الأحد 16 يونيو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

ماتت بطلتى وتلقيت العزاء فى فيسبوك

ماتت بطلتى وتلقيت العزاء فى فيسبوك
ماتت بطلتى وتلقيت العزاء فى فيسبوك


إنعام كجه جي

صحافية وروائية عراقية
لا أدرى أى سباق جهنميّ هذا الذى يضعنى، مرّة تلو المرّة، قريبة من خط النهاية مع بطلات وأبطال كتبى وأفلامى التسجيلية؟
حين كتبت سيرة الرسامة البريطانية لورنا هيلز، زوجة النحات العراقى الرائد جواد سليم، كنت أسابق الزمن لكى أنتهى من الكتاب وأراه مطبوعًا قبل أن تغيب صاحبة السيرة. ولم يهدأ نبضى إلا بعد أن أرسلت لها النسخة الأولى بالبريد إلى بيتها المنعزل فى ريف ويلز، لها العمر الطويل.

ثم صوّرت فيلمًا عن الدكتورة نزيهة الدليمى، أول امرأة عربية تتقلد وزارة عام 1959، ووجدتنى أخوض الماراثون ثانية. إنها تقترب من التسعين، وقد أصابتها جلطة فى الدماغ، ولابد من إنهاء المونتاج وهى هنا، تتنفّس فى منفاها الألمانى، لكى ترى «فيلمها». كانت منفية منذ أربعين عامًا لأن بعض خطباء المساجد حللوا دمها. ما أشبه اليوم بالبارحة. فقد عملت الوزيرة على إصدار قانون جديد للأحوال المدنية فى العراق، يساوى بين البنت والولد فى الميراث. ومرّت السنوات والعقود وولدت أجيال جديدة لا تعرف من هى نزيهة الدليمى. لم تكن هناك وثيقة بالصوت والصورة للمرأة الشجاعة التى كانت عضوًا فى اللجنة المركزية للحزب الشيوعى وطبيبة طافت القرى والأرياف لكى تلقّح الأمهات والأطفال ضد الأمراض السارية. ولما عثرت عليها فى شقة من الشقق البسيطة المخصصة للاجئين فى مدينة بوتسدام الألمانية، جلست السيدة الكبيرة أمام الكاميرا فى مطبخها، حاسرة الرأس، وروت كيف ركبت حافلة النقل العام وذهبت إلى وزارة الدفاع لكى تتسلم حقيبتها الوزارية من عبد الكريم قاسم. قالت إنها لم تكن تملك ثمن التاكسى.
بعد عرض الفيلم بأشهر، فارقتنا بطلته لتتجدد الحكاية مع فيكتوريا نعمان، المحامية والمناضلة التى كانت أول مذيعة فى إذاعة بغداد. وانتهى السباق بالتمكن من تصوير شهادة مطولة تروى فيها سيرتها، ما بين البصرة وبغداد ودمشق وطرابلس، قبل أن تذهب إلى المكان الأبعد. وها أنا اليوم أصلّى لكى يمهل العمر عمّنا الصحفى والمترجم والمؤرخ المصرى وديع فلسطين لحين انتهاء الفيلم الذى صورته له فى القاهرة. ويبدو ألا شفاء لولعى بالشخصيات المتقدمة فى السنّ. إن كلا منها هو تاريخ يسير على قدمين، ومن المؤسف أن يمضى قبل أن يفرغ حمولته.
لكن حكايتى مع بطلة «النبيذة»، روايتى الجديدة، تبقى الأكثر مناوشة لقلبى. فهى قد بلغت السادسة والتسعين وتنتظر أن ترى حياتها وغزواتها وغرامياتها البائدة على الورق. أما أنا فكنت أكتب روايتى بشكل بطيء ومتقطع، حسب تساهيل الواجبات الصحفية والمنزلية اليومية. ولما انتهى النص الذى عذّبنى طويلا، وأرسلته إلى صديقتى وناشرتى رشا الأمير، كانت ملهمتى قد دخلت طور الاحتضار. هل ترحل وتترك صورتها عارية على غلاف الرواية؟
إنها تاج الملوك عبدالحميد الشريفى، عاشت شبابها بهذا الاسم الذى اخترته لها، ثم كان لها أسماء غيره، آخرها مارتين شامبيون. ولدت فى إيران ونشأت فى العراق، فى أربعينيات القرن الماضى، واشتغلت بالصحافة وأسست مجلتها الخاصة. ولما استقلت باكستان عن الهند، سافرت تاج الملوك إلى هناك لتعمل فى إذاعتها الناطقة بالعربية وتكون أول صوت يعلن: «هنا إذاعة كراتشي». لم تكن بطلتى قديسة ولا غانية. إنها المرأة النبيذة التى اعتنقت الحرية ودفعت أثمانها الباهظة. أحبّت الأمير عبدالإله، الوصى على عرش العراق، وشملها رئيس الوزراء نورى السعيد برعايته، ووقفت عارية ليرسمها الفنان الرائد أكرم شكرى، وسارت محمولة على الأكتاف فى المظاهرات ضد الإنجليز. ولما انتقلت إلى فرنسا وتزوجت ضابطًا فى المخابرات وجدت نفسها تشارك فى كوماندو لاغتيال مجاهد جزائرى شاب كان لاجئًا فى القاهرة، يدعى أحمد بن بيلا. وفى أخريات سنواتها، أصدرت أسطوانة لتجويد القرآن بصوت تهتزّ لعذوبته نفوس السامعين.  
صدر الكتاب فى بيروت وانتظرت، ساعة بعد ساعة، وصول نسخ منه إليّ. وكانت ابنتها تتصل كل يوم، تسأل عن أخبار الرواية وتترقّب البريد. قالت لى، بالحرف الواحد، إن والدتها تؤجل لفظ نفسها الأخير لحين رؤية الكتاب الذى سيشهد لها ولتقلبات حياتها. ويشاء القدر أن يضطرب البريد الفرنسى المضبوط كساعة سويسرية، فيتأخر الطرد فيه لأكثر من أسبوع.
وصلت «النبيذة» إلى ملهمتها فى الخميس الأول من أكتوبر. واحتضنت تاج الملوك الرواية لثلاثة أيام، وهى على سرير المستشفى، وأسلمت الروح مساء الأحد. ولم أجد من كلام لتوديعها سوى نشر الخبر وصورة الغلاف فى صفحتى على فيسبوك. وهنا حدث أمر عجيب، فقد توالت عبارات المواساة من الأصدقاء والغرباء وكأن الرواية فتحت سرادقًا افتراضيًا شبيهًا بالمقبرة الإلكترونية التى ابتدعتها فى روايتى السابقة «طشّاري».
أى تجربة فريدة أن يجلس الكاتب لتلقى العزاء فى شخصية روائية.. هذه رواية أخرى!■