السياسى العجوز لا يكذب ولكنه يتجمل: ما لم يجرؤ عمرو موسى على نشره فى مذكراته

حسام سعداوي
ثلاثة شهدوا لأنفسهم بالإيمان، أولهم الفنانة أصالة التى غنت «قلب المؤمن هو دليله وأنا مؤمنة»، وثانيهم فنان الثمانينيات طارق الشيخ عندما غنى «أنا على باب الجنة»، أما آخرهم فكان الدبلوماسى السابق عمرو موسى عندما عنون مذكراته بـ«كتابيه» فى إشارة صريحة إلى الآية الكريمة «فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ»، غير أنه وقع فى عدة أخطاء لغوية وإملائية عند كتابة الآية فى تدوينة على موقع «تويتر».
اللافت فى مذكرات عمرو موسى ليس عنوانها فحسب، فهى تستر أكثر مما تكشف، وتطرح أسئلة أكثر ما تقدم إجابات، سواء بالنسبة لتوقيت إصدارها أو لما تضمنته من وقائع وأحداث، وللحقيقة فإننا وإن كنا لا نملك من الأدلة ما يكفى للحكم عليه بأنه يكذب فإننا على يقين من أنه يتجمل، بداية من الطريقة التى قدم بها رسوبه فى السنة الأولى بـ«التوجيهية»، وانتهاء بما ذكره عن أخيه الفرنسى «بيير»، مرورا بالعديد من الوقائع التى لم يأت على ذكرها من الأساس.
اتسم حديث «موسى» فى مذكراته بكثير من أوجه الاستعراض, فهو يورد واقعة رسوبه فى الثانوية باعتبارها صدمة له ولأسرته، وينقل على لسان والدته عبارة ليس هناك ما يؤكدها «انت اللى بتطلع أول المدرسة تسقط؟!»، رغم أنه يذكر بعد ذلك معلومة أخرى تقول أنه لم يستطع الحصول على 60 % فى «التوجيهية» واضطر لطلب استثناء من الشيخ محمد أبو زهرة وكيل كلية الحقوق كى يلتحق بها.
واقعة أخرى حرص عمرو موسى على ذكرها فى شهادته، فهو يقول إن قاضيًا بمحكمة الجيزة الجزئية كان قد ترافع أمامه عمرو لمرة واحدة وهو محام تحت التمرين طالبًا تأجيل القضية، قابله فى «جروبى» فقال له «لو استطعت تحمل المحاماة لأصبحت المحامى الأول فى مصر ولأصبحت وزيرًا للعدل»، والحقيقة أننا لا نعلم على وجه التحديد ما سبب أهمية عبارة كهذه من قاض بمحكمة جزئية لمحام تحت التمرين غير الاستعراض.
يضاف إلى تلك الوقائع توصيفات كثيرة من نوع «بحكم كونى دبلوماسى محترف»، و«أدينا واجبنا بكفاءة نادرة»، ما جعل من يقرأ المذكرات يوقن أنه أمام «طاووس»، يهوى الزهو والبهرجة، علمًا بأن الطاووس كطائر لونه جميل لكنه لا يطير إلا لمسافات قصيرة ويتنقل بين قمم الأشجار ويتغذى على الأعشاب والحشرات.
المسكوت عنه من سيرة الأخ «الفرنساوى»
فى معرض حديثه عن أخيه لأبيه وهو من أم فرنسية، ذكر عمرو أن «على» أو «بيير» كان أحد أشهر رجال البنوك فى فرنسا.. ويروى تفاصيل محاولاته المستميتة للالتقاء به بعد وفاة والدهما، كما يروى تفاصيل ما جرى خلال لقائهما الأول وطبيعة العلاقة بينهما لاحقًا، غير أنه أغفل كثيرا من التفاصيل حول شخصية أخيه.
لم تكن أحداث «العام 1981» التى انتهت بوصول الرئيس الأسبق «حسنى مبارك» لسدة الحكم؛ نقطة التحول «الدرامية» الوحيدة فى حياة الدبلوماسى «المخضرم»، الذى أتم وقتئذ عامه الخامس والأربعين.. إذ تزامنت- فى مفارقة مثيرة - بدايات «ربيعه السياسى» داخل أروقة الأمم المتحدة، وبدايات «الخريف الاقتصادى» لأخيه «الباريسى»، الذى كان يملأ الدنيا ضجيجا- آنذاك - باعتباره شخصية العام المالية.
بعد شهر واحد فقط من انتخاب «فرانسوا ميتران» أمين عام الحزب الاشتراكى الفرنسى، رئيسا للبلاد، تناقلت العديد من وكالات الأنباء «الفرنسية» والعالمية ما وصفته بفضيحة بنك (parisbas).. إذ وجهت شرطة «مكافحة الاحتيال» الفرنسية لـ88 عميلا وأربعة ضباط بالبنك تهما مختلفة، منها: استخدام طرق غير قانونية لتهريب ملايين الدولارات خارج البلاد، وإيداعها بنوك سويسرا، فضلا عن مدير البنك السابق «بيير»، الذى اتهمته السلطات بمساعدة أحد رجال الصناعة «الأثرياء» على تهريب 35000 قطعة عملة ذهبية خارج البلاد.
هذه الاتهامات التى جعلت «بيير»- بحسب رؤية قوى اليسار الفرنسي- (عدو الشعب رقم واحد)، كانت كفيلة بأن تضعه خلف القضبان لخمس سنوات على الأقل.. إلا أن الرجل تجاوز أزمته، وعاود نشاطه الاستثمارى، الرافض لسياسات «التأميم» التى اتبعتها إدارة «ميتران».. فى ظل تعاطف ملحوظ من «التكتلات الاقتصادية» المؤيدة للاقتصاد الحر، إذ اعتبرت هذه «التكتلات» الاتهامات الموجهة لـ«بيير» سياسية فى المقام الأول، لا اقتصادية ومالية كما أرادت السلطات لها أن تكون.
«بيير»- الذى ولد 5 مارس 1922 - نشأ فى رعاية والدته، وعمرو أيضا.. إذ توفى والده، الحاصل على درجة الدكتوراه من جامعة «ليون»، وابنه لايزال فى الثامنة من عمره، إلا أن «بيير» الذى فضّل الاقتصاد على السياسة، جاهدت والدته- وكانت تعمل قابلة (داية) ورثت المهنة عن أمها- حتى يلتحق ابنها بـ«مدرسة المعلمين العليا».. بينما كانت أسرة «أم موسى»- الذى ولد فى 3 أكتوبر 1936 - ميسورة الحال، وذات تاريخ «نيابى» معروف.. لذلك لم يكن غريبا أن يتجه ابنها لدراسة الحقوق.
الرجل الثمانينى يذكر لون أول بنطلون لبسه فى حياته
عرج عمرو موسى -ربما من باب الوجاهة أيضًا- على ذكر علاقته التاريخية بحزب الوفد وقت أن كان صبيًّا، وكيف أنه التقى فى سن مبكرة زعماء الحزب التاريخيين مثل مصطفى باشا النحاس ومكرم باشا عبيد وفؤاد باشا سراج الدين، غير أنه لم يذكر الأسباب الحقيقة وكواليس رفضه تولى رئاسة الحزب شرفيا وهو الأمر الذى عرضه عليه الدكتور السيد البدوى قبل انتخابات الرئاسة قبل الماضية.
«موسى» الذى لم يزل يذكر - وهو يتجاوز 81 سنة - أن لون أول بنطلون ارتداه فى حياته كان رماديا، تطرق فى حديثه إلى طعام الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، وقال إن الأخير كان يستورد طعامًا خاصًّا لاهتمامه بنظام غذائى، وكان يرسل من وقت لآخر من يأتى له بأصناف معينة من الطعام الخاصة بالريجيم من سويسرا، وكان يأتى لإحضارها رجل ضخم الجثة، وكان هو المسئول عن تسليمها له.
حديث «موسى» عن «ناصر» دفع مناصرى الرئيس الراحل للاشتباك معه، ومنهم الكاتب الصحفى مصطفى بكرى الذى قال إن «طعام عبدالناصر كان الجبنة والخيار»، وتابع «أول مرة أسمع أنه كان يرسل مندوبًا لسويسرا».
قصة التورط فى «خراب ليبيا»
لم يأت عمرو موسى فى شهادته التى اعتبرها للتاريخ على ذكر ما فعله فى ليبيا وقت أن كان يشغل منصب الأمين العام للجامعة العربية، وهو جرم لا يقل بحال من الأحوال عما فعله قرينه «محمد البرادعى» فى العراق حين عمل مديرًا عامًّا للوكالة الدولية للطاقة الذرية، ففى 2011م دعا عمرو فى مقابلة مع مجلة دير شبيجل الألمانية إلى فرض منطقة للحظر الجوى فوق ليبيا، وأعرب عن أمله فى أن تلعب الجامعة العربية «دورًا» فى إقامتها، وقال فى هذه المقابلة «لا أعرف كيف ولا من سيفرض هذه المنطقة، سنرى ذلك»، بعدها فرضت قوات حلف الناتو الحظر الجوى ودمرت الجيش الليبى لصالح الميليشيات المسلحة هناك.
بعد خمس سنوات عاد الدبلوماسى العجوز يقول فى لقاء حوار للتليفزيون التونسى الرسمى فى يوليو 2016م، إن العقيد الليبى الراحل معمر القذافى كان شخصية خاصة جدًّا بطباع وذهنية وسلوكيات فريدة من نوعها، وأقر بأن الفوضى عمت ليبيا بعد سقوط نظام القذافى، مرجعا ذلك ليس للتدخل الأجنبى وإنما إلى كون هذا البلد لم يطور نفسه طيلة 40 سنة من حكم العقيد على غرار دول الخليج، بالنظر لحجم الثروات التى تمتلكها كل من ليبيا والبلدان الخليجية، وراح يؤكد أن ليبيا لو طورت نفسها خلال حكم القذافى لكان بإمكانها ربما؛ تلافى الأزمة التى تمر بها.
السياسى لما يفلس يكتب مذكراته
خلاصة القول فى «عمرو» أنه رجل يحب الكاميرات ويعرف كيف يجعلها تحبه، ورغم كونه خارج دائرة الضوء ودوائر صناعة السياسة فى الوقت الحالي؛ فإن الحشد الكبير الذى جلس فى قاعة حفل توقيعه الكتاب، والحضور الكثيف من الشخصيات العامة فى السلطة وخارجها، والكم الهائل من الكاميرات وميكروفونات الفضائيات والصحفيين، والشخصيات الدولية والعربية، يقول بوضوح إنه لم يزل قادرًا على الأداء بطريقة «طاووسية» تعجب الجمهور الذى اعتاد عليها منذ معارضته للعدوان الأمريكى على العراق، ومواقفه الشهيرة مع قادة إسرائيل.