الأربعاء 21 مايو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد امبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد امبابي

الساعات الأخيرة لـ «سيلفيا بلاث»

الساعات الأخيرة لـ «سيلفيا بلاث»
الساعات الأخيرة لـ «سيلفيا بلاث»


كتبت جوانا بيجس
ترجمة: رولا عادل رشوان


لطالما عانت سيلفيا بلاث من خوف أثير تجاه الخطابات، كان ساعى البريد يعلن دائمًا عن وصوله عبر «صافرة مُدوية»، فى مايو 1958، بينما جلسَت تتناول شريحة من الخبز المحمص مع الزبدة ومربى الفراولة قبل ذهابها لتدرّس صفها فى جامعة سميث، لاحظَت قدوم رجل البريد يحمل «حفنة من سخافات: منشورات دعائية، كوبونات صابون، إعلانات عن تخفيضات سييرز، خطاب من أمى يحمل أخبارًا عتيقة سبق أن تم حكيها عبر الهاتف، بطاقة من أوسكار ويليامز تدعونا إلى حفل كوكتيل فى نيويورك فى اليوم الأخير والأصعب بين أيام فصولى الدراسية، لا أخبار».
 فى أواخر عام 1959، وفى انتظار استلام إشعار كتابى بالموافقة على نشر قصتها القصيرة؛ إشعار لن يأتى،كتبت فى دفتر مذكراتها: «يجب ألا أنتظر البريد فانتظاره يُفسد علىَّ باقى يومى». ثم تكتب فى اليوم التالى: «لا بريد، من أنا؟ لماذا يجب أن يكون الشاعر روائيًا؟ أو لمَ لا؟» ثم، فى أواخر عام 1962، وبعد أن نزعت أسلاك الهاتف من الجدار أثناء مشادة مع زوجها، تيد هيوز، وبعد أن تركها هى وطفليهما الرضيعين فى ديفون، لم يتبق لها هناك سوى الرسائل، وكتبت لوالدتها فى أمريكا: «أنا بخير»، «أحتاج فقط إلى مربية مستقرة، أحتاج إلى الراحة والكتابة والرسائل، أنا أحب الرسائل وأعيش من أجلها».
كتبت بلاث رسائلها فى تلك الحقبة التى كانت الأحبار والأوراق قادرة على إنجاز الأمور المهمة، حينذاك كان بإمكانك أن ترسل برقية أو تلتقط الهاتف من أجل إبلاغ أحدهم بولادة حفيد له، وإنما الرسائل فحملت مهمة أسمَى؛ إبلاغ شخص ما بقبول نشر قصيدته، إرسال شيك نقدى، أو حتى لإغواء حبيب، لقد عرفنا أن بلاث امتلكت نفسًا طموحة، منذ عام 1975، عندما نشرت والدتها، أوريليا، مجموعة مختارة من رسائل بلاث التى أرسلتها لها لمواجهة الانطباع الذى تركه نشر رواية بلاث الوحيدة «الناقوس الزجاجى»، هل يمكن أن تكون «سيفى» المشرقة، المطمئنة، القادرة على مناداة أمها بأرق عبارة؛ «أمى العزيزة»، هى أيضاً أستير جرينوود التى حكت بذلك الوضوح عن تأثير الفودكا «جرت مباشرة إلى معدتى وأحسست أننى خارقة كمن يبتلع سيفًا، قوية كإله»؟
بعد المحاولات المُضنية لآن ستيفنسون، جانيت مالكولم وجاكلين روز من أجل الاطلاع على ملفات بلاث غير المنشورة، خصوصًا بعد انتقال حقوق النشر لـ فريدا هيوز، ابنة سيلفيا، أصبح لدينا الآن النسخة الكاملة غير المختصرة من مذكرات بلاث، بالإضافة إلى نصوص آرييل والإصدار الجديد لمجلدين يحويان جميع رسائلها المنشورة بالفعل، يمكننا الآن فقط استنتاج صورة كاملة عن بلاث، بل حتى يمكننا أن نسمح لها برواية حياتها باستخدام مفرداتها الخاصة، لم يتسن لأى من كتاب القرن العشرين، فى واقع الأمر، بأن يُعيد رسم وتشكيل تفاصيل حياته (أو بالأحرى موته) بعد مرور خمسين عامًا، لم يُمنح أحدهم هذا الحق كما بلاث، أما عن بلاث فقد عاشت سيرتها من خلال حادثة موتها أكثر مما عاشته سيرة أدباء آخرين معاصرين، نُشرت مقتطفات من هذه الرسائل متسلسلة فى الديلى تيليجراف؛ وسيتم الاحتفاء فى العام المقبل باكتشاف ما يبدو كمحاولات بلاث الأولى فى كتابة القصة القصيرة، وتنوى «التايمز» عرض كل ما يمكنها جمعه من تفاصيل عن أيامها الأخيرة على صفحتها الأولى، ربما أدت شهرة بلاث الرائعة أيضًا إلى إبراز هذه الصورة الاستثنائية من كمال السيرة. ربما تكون مذكرات فيرجينيا وولف الوحيدة القابلة للمقارنة فيما يتعلق بتحقق أحلام كاتبة شابة فى حياة وشهرة كانت تأملها، على الرغم من أنها لم تملك يومًا أى قناعة أكيدة بقدرتها الفعلية على تحقيق ذلك، إلا أن أسطورة وولف مختلفة بالطبع.
نشأت الشاعرة والروائية والكاتبة فى أمريكا إبان قيام الحرب الباردة، حيث ظنّت أن الإله قد تنكر لها حين ترك والدها يموت، تمنّت بلاث أن تصير كاتبة أكثر من أى شىء آخر، وأن تتزوج رجلا يجعلها دائمًا تشعر بمشاعر حارقة كفعل الفودكا فى معدتها، وقد حصلت بالفعل على واحد بعد وصولها إلى كامبريدج فى عام 1956، التقت بفارسها ذى الدرع اللمّاعة وتزوجته «فى ثوب وردىّ أهدته لها أمها». نجاح أدبى غير مستقر، زواج يذوى بنيانه بين خيانات، صدامات، وهجر، أما العمل الشاق الطويل فذهبت نجاحاته المنتظرة ذرو الرياح، استيقظت فى الساعة الرابعة صباحًا عندما زالت آثار الحبوب المنومة، ربما وجدت صوتًا ذات يوم مكّنها من نظم قصائد بديعة بطول عمرها، تلك القصائد التى جعلت منها أسطورة، لكنها الآن تعرف أن مفهومها عن حياتها، النفسية وما غير ذلك ، لم يعد قابلاً للمساومة، ولم يكن أبدًا، «أنا أحبك لأنك تستمعين لى»، كان هذا فحوى رسالة أرسلتها بلاث المهجورة الوحيدة لطبيبتها النفسية روث بيشر فى أواخر 1962. وربما قد حان الوقت ليستمع لها بقية الناس.
الخطاب الأول فى المجموعة كان موجهًا لوالدها؛ أوتو. قالت له فى رسالة أرسلتها له، بينما كانت فى زيارة لجديها لأمها زيارة فى فبراير 1940: «سأعود إلى البيت قريباً». «هل تشعر بالسعادة كما أشعر بها؟» كانت هذه أيضًا رسالتها الوحيدة له، ذلك أنه قد توفى بعد تسعة أشهر، بعد المضاعفات التى أعقبت بتر ساقه إثر غرغرينا أصابته نتيجة جهله بإصابته بمرض السكرى. فى الثالثة عشرة، اعتادت بلاث الكتابة إلى والدتها من المعسكر الصيفى كل يوم تقريبًا، كانت دائمًا عرضة لفقدان وزنها، لهذا اهتمت بطمأنة أوريليا من خلال سرد مفصّل لكل ما تناولته وكانت تحكى أيضًا عن أنشطتها، وأرسلت قصائد كانت قد كتبتها لجريدة المخيم («البحيرة كائن/ هادئ، وإنما برى»)، ظلّت بلاث تخبر أمها أنها كانت سعيدة مرارًا وتكرارًا، لدرجة أنك ستبدأ فى التساؤل عما إذا كان ذلك شعورها حقًا.
كان طبعها يتراوح ما بين اللطف والجدية، ونرى جديتها فى الشئون السياسية أيضًا عندما كتبت إلى أحد المعجبين، إيدى كوهين، الذى كان قد سعى إلى مراسلتها بعد قراءة قصة نشرتها فى مجلة «سيفنتين» فى الصيف الذى سبق ذهابها إلى سميث، وكتبت تقول: «لا أعتبر قصتى بعيدة عن الهراء المعتاد الذى تنتهجه «سيفنتين» فى منشوراتها»، «لماذا إذن يحظى هُرائى الخاص بمثل هذا الإطراء؟» رداً على رده، بدأت تمنح نفسها بعض الإطراء: «أحب أن أفكر فى نفسى على أن أفكارى أصلية وغير تقليدية.. مشكلتى الأكبر هى أن ينظر الناس إلىَّ ويظنون أن رأسى الصغير هذا ربما لم يحمل يومًا أى أفكار جدية».
تضاعفت رسائلها إلى أمها عندما وصلت إلى سميث، فى 26 سبتمبر 1950، بعد يومين من وصولها، كتبت إلى والدتها أربع رسائل. (هل هناك حقًا ما يمكننا أن نسميه الرغبة فى أن تظل مُراقَبًا؟) «ما زلت لا أستطيع أن أصدق أننى أصبحت طالبة فى جامعة سميث»! كتبت بلاث بحماسة صبى طائش فى الثمانية عشرة من عمره؛ «يا ويلى، هل سيأتى علىَّ يوم أبدًا يُحرك فيه فتى من السنة الأولى حياتى الراكدة؟» بدا وكأنها تتنهد فى أنين مكتوم فى ذلك الخطاب الذى أرسلته لأمها. كان لزامًا على سيلفيا بلاث أن تكون جيدة فى كل شىء. كتبت فى دفتر مذكراتها «يا إلهى، اجعلنى أفكر بوضوح وألمعية، دعنى أعيش، وأحب وأعبر عن حبى بأجمل عبارات، دعنى أكتشف يومًا ما من أنا».
«لطالما رغبت فى أن أكون جزءاً من كل المشاهد العابرة فى الشوارع، كشخص مجهول، يستمع بدقة ويسجّل كل هذه الأمنيات أفسدتها حقيقة أننى فتاة، أنثى، أعانى دائماً من احتمالية التعرض لمخاطر الاعتداء أو الضرب.. أريد التواصل مع الجميع. أريد أن أكون قادرة على النوم فى حقل مفتوح، والسفر إلى الغرب، والمشى بحرية فى الليل».
فى يوليو من عام 1963، كتبت بلاث عن أول إشارات خيانة هيوز؛ «استيقظت على صوت نسائى يسأل عنه؛ سيدة تعمل فى وكالة إعلانية فى لندن، سيدة راقية، كانت قد تولت مع زوجها الثانى إبرام عقد إيجار شقتنا فى لندن، استضفناهم فى عطلة نهاية الأسبوع ، وإذ دخلت المطبخ فوجئت بانخراطها وتيد فى محادثة حميمية».
وجاءت أقصى لحظات يأسها عندما عثرت على قصائد تيد التى كتبها عن عشيقته، واصفًا لحظات لقائهما الحميمية، متغزلاً فى جسدها العاجى، ورائحتها، وجمالها، قائلا إنه من بين عالم ملىء بالجميلات اختار امرأة شمطاء ليتزوجها، مؤكدًا على أنه «قد استطاع التخلص من خاتم زواجه الذى يلتف حول روحه كأخطبوط».
فى 4 فبراير 1963، كتبت لطبيبتها النفسية: «أشعر أن استجماع قدر بسيط من الإرادة قد يساعد فى تسيير الأمور بسلاسة وثبات من حولى، لا أحد يستطيع أن ينقذنى إلّاى، ولكنى أحتاج إلى المساعدة. إذا تمكنت من الدراسة، القراءة، الاستمتاع بصحبة الناس سيكون رحيل تيد صعبًا وإنما محتمل، أنا يائسة، أفكر أحيانا أن أموت وأترك له كل شىء؛ المنزل والأطفال».
بعد أسبوع، تحديدًا يوم الاثنين 11 فبراير، تم العثور على بلاث ميتة فى المطبخ فى فيتزورى روود، كانت قد تركت الحليب والخبز لأطفالها، وأغلقت باب المطبخ، ووضعت خدها على قطعة قماش فى الفرن وفتحت الغاز، يعتقد أنها توفيت بين الساعة الرابعة والسادسة من صباح هذا اليوم.>