية، أظهر فيها شتاينبك قدرته على تصوير واستخلاص الشعر من بين ثنايا الفقر فى حياة عائلة جود المهاجرين من أوكلاهوما.
هذه القصة البديعة المؤثرة التى حكت عن اضطهاد العمال المهاجرين، الذين كانوا يفرون من الولايات القفرة إلى كاليفورنيا، مست وترًا حساسًا لدى أمريكا التى كانت تترنح آنذاك فى إثر الكساد الكبير. بحلول فبراير 1940، باعت الرواية ما يقرب من نصف مليون نسخة وكانت طبعتها الحادية عشرة قد صدرت بالفعل. بيعت أكثر من 15 مليون نسخة فى العقود الثمانية التالية ولا يزال يُباع منها نحو 50.000 نسخة فى أمريكا كل عام.
نادرًا ما أجرى شتاينبيك مقابلات للصحف أو الراديو، ولكنه تحدث إلى شبكة إذاعة صوت أمريكا فى عام 1952 حول كيف كان «ممتلئا بالغضب» بسبب سوء معاملة العمال المهاجرين. قال شتاينبك: «كان الناس يتضورون جوعًا وبردًا، ونزحوا مهاجرين بالآلاف إلى كاليفورنيا».
بينما كانت «عناقيد الغضب» تقوم بدورها المنوط فى إكساب مؤلفها شهرة عالمية، كان «شتاينبك» البالغ من العمر 41 عامًا واقعا فى حب مغنية بأحد الملاهى الليلية تبلغ من العمر 22 عامًا وتدعى جوين كونجر، والذى كلل قصة حبه لها بالزواج عام 1943. بعد مرور ثلاثين عامًا، وبينما كانت كونجر سيدة مطلقة فى الخمسينيات من عمرها، تحدثت من خلال سلسلة من المقابلات فى بالم سبرينجز إلى كاتب أعمال يدعى دوجلاس براون عن زواجها بشتاينبك. ظلت هذه المقابلات مجهولة لأكثر من أربعة عقود، حتى تم اكتشافها فى سقيفة إحدى البنايات فى ويلز فى عام 2017.
جُمعت نصوص المقابلات فى كتاب حرّره بروس لاوسون ونُشر فى سبتمبر 2018. رسمت كونجر صورة مزعجة لزواجها من كاتب وصفته بكونه «رجل معقد بشكل فظيع». كان شتاينبك قاسى الطباع تجاه زوجته، وخاصة خلال السنوات التى عانت فيها من صعوبات الحمل، يصور الكتاب شتاينبك باعتباره رجلا فظّا وذا عادات غريبة. قالت كونجر: إن المرّة الوحيدة التى رأته يبكى فيها كانت عندما ماتت فأرته التى سماها «بورجيس». «كان جون رجلا سادىا، تتنازعه مشاعر متناقضة مختلفة».
بعد أن أنجبت له طفلين - توماس 1944، وجون شتاينبك الرابع 1946 - لم تعد تتحمل مرارة العيش إلى جواره فحصلت على الطلاق عام 1948. حصل شتاينبك على ثأره منها بعد بضع سنوات عندما قام برسم شخصية كاثى، الشخصية الشريرة المدمنة للكحوليات فى رواية شرق عدن، والتى كانت إسقاطًا مباشرًا على كونجر. ظل شتاينبك يحارب طليقته فى المحكمة طوال عشر سنوات تالية للتهرب من دفع مبلغ إعالة أطفاله.
عانى شتاينبك من نوبات اكتئاب فى أربعينيات القرن العشرين، وحتى بعد زواجه من زوجته الثالثة إيلين سكوت، كان دائما ما تعاوده نوبات حزنه. قال شتاينبك إنه «انحدر نحو النهاية» فى أكتوبر 1953، بعد عام من نشر شرق عدن، عندما كان يعالج فى مستشفى لينوكس هيل من قبل الطبيب النفسى جيرتروديس برينر. «الروح الحزينة يمكنها أن تفتك بالإنسان أسرع مما تفعل الجرثومة».
فى ذات الفترة التى عانى «شتاينبك» فيها من الاضطرابات النفسية، أنتج بعضا من أغرب أعماله الأدبية. فى عام 1955، نشر قصة قصيرة بعنوان «معضلة 7 شارع م» وهى قصة شبيهة بأدب الرعب عن طفل غير قادر على التخلص من قطعة من العلكة. أينما يضعها، تستمر قطعة اللبان فى العودة إلى فم الصبى. يأسًا من التخلص منها، يقوم الأب بتثبيت العلكة على طاولة الطعام باستخدام الأسمنت، ويستغرق الأمر أسبوعًا حتى تموت قطعة العلكة. أحرق شتاينبك عشرات القصص التى أنتجها فى تلك الفترة.
فى عام 1938، صُدم من التقارير التى نُشرت عن أعمال النهب النازية وحرق المنازل والمعابد اليهودية فى ألمانيا، وكان من بين مجموعة صغيرة من الكتّاب أرسلت برقية إلى الرئيس فرانكلين د.روزفلت لحثه على قطع جميع العلاقات مع هتلر. أصبح شتاينبك بعدها مراسلًا حربيًا من إنجلترا وشمال أفريقيا وإيطاليا لصالح صحيفة نيويورك هيرالد.
كان شتاينبك يحمل فكرًا إيجابيًا متطورًا فى الحقبة التى عانت فيها الولايات المتحدة من العنصرية العرقية، وكان من ذلك أن طالب بحذف اسمه من سيناريو فيلم ألفريد هيتشكوك الذى حمل عنوان «قارب النجاة»، لأنه كان غاضبًا من أن الشخصية ذات البشرة السوداء «الكريمة والهادفة» التى خلقها ظهرت بصورة «مشوّهة».
 كان كتاب السيرة الذاتية جاكسون بينسون (1984) وجاى بارينى (1995) قد حاولوا سابقاً تطويع شخصية شتاينبك العسيرة والمتناقضة، وقد خَلَفهم فى ذلك التحدى المهيب ويليام سيدر، الذى سيصدر كتابه «غاضب من العالم: جون شتاينبك» و«القرن الأمريكى» فى وقت قريب من هذا العام.
يقول سيدر: إنه متحمس للتحدى المتمثل فى الكتابة عن هذا الرجل الغارق فى تناقضاته. «أحد الأشياء التى جذبتنى إلى شتاينبك هو أنه كان أبعد ما يكون عن الكمال - كرجل، زوج، كاتب، كان يعانى من عقد غامضة». « بعض أعماله رائعة وبعضها فظيع. هذا ما يتمناه أى مؤلف - بطل ذو عيوب. كان شتاينبك عملاق أدبى لم يستطع التعامل مع حقيقة أنه كان مهماً. أحببت ذلك فيه. لقد كان يحمل غضبًا نحو العالم لأن العالم بدا غاضباً منه».
لم يكن شتاينبك غاضبا دائما من العالم. قبل عشر سنوات من وفاته، كتب هذا العبقرى المتناقض رسالة لا تنسى إلى توماس شتاينبك، بعد أن كشف له ابنه البالغ من العمر 14 عاما أنه وقع فى حب فتاة تدعى سوزان.
«هناك عدة أنواع من الحب» كتب شتاينبك فى بداية الخطاب الذى ذيله بإمضاء «بابا». «الأول هو النوع الأنانى، اللئيم، المستحوذ، والمغرور. هذا هو النوع القبيح والمقيّد للمشاعر. بينما النوع الآخر هو الذى يصب فى أعماقك كل شعور جيّد من اللطف والاهتمام والاحترام. النوع الأول يمكن أن يجعلك مريضًا وصغيرًا وضعيفًا ولكن الثانى يمكنه أن يمنحك القوة والشجاعة ويلهمك الخير وحتى الحكمة التى لم تكن تعرف حتى إنك تملكها... لا تقلق بشأن الخسارة. إن كان شعورا طيبا فسيبقى ويتحقق - الشىء المهم الآن فى الأمر هو أن تتأنى، الأشياء الطيبة تنتظر ولا تتفلت من بين يديك». 