موعد مع السيّد همنجواى

روزاليوسف الأسبوعية
أحمد الزناتي
فى يوم ربيعى من أيام سنة 1934 اعتزم شابٌ أمريكى لم يتجاوز الثانية والعشرين اسمه آرنولد صمويلسون، السفر إلى فلوريدا للقاء الأديب الأمريكى الكبير إرنست همنجواى (1899-1961). كان الشاب يعانى شأنه شأن آلاف الأمريكيين من الكساد العظيم الذى ضرب أمريكا وقتها، فـقـرّر الاشتغال بالأدب. كان صمويلسون شغوفًا بأدب همنجواى بعد قراءة قصّة قصيرة، صارت فيما بعد جزءًا من رواية همنجواى الرابعة «أن تملك وألا تملك».
وبعد قراءة المزيد، قرّر الشابُ قطع رحلة تزيد على ألفىّ ميل من مينيسوتا إلى فلوريدا لمقابلة همنجواى، كى يطلب منه النصح والإرشاد فيما يخصّ مشواره الأدبى. كانت رحلة شاقّة قطعها الشاب مستخدمًا وسائل تنقّل غريبة ومُرهقة من بينها الأوتوستوب، السفر مع سيارات النقل العملاقة، إلخ.
>>
وصل صمويلسون إلى منزل همنجواى فى منطقة كى ويست، وطرق الباب، ليخرج له همنجواى بهيئته المهيبة. يحكى الشاب عن هذه اللحظة: «حين طرقتُ باب منزل همنجواى فى منطقة كى ويست، فتح الباب ووقف صامتًا، منتظرًا أن أبدأ الحديث شُـلّ لسانى، وفشلتُ فى استدعاء حرف واحد من الكلام الذى كنت قد أعددته. كان همنجواى ضخمًا، طويل القامة، له خصر نحيل وكـتفان عريضان. وقف حافى القدميْن، مثبّتًا ذراعيه فوق خصره. بدا جسده الضخم مُـسـتندًا بالكامل إلى أصابع قدميه. سأل همنجواى: ماذا تريد؟ فأجبتُ: قرأتُ إحدى قصصكَ القصيرة، وأردتُ رؤيتك. عندها ارتختْ عضلات وجه همنجواى وابتسم قائلًا: «لماذ لم تقل منذ البداية أنّك تريد الدردشة قليلًا؟».
يقول صمويلسون إنّ همنجواى أخبره بانشغاله ذلك اليوم، فضرب له موعدًا فى الواحدة والنصف من ظهيرة اليوم التالى. وفى الموعد المحدد زار الشابُ الروائى الكبير. كان همنجواى يرتدى بنطلونًا قصيرًا، ممسكًا بيده زجاجة ويسكى وفى اليد الأخرى صحيفة نيويورك تايمز. جلس الاثنان على أرضية الشرفة. بادر الشاب كلامه بالحديث عن إخفاق محاولاته فى الكتابة القصصية، فأجاب همنجواى:
«أهمّ شىء تعلّمته فى رحلتى مع الكتابة هو ألا أستهلك طاقتى مرّة واحدة. لا تـعـتـصر ذاتـكَ حتى القطرة الأخيرة، اتركْ شيئًا لليوم التالى. المهم دائمًا أن تعرف متى تتوقّف، لا تنـتـظر حتى تُفرِغ كل ما فى جعبتك مرة واحدة. حين تشعر أنّك تتقدّم فى كتابة القصّة، وحين يقودك قلمكَ إلى مناطق جديدة، وحين تشعر بالوقوف على أرض صلبة فيما يتعلّق بمسار الأحداث، توقّـف على الفور، واترك القصّة ولا تعد إليها فى ذات اليوم، ولتدع عقلك الباطن يُكمل المهمّة. وفى صباح اليوم التالى، حين تكون قد حظيتَ بقسط وافـر من النوم أعِـدْ تحرير ما سبق أن كتبته فى اليوم السابق».
من بين النصائح التى قدّمها همنجواى إلى الكاتب الشاب:« لا تنظر إلى أعمال أقرانك من الكُتّاب، ضع نصب عينيْكَ دائمًا الكتّاب الراحلين، أولئك الذين صمدتْ أعمالهم قليلًا أمام الزمن».
>>
سأل همنجواى صمويلسون عن قراءاته، فأجاب: أحب روبرت لويس ستيفنسون، وكذلك رواية «والدن» لثورو. عاود همنجواى السؤال: «هل قرأتَ الحرب والسِّلم لتولستوى؟» أجاب الشاب بالنفى، فقال همنجواى: «إنّه كتاب عظيم عليكَ به». سأل همنجواى الشابَ اصطحابه إلى غرفة الكتابة ليحرّر له قائمة بأسماء الأعمال المهمّة التى ينبغى له قراءتها. يتذكّر صمويلسون اللحظات قائلًا:
«كانت غرفة الكتابة تقع فى الجزء الخلفى من المنزل. كانت غرفة مربّعة ذات أرضية من القرميد، وجميع نوافذها مغلقة. لمحتُ ثلاثة أرفف طويلة من الكتُب أسفل النوافذ. فى أحد أركان الغرفة انتصب مكتب كبير عتيق الطراز وكرسى قديم مرتفع الظهر. جذب همنجواى مقعدًا من أحد أركان الغرفة وجلسنا مُتقابليْن. مدّ يده وسحب قلمًا وشرع يكتب على قصاصة من الورق. أدركتُ فى هذه اللحظة أننى أستهلك وقته، فخطر لى التسرية عنه بسرد شىء من تجاربى التافهة، لكننى أطبقتُ فمى. كنتُ هنا لآخذ كل ما فى وسعى أن آخذه، ولم يكن فى مقدورى أن أعطيه شيئًا فى المقابل».
حرّر همنجواى قائمةً بمجموعة من الكتب وعمليْن قصصيْن، من بين هذه الأعمال: «أهالى دبلن» لجيمس جويس، «الأسود والأحمر» لستندال، «الحرب والسلم» و«آنا كارنينا» لتولستوى،«آل بودينبروك» لتوماس مان، «مرتفعات وذيرينج» لإميلى برونتى،«الأمريكى» لهنرى جيمس، وغيرها. بعدها أعطاه همنجواى مجموعة قصصية للكاتب الأمريكى ستيفن كرين، وروايته «وداعًا للسلاح»، موصيًا الشاب أن يعيدها إليه بعد الانتهاء من قراءتها. التهم الشابُ الرواية فى ليلة واحدة، وأعادها إلى همنجواى فى ظهيرة اليوم الثانى. وحين سلمّه الرواية، دُهشَ الشابُ من طلب همنجواى، حيث عرض عليه الأخير وظيفة مساعد على قارب الصيد الذى اشتراه مؤخرًا فى نيويورك، وستكون مهمّة الشاب تنظيف القارب صباحًا، والتفرّغ للكتابة طوال اليوم. قـبـِلَ الشاب المهمّة، ليقضى بعدها سنةً كاملة فى صحبة الأديب الكبير.
>>
أفرزتْ هذه الرحلة كتابًا شائقًا صدر سنة 1983 عن دار Random House تحت عنوان: «فى صحبة همنجواى: سـنـة بين كى ويست وكوبا». يقول صمويلسون إنّ همنجواى طالما أراد أن يتّخذ صديقًا أو أخًا أصغـر، فاختار صمويلسون لهذه المهمّة، وقال إنّ همنجواى كان يرى فيه كاتبًا واعدًا، بل إنّه خلّد ذكراه فى مقال عن تقنيات الكتابة السردية، نـُــــشــر فى أكتوبر 1935. لم يتعلّم صمويسلون من همنجواى الكثير عن حِرفة الكتابة، لكنه قال عن السنة التى قضاها فى صحبة همنجواى: «كانت حياة رائعة وممتعة».
توفى صمويلسون سنة 1981، تاركًا وراءه هذه المذكّرات التى عثرث عليها ابنته ديانا داربى سنة 1982، وتولّت نشرها بعد وفاته.>