الأحد 5 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

محمود شلتوت.. الإمام ثائرًا

محمود شلتوت.. الإمام ثائرًا
محمود شلتوت.. الإمام ثائرًا


لو أن «الإمام الأكبر» محمود شلتوت شيخ الأزهر الأسبق بيننا الآن لأصبح بمثابة لوحة نيشان تصوب التيارات الدينية المتطرفة تجاهها كل سهام الطعن والتشويه ولخلعوا عليه كل الأوصاف التى تخرجه من الملة بضمير مستريح ودم بارد، ولأفرغوا عليه جميع طاقات الحقد والكراهية الكامنة لديهم، ولاعتبروه عدوًا للإسلام بلا أدنى مبالغة.
لقد تجرأ الرجل قبل 100 عام من الآن على اقتحام أكثر المناطق الملغومة التى عجزت قيادات المؤسسة الدينية الحالية عن الاقتراب منها وآثرت السلامة، فلم يقف عند حدود تجديد الخطاب الدينى أو التصدى للقضايا الشائكة فحسب وإنما قاد ثورة إصلاحية داخل الأزهر ليصنع منه مؤسسة علمية وتنويرية رائدة فى المنطقة، قبل أن يتراجع هذا الدور نسبيًا، فيما بعد.
الابن الشرعى لعصر النهضة
قبل أن نمضى فى استعراض سيرة ذلك الرجل من المفيد أن نعرف أولًا فى أى حقبة نشأ، فكل انسان هو ابن بيئته، وتطور طبيعى لما نهله من أفكار عن أساتذته ومجايليه، والشيخ شلتوت ولد عام 1893ونال إجازة العالمية سنة 1918، وشارك فى ثورة 1919 بقلمه ولسانه، وهو ما انعكس على كامل مسيرته.
عاش محمود شلتوت شبابه ونضجه فى تلك الفتره الزاهرة من تاريخ مصر الحديث والتى حملت فى طياتها إرهاصات نهضة مصرية حقيقية فى الثقافة والفكر والأدب وفيها تم تفعيل مدرسة الإحياء والتجديد فى الفكر الإسلامى المعاصر، على يد رجال امتلكوا ناصية المنطق والبرهان فى مشروعهم الفكرى ورد الحجة بالحجة، ولم يفتوا بردة هذا أو خروج ذاك عن المله أو تكفير ووجوب قتل ذلك، أو التوصية بزج خصومهم فى السجون.
شهدت تلك الفترة خواتيم أيام الإمام محمد عبده وبزوغ نجوم تلامذته ومنهم الشيخ مصطفى المراغى كما كانت شاهدة على ظهور عدة قامات فكرية وعلمية وأدبية وسياسية مثل قاسم أمين وسعد زغلول والدكتور أحمد لطفى السيد والشيخ محمد أبوزهرة والدكتور طه حسين والمفكر أحمد أمين وغيرهم.
تتلمذ الشيخ شلتوت على كتابات الشيخ مصطفى المراغى والدكتور مصطفى عبدالرازق والشيخ عبدالمجيد سليم وهم من أبرز تلامذة الإمام محمد عبده، وعندما تولى الشيخ المراغى مشيخة الأزهر فى المرة الأولى 1928 استدعى الشيخ شلتوت ونقله من التدريس بمعهد الإسكندرية إلى التدريس فى القسم العالى فى القاهرة، وعندما حدثت أزمة عام 1929 بين المراغى والملك فؤاد الذى رفض التصديق على قانون إصلاح الأزهر، كتب الشيخ شلتوت مدافعا عن القانون ووجوب تنفيذه لإصلاح أحوال الأزهر وإنقاذه من التدهور الذى وصل إليه.
دفع الشيخ شلتوت ثمن هذا الموقف من بقائه فى الأزهر فتم فصله واستمر على هذا النحو قرابة أربع سنوات اشتغل خلالها بالمحاماة حتى أعيد فى فبراير 1935 مدرسا فى كلية الشريعة، وتولى العديد من المناصب حتى تولى مشيخة الأزهر فى أكتوبر 1958، فبادر الشيخ شلتوت لتنفيذ ما كان يطمح إليه من إصلاحات فأنشأ مجمع البحوث الإسلامية وجعل منه الهيئة العلمية العليا الجامعة لكبار علماء المسلمين على اختلاف أقطارهم ومذاهبهم.
إمام المصلحين الأكبر
كان رحمه الله أول من حمل لقب «الإمام الأكبر» ذلك اللقب الذى لم يزل يطلق على شيخ الجامع الأزهر حتى الآن، وكانت البداية بصدور القانون رقم 103 لسنة 1961 الخاص بتطوير الأزهر، ووفقاً للقانون أصبح شيخ الأزهر هو الإمام الأكبر وصاحب الرأى فى كل ما يتصل بالشئون الدينية وفى كل ما يتعلق بالقرآن وعلوم الإسلام، ويتم تعيينه بقرار من رئيس الجمهورية من بين أعضاء مجمع البحوث الإسلامية.
وفقا لقانون الإصلاح التحقت الفتيات بالأزهر لأول مرة فى تاريخه، وكذلك بدأ تدريس اللغات الأجنبية فى الأزهر، وتم بناء مدينة البعوث الإسلامية التى تضم ثمانين جنسية إسلامية لتبرز الأهمية العالمية للأزهر فى أعلى صورها ولتجعل منه الهيئة الإسلامية العليا فى جميع أنحاء العالم الإسلامى.
جواز التعبد على المذهب الإثنى عشرية
لعل أشهر اجتهادات الشيخ شلتوت هى فتواه بجواز تعبد السنى على المذاهب الإسلامية الأخرى مثل مذهب الشيعة الاثنى عشرية وذلك للتقريب بين الشيعة والسنة، وحتى لا ينفذ المستعمر الغربى من الخلاف القائم بينهما، ويمزق وحدة الأمة وكان الشيخ شلتوت أبرز الوجوه المطالبة بالوحدة بين الشيعة والسنة والكتابة فى هذا المجال، وكان إسهام الشيخ شلتوت الأكثر تمييزا هو العمل على التقريب بين المذاهب الإسلامية.
قضى شلتوت على الخلاف الذى كان حادثا وقتها حول تدريس المذاهب الفقهية الأخرى فى الأزهر وبالفعل فى عهده تبنى الأزهر كل المذاهب الموثقة المصادر، وأصدر الموسوعة الفقهية باعتماد المذاهب الفقهية الثمانية: الحنفى، والشافعى، والمالكى، والحنبلى، والجعفرى، والزيدى، والإباضى، والظاهرى مما جعل الأزهر متفردا بين كل الجامعات الإسلامية، فاتحا الباب أمام إسلام واحد بلا مذاهب.
فتوى الشيخ شلتوت أثارت حتى من اعتبر نفسه من تلاميذ الإمام وهو الداعية الإخوانى يوسف القرضاوى الذى راح يشكك فى إصدار الشيخ للفتوى من الأساس وقال «تراث الشيخ شلتوت أنا أعلم الناس به... ما رأيت هذه الفتوى فى حياتى قط ولم اسمع عنها»، واللافت أن القرضاوى نفسه هو من سعى لاحقا فى التقريب بين السنة والشيعة ولكن بناء على توجهات قطرية إيرانية.
فى المقابل علق قطب إخوانى آخر وهو  محمد الغزالى على فتوى التقريب، فى كتابه «دفاع عن العقيدة والشريعة» قائلا : «أعتقد أن فتوى الأستاذ الأكبر الشيخ محمود شلتوت قطعت شوطا واسعا فى هذا السبيل، وهو استئناف لجهد المخلصين من أهل السنة وأهل العلم جميعا، وتكذيب لما يتوقعه المستشرقون من أن الأحقاد سوف تأكل هذه الأمة قبل أن تلتقى صفوفها تحت راية واحدة وهذه الفتوى فى نظرى بداية الطريق، وأول العمل.
الموسيقى والأغانى حلال
ورغم أن الموقف من الموسيقى والغناء ليس من الأمور الأساسية فى بناء العقيدة الدينية فقد أثير حولهما الكثير من اللغط كان قد سبق إلى حسمه مبكرا الشيخ شلتوت فهو يرى أن الأصل فيها الحل والحرمة عارضة، ويقول: «إن الله خلق الإنسان بغريزة يميل بها إلى المستلذات والطيبات التى يجد لها أثرًا فى نفسه، به يهدأ وبه يرتاح، وبه ينشط، فتراه ينشرح بالمناظر الجميلة: كالخضرة المنسقة، والماء الصافى، وإن الشرائع لا تقضى على الغرائز بل تنظمها، والتوسط فى الإسلام أصل عظيم، فالشريعة لم تنزل لانتزاع الغريزة فى حب المناظر الطيبة ولا المسموعات المستلذة، وإنما جاءت بتهذيبها وتعديلها إلى ما لا ضرر فيه ولا شر».
إسقاط حد الردة وإنهاء أسطورة الإجماع
أبطل الإمام حد الردة وأفتى بأن الإسلام لا يعرف هذا الحد مستندا إلى أن راوى حديثه شخص «واحد» هو ابن عباس رضى الله عنه، وبهذا لا يوجد إجماع عليه، مؤكدا أن الله حرم الإكراه فى الدين، وقال للرسول «أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين».
ومضى شلتوت يقول إن التاريخ الإسلامى شهد لغطًا كبيرًا حول ما يسمى بالإجماع، وكشف أنه لا يوجد ما يسمى حقيقة بالإجماع وإن ما تم كان حيلة لتنفيذ أهواء بعض رجال الدين المخالفة للشريعة قائلا «وكثيرا ما نراهم يردفون حكاياتهم للإجماع بقولهم «ولا عبرة بمخالفة الشيعة والخوارج» أو «بمخالفة المعتزلة والجهمية» ونحو ذلك مما يخيفون به العلماء».
ويؤكد الإمام أنهم استخدموا الإرهاب الفكرى لموافقة العلماء على هذا الإجماع وكان العلماء يمتنعون عن إبداء رأيهم فى كثير من المسائل خوفا على «سمعتهم الدينية»، وعلى هذا يبطل الإمام حد الردة.
كما يؤكد الإمام على أنه لو احتفظ غير المسلمين بحالة السلم فهم والمسلمون إخوان فى الإنسانية يتعاونون على خيرها العام، ولكل دينه يدعو إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، «فالإسلام لا يرى أن مجرد المخالفة فى الدين تبيح العداوة والبغضاء، وتمنع المسالمة والتعاون على شئون الحياة العامة فضلا عن أن تبيح القتال لأجل تلك المخالفة» ويورد الإمام قول الله تعالى مستشهدا «لكم دينكم ولى دين» و«لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين» وهو ما يؤكد أنه إذا سالم غير المسلمين المسلمين فبذلك يكونون أهلا للبر والإحسان إليهم، وبذلك قتله يصبح من الكبائر التى حرمها الله.
فوائد البنوك حلال
من الفقه إلى الاقتصاد انتقل الشيخ شلتوت فكان صاحب فتوى أثارت عليه الزوابع إذ أفتى بأن أرباح صندوق التوفير حلال ولا حرمة فيها كما أفتى بأن التعامل مع البنوك حلال وأن الشركات المساهمة المحدد ربح الأسهم فيها حلال لأنها معاملة متجددة وليست من المضاربة حتى يشترط فيها عدم تحديد نسبة الربح، إنها نوع جديد من الشراكة أحدثه أهل التفكير فى طريق الاقتصاد والاستثمار ولم يكن معروفا للفقهاء من قبل.
بدأ الشيخ شلتوت بأرباح «صندوق التوفير» فأفتى بأنها حلال ولا حرمة فيها، لأن المال المودع فى الصندوق ليس ديناً ولم يقترضه منه صندوق التوفير وإنما تقدم صاحب المال إلى صندوق التوفير بنفسه طائعاً مختاراً ملتمساً قبول إيداع ماله عنده وهو يعرف أن مصلحة التوفير تستغل الأموال المودعة لديها فى مشروعات تجارية تحقق فيها ربحاً وهى تعطيه الفوائد من خلال تلك الأرباح، وصاحب المال يقصد بإيداع ماله حفظ ذلك المال من الضياع وتعويد نفسه على التوفير والاقتصاد ثم إمداد المصلحة الحكومية بزيادة رأسمالها ليتسع نطاق معاملاتها وتكثر أرباحها فينتفع العمال والموظفون وتتسع مجالات العمل وينتفع الجميع بفوائض الأرباح.
ويستطرد الشيخ شلتوت قائلاً : إن التعامل مع صندوق التوفير بتلك الكيفية وبالأرباح المضمونة الثابتة لم تكن معروفة للفقهاء السابقين حين أفتوا بما كان سائدا فى عصرهم، ثم استحدث التقدم البشرى أنواعا من التعامل الاقتصادى قامت على أسس صحيحة إلا أنها لم تكن معروفة من قبل، ولكن ما دام الميزان الشرعى قائما على قوله تعالي« والله يعلم المفسد من المصلح»  وفى قوله تعالى « لا تَظلِمون ولا تُظلَمون»   فلابد أن نسير على مقتضاه، ولذلك فإن الربح المذكور لا يدخل فى نطاق الربا وإنما هو تشجيعٌ على التوفير والتعاون.
ثم يلتفت الشيخ شلتوت إلى التعامل مع البنوك فيفتى بأنه حلال ويضع ذلك تحت عنوان « الأسهم والسندات ضرورة الأفراد وضرورة الأمة» ويقول «من المشاريع المهمة التى تعود بالخير على المسلمين ما يحتاج إلى قرض من المصرف يتقاضى عنه المصرف ربحا، فهل يحجم المسلمون عن ذلك على أنه ربا ويترك المجال لغير المسلمين؟ وما حكم الشرع فى الأسهم والسندات؟
ويبدأ الشيخ بتوضيح معنى الربا الذى نزل القرآن بتحريمه فهو القرض الذى يأخذه المحتاج الجائع المعدم من الثرى المرابى الذى يستغل جوع المحتاج ليعطيه قرضاً بربا، وهو ما لا ينطبق على التعامل مع المصارف والبنوك لأنها لا تتعامل مع الجوعى والمعدمين وإنما تتعامل مع أصحاب مشاريع تجارية وصناعية يفتحون أسواقاً للعمل والوظائف وبذلك يكون التعامل معها حلال.
يتضح جليا مما سبق أن الشيخ شلتوت اتبع منهجا عقليا ينظر إلى مقاصد التشريع الكلية ثم يحكم من خلالها على ما يراه من التفريعات الجزئية، إذ أنه يستدل على مشروعية فوائد البنوك بالضرورة للفرد والأمة، مع الاستدلال ببعض الآيات القرآنية التى تفيد مقصده.