ليس عليها دليل واحد فى القرآن أو السنة: وهم الخلافة فى الإسلام

سيد طنطاوي
كل تيار الإسلام السياسى بمكوناته، يضع هدفًا لتابعيه يدرك تمامًا أنه لا يمكن الوصول إليه، ألا وهو حلم الخلافة وإن شئت قل: «خرافة لا حلم»، فحينما يضع المطلب تحت عباءة الدين ونصرته فإنه هنا يضمن طاعة عمياء.
أمام هذا المُعطى – بديهيّا - أن يُعلن الكفر من هؤلاء جهارًا بالدولة الوطنية بمحدداتها السياسية، بل تُعلن الحرب عليها من أبناء ذلك التيار، وفى الوقت ذاته، يسوقون أدلة يصفونها بالدينية والفقهية، للبحث عن الدولة المكذوبة وهى دولة الخلافة، ويسوقون فى سبيل ذلك تحريفًا لكلام فى غير موضعه، وتبديلًا لتفسيرات لم يذهب إليها غيرهم.
تيار الإسلام السياسى بجماعاته يرفع درع الفقه، وسيف الإرهاب أمام من يتصدى للخلافة المزعومة، أمّا الأشخاص الذين يتولون معركة المواجهة بالتنوير ضد ظلام الدعوة للخلافة فهناك قائمة اتهامات جاهزة تلوكها ألسنتهم وأقلامهم ومحاكمهم المتطرفة.
وحسب آراء فقهية مختلفة فإن خلافتهم تؤتى بـ4 طرق، الأولى: اختيار أهل «الحل والعقد» ويندرج تحتهم الفقهاء، والعلماء، وأرباب الحل والعقد، والثانية اختيار الإمام السابق لمن يخلفه كما حدث من اختيار أبى بكرٍ الصديق لعمر بن الخطاب، والثالثة بأن يترك الإمام السابق الأمر شورى فى «جماعة معينة» يختارون منهم، كما فعل «عمر»، عندما ترك الأمر شورى فى 6 من الصحابة؛ فاختاروا «عثمان بن عفان»، والرابعة بالتغلب، حيث يظهر المُتغلب على الناس، ويقهرهم، حتى يطيعوه.
السؤال: «هل نَصَّ الإسلام على الخلافة سواء فى القرآن أو السُّنة؟ أم هى من صُنع المسلمين؟
قبل هذا وذاك فإن كل طرُق الولاية المذكورة إنما جاءت باجتهاد من خلفاء سابقين وكل من ساروا على هذا الأمر إنما أخذوا حُجّتهم بالقياس، ولم يسوقوا دليلًا واحدًا من السُّنة.
الإجابة أيضًا تجدها فى كتاب الإسلام وأصول الحكم لـ«على عبدالرازق»، الذى صدر فى 1925، وأحدث ضجة فى مصر بسبب رفضه لفكرة الخلافة ودعوته لقيام الدولة المدنية.
صدور الكتاب جاء فى لحظة تاريخية فارقة، إذ إنه كان بعد عام واحد من سقوط الدولة العثمانية التى تحمل مفهوم الخلافة على يد مصطفى كمال أتاتورك عام 1924، ووقتها أيضًا كان يحكم مصر السلطان فؤاد الأول، ودعا الأزهر آنذاك- فى مصر مجموعة من رجال الدين إلى عَقد مؤتمر فى القاهرة لبحث موضوع الخلافة، انتهى هذا المؤتمر بقرارات تفيد أن منصب الخلافة ضرورى للمسلمين كرمز لوحدتهم واجتماعهم، لكن لكى يكون هذا المنصب فعالًا، لا بُدَّ أن يجمع الخليفة بين السُّلطة الدينية والسُّلطة المدنية، فى تلك الأثناء كان هناك اتجاه لتنصيب الملك فؤاد الأوّل (ملك مصر) خليفة للمسلمين، ومن ثم فإن هدم ونسف فكرة الخلافة يهدد دولته ومركزه، كما أن صدور الكتاب جاء قبل 3 سنوات من الإعلان الرسمى عن الولادة المشئومة، لجماعة الإخوان المسلمين على يد «حسن البنا» عام 1928، التى كانت تعلن التقرب للمَلك بصفته خليفة للمسلمين وتريد تنصيبه مَلِكًا على خلافة يريدونها تحت شعار «أستاذية العالم».
إثر ذلك حاكمت هيئة كبار العلماء فى الأزهر على عبدالرازق وأخرجته من زمرة العلماء وفصلته من العمل كقاضٍ شرعى ونزعت عنه إجازته ودرجته العلمية.
البعض رأى أن الملك هو الذى طلب من الأزهر محاكمة على عبدالرازق ومصادرة الكتاب لكى يضمن استمرار خطته فى عودة الخلافة بعد انتهائها فى تركيا، ووجّهت «كبار العلماء» 7 تهم للكتاب بالضلال، حيث قالت إن الكتاب جعل الدين لا يمنع من أن جهاد النبى كان فى سبيل المُلك لا فى سبيل الدين ولا لإبلاغ الدعوة للعالمين، بالإضافة إلى اعتباره -أى الكتاب- نظام الحُكم فى عهد النبى موضوع غموض أو إبهام أو اضطراب أو نقص وموجبًا للحيرة، واعتبار مهمة النبى كانت بلاغًا للشريعة مجردة عن الحكم والتنفيذ.
كما قالت الاتهامات إن إنكار إجماع الصحابة على وجوب نصب الإمام وأنه لا بُدَّ للأمة ممن يقوم بأمورها فى الدين والدنيا، كما أنه أنكر أن القضاء وظيفة شرعية، واعتبر حكومة أبى بكر والخلفاء الراشدين من بعده كانت لا دينية.
قدّم «عبدالرازق» تفسيرًا تشريحيّا لمفهوم الخلافة لغةً واصطلاحًا، ليستبين من أين جاءت فى الأساس، خصوصًا أنه يُنكر وجودها مستندًا فى ذلك إلى أدلة لا لبث فيها، ولذلك يقطع فى الأمر بقوله: «كانت الخلافة ولم تزل نكبة على الإسلام والمسلمين، وينبوع شر وفساد».
أزمة تيار الإسلام السياسى مع الكتاب أنه يدحض أكاذيبهم حول الخلافة، ويؤكد أن السياسة من أمور الدنيا، ولا دخل للدين فيها.
عَرَّف الخلافة بأنها مرادف الإمامة، أى رياسة عامة فى أمور الدين والدنيا نيابة عن النبى محمد صلى الله عليه وسلم، والإمامة هى خلافة شخص للرسول فى إقامة القوانين الشرعية وحفظ الملة، وذلك استنادًا على ما ذكره ابن خلدون فى مقدمته إذ اعتبرها خلافة عن صاحب الشرع فى حراسة الدين وسياسة الدنيا به.
ومن يقولون بهذا الأمر غيره، يعزون الخلافة إلى أنه بعد وفاة الرسول قام الخلفاء بمقام فى حفظ الدين وسياسة الدنيا، وأرجعوا أسباب تسمية الحاكم بالخليفة لأنه يخلف النبى فى أمته، وإمامًا تشبيهًا بإمام الصلاة، وأوردوا فى حقوق الخليفة طاعةً عمياء فى كل الأمور منها: «الولاية العامة، والطاعة التامة، والسُّلطان الشامل، وله حق القيام على دينهم، فيقيم فيهم حدوده، وينفذ شرائعه، وله بالأولى حق القيام على شئون دنياهم، وعليهم أن يحترموه لأنه يقوم مقام الرسول، كما أضافوا له أنه تجب إطاعته لأن طاعته من طاعة الله وعصيانه من عصيان الله، وبيده وحده زمام الأمة، وليس للخليفة شريك فى ولايته، ولا لغيره ولاية على المسلمين، كذلك يرون الخليفة مقيدًا بقيود الشرع وأن ذلك كافيًا لضبطه.
رُغم كل تلك القوة التى منحوها لما يُسمى الخليفة والإمام فإنهم لم يذكروا مصدر تلك القوة، ولم يبحثوا فى الأمر نهائيّا، كما تركوا معظم المباحث السياسية دون إلقاء ولو نظرة عابرة على ما ذهبت إليه غير العرب فيها.
من فكّروا فى مصدر القوة الخارقة التى منحوها للخليفة ردوها إلى الله، إذ اعتبروا قوته من قوة الله، وذهبوا فى جُلّ تفسيراتهم إلى اعتبار أن الله هو الذى يختار الخليفة ويسوق إليه الخلافة.
إرجاع مصدر قوة الخليفة إلى الله جعل الشعراء يطيلون فى مدحهم للخلفاء بوضعهم فى موضع عِزة وقدسية كأنه إله أو نصف إله كقول الشاعر:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار..
فاحكم فأنت الواحد القهار
ويتساءل المؤلّف عن مصدر هذه القوّة التى مُنِحت له، ويعتبر أنّ فقهاء المسلمين عمومًا لم يجيبوا عن هذا التساؤل، شأنهم فى ذلك كشأنهم فى مختلف مباحث السياسة، إذ يستغرب الشيخ عبدالرازق عدم اهتمام فقهاء المسلمين بالسياسة بشكل عام، فهم لم يتركوا بابًا من أبواب العلوم لم يطرقوه، ورُغم ذلك فإننا نجد اجتهاداتهم أو نظريّاتهم فيما يتعلّق بالحكم وإدارته ضعيفة جدّا، هذا مع العِلم أنّهم اطّلعوا على تراث الأقدمين بما فى هذا عِلم السياسة، خصوصًا فلاسفة الإغريق الذين تأثّر بهم المسلمون أيّما تأثير. وعن ذلك يقول المؤلّف: لم يجد سببًا لإهمالهم النظر فى كتاب الجمهوريّة (Republic) لأفلاطون وكتاب السياسة (Politics) لأرسطو، وهم الذين بلغ من إعجابهم بأرسطو أن لقبوه بالمعلّم الأوّل؟ وما لهم رضوا أن يتركوا المسلمين فى جهالة مطبقة بمبادئ السياسة وأنواع الحكومات عند اليونان، وهم الذين ارتضوا أن ينهجوا بالمسلمين مناهج السريان فى عِلم النحو، وأن يروضوهم برياضة بيدبا الهندى فى كتاب (كليلة ودمنة). بل رضوا بأن يمزجوا لهم علوم دينهم بما فى ذلك فلسفة اليونان من خير وشر، وإيمان وكفر؟.
فيما ذهب قليل من العلماء إلى اعتبار أن الخليفة يستمد قوته من الأمة والشعب.
هل فى القرآن دليل واحد على وجوب إقامة الخلافة؟.
قال «عبدالرازق» فى «الإسلام وأصول الحكم»: «لم أجد آية واحدة فى القرآن تدل على وجوب إقامة الخلافة، وأنه لو كان هناك آية تدل على ذلك لما تأخر أنصار الخلافة ممن وصفهم بالمتكلفين بالإتيان به، وحينما فشلوا فى إيجاد ذلك الأمر لجأوا إلى حُجّتين هما الإجماع وما أسموه القياس وأحكام المنطق، وكلها تأويلات شخصية لأصحابها.
هناك آيات تبدو فى ظاهرها أنها دليل على وجوب إقامة الخلافة، لكن حقيقة المعنى شىء آخر، فمثلًا قول القرآن فى سورة النساء: «يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم»، وقوله فى «النساء» أيضًا: «ولو ردوه إلى الرسول وأولى الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم»، والآية الأولى المقصود فيها أمراء المسلمين فى عهد الرسول ومنهم الخلفاء والقضاة، والثانية المقصود فيها كبراء الصحابة، والاثنتان لا تصلحان دليلًا على إقامة الخلافة، ولو كان هناك دليل فى القرآن يصح تحميله على وجوب إقامة الخلافة، لما ذهب مدّعوها إلى حُجية «الإجماع».
السُّنة أيضًا، بشتّى كتُبها لم تحوِ دليلًا واحدًا عليها ولو وجدوه لقدموه إذ يرون السُّنة فى منزلة تالية للقرآن، وهى أولى عندهم من الإجماع أيضًا، باستثناء رشيد رضا الذى استدل بحديث: «من مات وليس فى عنقه بيعة مات ميتة الجاهلية»، وأيضًا حديث: «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم»، وكلها لا تصلح دليلًا على إقامة الخلافة بمعنى النيابة عن النبى.
استشهد «عبدالرازق» بما تكلم به عيسى ابن مريم عن حكومة القياصرة وأمر بأن يعطى لما لقيصر لقيصر، وبالطبع لم يكن هذا اعترافًا من عيسى بأن الحكومة القيصرية من شريعة الله، وأيضًا كل ما جاء فى الأحاديث النبوية ينطبق عليه ما ينطبق على كلام عيسى ابن مريم، ومما يدل على فساد الاستدلال فى تفسير وجوب الخلافة بالسُّنة أن الله أمرنا بالوفاء بالعهد حتى للمُشركين، فبديهيّا هذا الكلام لا يعنى أن الله ارتضى بالشرك.
ذهب «عبدالرازق»، إلى أن حقيقة الأمر أن المسلمين كانوا ضعافًا عِلميًّا فى المباحث السياسية مقارنة بغيرها من العلوم، ويعزى الكاتب ذلك إلى أن مقام الخلافة منذ نشأته فى عهد أبى بكر الصديق عرضة للخارجين عليه والمنكرين له، ومعارضة المسلمين للخلافة بدأت بنشأتها وبقيت ببقائها.
ويفسر بقاء الخلافة دائمًا بمدَى قوتها، ولا يذكر التاريخ خليفة إلا اقترن بأذهاننا الرهبة المسلحة التى تحوطه والقوة التى تظله.
لم يكن فى القرآن أو السُّنة دليل على إقامة الخلافة فذهب البعض إلى أن الخلافة تتوقف على إقامة الشعائر الدينية وصلاح الرعية.
كما يرفض أقوال البعض بأن الخلافة ضرورية لحفظ الدين ويقول: «علمت ممّا نقلنا لك عن ابن خلدون “أنّه قد ذهب رسم الخلافة وأثرها بذهاب عصبيّة العرب، وفناء جيلهم، وتلاشى أحوالهم، وبقى الأمر ملكًا بحتًا… وليس للخليفة منه شىء” فهل علمت أنّ شيئًا من ذلك قد صَدّع أركان الدين، وأضاع مصلحة المسلمين على وجه كان يمكن للخلافة أن تتلافاه لو وجدت».
أشار «عبدالرازق» إلى أن عصر النبوة لم يقدم نموذجًا حيّا يوضح آليات القضاء، أو يقدم مفهومًا جليّا عنها.
فسر «عبدالرازق» الدولة فى صدر الإسلام بأنها دولة دينية لا دولة مدنية فقال: كانت وحدة العرب إسلامية لا سياسية، وكانت زعامة الرسول دينية، وكان خضوعهم له عقيدة وإيمان، إلى جانب هذا لا يوجد شك عنده فى أن حرب المرتدّين فى الأيام الأولى من خلافة أبى بكر لم تكن حربًا دينيّة، وإنّما كانت حربًا سياسيّة.
واعتبر أن الخلافة ليست فى شىء من الدين، ولا القضاء ولا غيرهما من وظائف الحُكم، وإنّما كلّها خُطط سياسيّة صرفة، لا شأن للدين بها، والرسول لم يُعرّفها ولم ينكرها، ولا أمَرَ بها ولا نهَى عنها، وإنّما تركها لنا، لنرجع فيها إلى أحكام العقل، وتجارب الأمم، وقواعد سياسيّة.
كما أنّ تدبير الجيوش الإسلاميّة، وعمارة المدن والثغور، ونظام الدواوين لا شأن للدين بها، وإنّما يرجع الأمر فيها إلى العقل والتجريب، أو إلى قواعد الحروب، أو هندسة المبانى وآراء العارفين.
«الإسلام وأصول الحكم» إقرار واضح بأن الإسلام لم يعرف الدولة الدينية، بل هى صنيعة المسلمين، من أجل إضفاء قدسية عليهم وعلى مكانتهم ليظلوا فى مناصبهم أبد الآبدين، وأن دعوة الإسلام واضحة فى الدعوة للدولة المدنية، وإقرارها، وهنا تفسير غضب أعضاء تيار الإسلام السياسى من الكتاب ومؤلفه، لأنه ينسف دعوتهم التى يرتكزون عليها فى تجنيد الشباب وصبغ مساعيهم بالصبغة الدينية، لذلك إثبات أن الخلافة ليست من الإسلام فى شىء يجعل سعيهم هباءً منثورا.