الجمعة 23 مايو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد امبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد امبابي

«مديحة يسرى».. يا جارحة القلب بغيابك

«مديحة يسرى».. يا جارحة القلب بغيابك
«مديحة يسرى».. يا جارحة القلب بغيابك


ماتت «هنومة».. ماتت «مديحة يسرى» آخر عمالقة العصر الذهبى للسينما.. فاضت روحها لتلحق بـ«شادية» و«فاتن».. ذهبت وتركت وراءها إرثًا عمره 97 عامًا من المتاعب والمرض والخيانة والموت والخذلان وقصص الحب التى لم تكتمل، ولقب أحد أجمل عشر نساء فى العالم. وأكثر من 100 فيلم و30 عملا تليفزيونيّا وإذاعيّا.

حُسْنُها خلبَ لُبَّ «عباس العقاد» فأبَى إلا أن يخطفها لتكون من حظوته وعترته فيصبح مقعدها محجوزًا داخل صالوناته الأدبية كل أسبوع، ويكون لها أستاذًا يغدق عليها بالعِلم والمعرفة والأدب، وتكون هى محور كونه وملء عينيه وضالة قلبه وعقله المنشودة، فيكتب روايته الوحيدة «سارة» مستحضرًا صورتها فى كل سطر منها.
قال لها «عبدالوهاب» بعد أن أعطاها اسم شهرتها «مديحة يسرى»: «الورد والياسمين.. اتقاتلوا عالخدين»، و«فوزى» غنى لها: «ياجارحة القلب بعيونك.. يصونها المولى ويصونك»، وصفق لها «يوسف وهبى» بعد أن ظهرت فى مشهد صامت لم يتعد الثوانٍى الثلاث أمام الأستاذ فى فيلم «ممنوع الحب» عام 1940، فكان لقاؤها المصادف مع المخرج «محمد كريم» فاتحة خير عليها.
«هنومة خليل حبيب» بنت حوارى شبرا، كانت تشعر أن الفن هو ملاذها الوحيد، فلم تلق بالاً لغزَل معجبيها، ولا لتأخر أدوار البطولة عنها مدة عامين كاملين، فهى تعرف أن أباها «دقة قديمة» وتدرك جيدًا بطشه، لذلك دأبت على العمل مع «يوسف وهبى» فى أدوار قصيرة، حيث قرر احتكارها فنيّا عام 1943 للعمل معه فى ثلاثة أفلام: «ابن الحداد» و«الفنان العظيم» و«أولادى».
إلى أن عرض عليها المخرج «كمال سليم» دور البطولة أمام «فريد الأطرش» و«تحية كاريوكا»، ودخل المصريون آنذاك السينما قاصدين أحدث أفلام ملك العود «أحلام الشباب»، وعلى أفيشه وجه جديد ساحر بأسارير مصرية شبراوية.
طلبت «مديحة» من الشركة المنتجة للفيلم «أفلام النيل للإنتاج والتوزيع» أن يتضمن عقدها شرطًا جزائيّا بأن تدفع هى أموالاً ضخمة إذا اعتذرت عن العمل، فكانت كالمستجيرة بالرمضاء من النار، فما لبث أن عرف أبوها وطلب منها فسخ العقد، لكن الشركة طلبت قيمة الشرط الجزائى،ليخفت بطشه ويرضخ لرغبة ابنته.
منذ ذلك الحين، ربطتها علاقة قوية مع ملك العود استمرت حتى وفاته، لدرجة أنها كانت تنوى إنتاج مسلسل يروى قصة حياته، إلا أن مرضها حال دون ذلك، وظلت ترثى أيامها معه والأعمال التى جمعت بينهما، فها هى تأسر الجمهور معه فى «شهر العسل» منتصف الأربعينيات، ثم «لحن الخلود» عام 1952.
ومر عقد الأربعينيات بهدوء وسلام وتحل سنون الخمسينيات العشر لتظفر فيها «مديحة يسرى» بنجومية مدوية حصلت خلالها على لقب «سمراء الشاشة» من قبل النقاد والصحفيين، وظهرت على غلاف مجلة «التايم» الأمريكية بعد أن اختارتها ضمن أجمل نساء فى العالم.
وعملت «مديحة» خلال هذا العقد فى أفلام مهمة تشكل جزءًا كبيرًا من تراث السينما، مثل «من أين لك هذا» للمخرج «نيازى مصطفى» ، وفيلم «مؤامرة» و«أرض الأحلام» للمخرج «كمال الشيخ»، و«إنى راحلة» لـ«عزالدين ذوالفقار»، و«أقوى من الحب» مع «عماد حمدى».
ثم تعمل مع حبيب عمرها «محمد فوزى» للمرّة الأولى فى فيلم «قبلة فى لبنان» عام 1945، ثم ساعدته فى تأسيس شركة الاسطوانات الشهيرة «مصر فون» وسرعان ما ظهرا معًا فى «فاطمة وماريكا وراشيل» عام 1949، وهو أول عمل كوميدى لها، و«آه من الرجالة» عام 1950،و«نهاية قصة» عام 1951، و«من أين لك هذا» عام 1952،و«بنات حواء» عام 1954، وأخيرًا «معجزة السماء» 1956.
ورغم تلكم النجومية، فإنها شعرت بحاجة مُلحة لتغيير جلدها فقد سأمت أدوار الفتاة البرجوازية، لذلك عمدت إلى اختيار أفلام مثل «ابن الحداد» و«المصرى أفندى»، وقررت أيضًا الظهور فى أول فيلم عراقى مصرى مشترك وهو «ابن الشرق»، ثم فيلم «بغداد» العراقى أيضًا ومن إخراج «أحمد بدرخان».
دخلت «مديحة» عالم الإنتاج السينمائى من أوسع أبوابه، إذ أنتجت 18 فيلمًا سينمائيّا، أهمها وأبرزها فيلم «الأفوكاتو مديحة» مع «يوسف وهبى»،و«بنات حواء» مع «محمد فوزى»، وحينما تزوجت لأول مرّة من الملحن «محمد أمين»، أسست معه شركة إنتاج سينمائى وأنتجت خلال 4 سنوات، هى عمر تلك الزيجة، أفلامًا شتّى مثل «أحلام الحب» و«غرام بدوية»، و«الجنس اللطيف».
وتميزت سمراء الشاشة بدور الأم، رُغم سنها الصغيرة، فكان فيلم «الخطايا» مع «حليم» و«حسن يوسف» و«عماد حمدى»، أحد أهم أدوارها على الإطلاق، بل أحد أشهر أدوار الأم فى السينما المصرية، ثم نراها فى منتصف الستينيات تجسد شخصية والدة «سعاد حسنى» فى فيلم «عريس ماما»، ودور الأم الرصين وزوجة «صلاح ذو الفقار» فى فيلم «الإرهابى» عام 1993، حين كان آخر أدوارها السينمائية على الإطلاق، هو فيلم «الفرح» عام 1999.
كان لـ«مديحة يسرى» دور مهم فى تشكيل وعى الدراما المصرية فى عصرها الذهبى ألا وهى فترة التسعينيات، حينما قدمت دور «خديجة هانم» فى «هوانم جاردن سيتى»، ثم مسلسل «يحيا العدل»، ومسلسل «طائر العنق» مع العملاق «حمدى غيث» لتثبت للعالم أنها لا تزال حاضرة وبقوة على الساحة رغم الظروف السيئة التى تعرضت لها على مدار حياتها المديدة.
اعترفت «مديحة يسرى» فى تصريح شهير لها، أن جميع زيجاتها فشلت بسبب الخيانة، إذ قالت إنها «لم تجد الحب والوفاء فى كل زيجاتها»، فبعد طلاقها من «أمين» ثم «فوزى» بعد زواج استمر 7 أعوام، تزوجت الفنان «أحمد سالم»، والشيخ «إبراهيم سلامة» شيخ مشايخ «الحامدية الشاذلية».
خلال فترة زواجها من فوزى، عانت «مديحة يسرى» من «مضايقات» الشاعر العظيم وأحد الضباط الأحرار «عبدالمنعم السباعى» الذى كان متيمًا بها، وعكف على تأليف أغانٍ فى عشقها، و«3 سلامات» و«جميل وأسمر» و«قولولى أعمل إيه وياه»، لـ«محمد قنديل» و«أنا والعذاب وهواك» لـ«محمد عبدالوهاب»، و«بياع الهوى راح فين» لـ«محمد عبدالمطلب»، فسرعان ما وصلت أخبار هذا «العشق» للـ«ست» وعرفت أنه ألّف لها خصيصًا أغنية يشكو فيها هجرانها بعنوان «أروح لمين» لتقرر «أم كلثوم» غناءها ثم تتأسر لحال «السباعى» وتقول لـ«مديحة» ذات مرّة: «حرام عليكى عملتى إيه فى السباعى»، لترد عليها «يعنى اتطلق من فوزى وأتجوزه؟!».
وعلى مدار تلك الفترة أيضًا، عانت السمراء من محنتين، أولاهما محنة التأميم، إذ تم تأميم فيلتها فى الهرم وبيعها لوزير عربى متزوج من سيدة مصرية مقابل 25 ألف جنيه، وقد تم أخذ محتويات الفيلا بما فيها ملابسها الشخصية، ولم تحصل منها إلا على «بورتريه» يحمل إمضاء الفنان التشكيلى «صلاح طاهر»، ومصحف مكتوب بماء الذهب.
شعرت «مديحة» بالصدمة وعاشت فى الظل كثيرًا وظلت بجانب «فوزى» فى محنته الشهيرة حتى بعد طلاقهما، إذ كانت تزوره هى وابنهما «عمرو» فى منزله مع زوجته الجديدة، فبعد التأميم خسر «فوزى» مصنع الاسطوانات وشركته التى أنفق عليها جميع أمواله، وجلس طريحًا للفراش طيلة 4 سنوات يصارع خلاها لعنة السرطان إلى أن لقى ربه عام 1966.
بعد هذه المحنة استجمعت «مديحة» قواها وباعت جميع مجوهراتها لتكون رأس مال جديدًا وتنتج أفلامًا أخرى، ثم عرض عليها العمل فى الكويت فى برنامج إذاعى للمرأة والطفل، مقابل10 آلاف دينار.
لكن سرعان، ما تلقت «مديحة» خبر وفاة ابنها «عمرو محمد فوزى» فى حادث سيارة عن عمر يناهز 26 عامًا، لتظل ذكرى وفاته تطاردها حتى قبل وفاتها بسويعات قليلة، إذ قالت عنه ذات مرّة: «لقد سببت وفاة عمرو لى ألماً اعتزلت بسببه عن العالم لأكثر من عام، كرست الوقت فيه للصلوات والدعاء وقراءة القرآن له، لكن أصدقائى تمكنوا من مساعدتى على اجتياز المحنة والخروج إلى المجتمع من جديد، إننى لم أنسَه يومًا، ومازلت أحتفظ بصور كثيرة له فى منزلى، وأنا أشعر به ينتظرنى على باب الجنة لنكون معًا فى الآخرة».>