«بـمـبـة كشـر»

روزاليوسف الأسبوعية
.. عندما عرضت على نادية لطفى فكرة القيام ببطولة المسرحية لم تمانع الأمر أبدا، ولكنها اندهشت لأنها لم تفكر قبل ذلك فى الوقوف على خشبة المسرح ومواجهة الجمهور.. و بعد قليل قالت لى: لماذا لا نجرب الأمر؟.. ولكن بشرط أن يكون النص ملائما لى.. فأنا إذا لم أقتنع وأحب النص لن أستطيع أن أقنع به نفسى ولا الجمهور، وعلى هذا الأساس تركت لنادية لطفى نسخة من مسرحية، «بمبة كشر» تأليف الأستاذ جليل البندارى.. وفى اليوم التالى مباشرة وجدتها تتصل بى وهى تقول: أنا سأكون سعيدة بخوض هذه التجربة، وبأسرع وقت ممكن لأننى تحمست للنص بشكل غير طبيعى.. فقلت لها: الحمد لله أن النص عجبك فردت على الفور وبعفوية وتلقائية: النص هايل يا سمير.
وفى المساء ذهبت إليها وكانت تستعد لتصوير فيلم هو أحد أهم الأفلام بالنسبة إليها وللعندليب الأسمر عبدالحليم حافظ «أبى فوق الشجرة» من إخراج الفنان الكبير حسين كمال، والذى صادقته من أيام مسارح التليفزيون واكتشفت فيه إنسانا فوق العادة وفنانا أكثر من رائع، ولم نكن قد تعاونا معا من قبل وخطرت لى فكرة لامعة، لماذا لا يقوم حسين كمال بإخراج الرواية «بمبة كشر» خصوصا أن المسرحية، لها شكل مختلف، وفيها دور للموسيقى رئيسى يمكن أن يتفنن فيه حسين كمال، وبالفعل اتصلت بالمخرج الكبير.. ورحب الرجل بشدة بالعمل معنا.. ولكن ولأن الحلو ما يكملش أبدا، فقد بدأت خلافات عجيبة تدب بين اثنين من أعمدة الفرقة الأستاذ مدبولى والأستاذ سيد بدير ومحل الخلاف الرئيسى كان لأسباب الصرف، فقد كان الأستاذ سيد بدير لا يفرق بين السياسة المالية لفرقة وليدة وبين مسرح التليفزيون بإمكانياته الجبارة.. وبالفعل كانت مواردنا موسمية.. فلكى نستمر لابد من أن ننجح ونوفر بعض الأموال تكفى لدفع مقدمات لعمل جديد، وهكذا لم يكن لدينا تراكمات مادية يمكن أن نعتمد عليها.. وعارض الأستاذ مدبولى سياسة الأستاذ سيد بدير بشدة لاعتباره أى «مدبولى» شريكا لى فى الفرقة وشعر الأستاذ سيد بدير بالحرج الشديد من كثرة انتقادات مدبولى وذات يوم وبهدوء شديد وبدون أى ضجة قام بجمع كل أوراقه ومتعلقاته وترك الفرقة وحاول فؤاد المهندس أن يعيد الأستاذ إلى العمل والتعاون مع الفرقة مرة أخرى، ولكن محاولاته كلها فشلت وقال للمهندس: أنا فنان أعتز بكرامتى بشدة، فهى كل ما أملك.. ولن أستطيع العودة إلى العمل مرة أخرى.. واحترم المهندس وجهة نظر ومبدأ الأستاذ وأنهى النقاش، وعندما أبدى المهندس إعجابه بالرجل ومسلكه أمامى.. قلت له لا تندهش فهذا الرجل له مواقف شديدة النبل.. فقد ترك شقته الكبيرة للسيدة حرمه وكانت شقة فخيمة فى موقع متميز وأقام بمكتبه واتخذه مسكنا فى الوقت نفسه بعد أن انفصل عن الزوجة.
وبدأت أتولى مسألة التعاقد مع النجوم بنفسى وذهبت إلى نادية لطفى واتفقت معها على أجر كان فى هذه الأيام يعتبر أجرا فى الأحلام.. حيث بلغ ألف جنيه بالتمام والكمال فى الشهر الواحد، وقد اشترطت الفنانة الكبيرة ألا تزيد فترة العرض على شهرين اثنين فقط لا غير.. وقلت لها إنه من الأفضل أن ننتظر ونرى ما سوف تكون عليه الأمور بعد العرض.. فقالت لى إن سر موافقتها على العمل فى المسرح وهى نجمة السينما سببه الوحيد أنها أحبت النص وأنها تريد أن تثبت لنفسها أن النجاح الذى تحقق فى السينما لابد أن يتبعه نجاح على خشبة المسرح.
وجاء الدور على الأستاذ حسين كمال.. الذى طلب منى رقما خياليا بالنسبة للمخرجين.. وقال إن مبلغ الستمائة جنيه لا يعد شيئا يذكر إلى جانب المجهود الخرافى المطلوب منه لكى يخرج العمل بشكل مبهر.
وكان على أن أتجه بعد ذلك إلى الملحن الذى بدأ معى الرحلة من أول السلم الأستاذ بليغ حمدى.
وبمجرد أن أبلغته بالأمر قام بوضع إمضائه على العقد دون أن يفتح فمه بكلمة بخصوص الأجر، فقد كانت لديه أحلام عظيمة فى إعادة المسرح الغنائى إلى الحياة من جديد.. وكان لديه إحساس بأنه قادر على القيام بتحقيق هذا الحلم، ولذلك فقد نسى تماما مسألة الفلوس التى لا يمكن أن تقارن بحلمه الذى أوشك على أن يكون واقعا، وكان بليغ يتندر بأيام سيد درويش وزكريا أحمد وأحمد صدقى.
الشىء الأعجب الذى حدث فى هذه الرواية.. أن الذى قام بكتابة استعراضات المسرحية التى كانت مذهلة ورائعة ومدهشة للجميع سواء لأهل الفن أو للمتفرجين أو النقاد.. كان هو نفسه الأستاذ جليل البندارى.. فقد اكتشفت أنه وقبل أن يحترف الكتابة فى الصحف.. كان زجالا وله إسهامات هائلة فى هذا المجال.
وبدأ الفنان حسين كمال فى اختيار طاقم الفنانين المشاركين فى العرض.. وكان دور البطولة للسيدة نادية لطفى.. أمام نادية كان هناك دور كبير وضخم وأساسى لشخصية سماها جليل البندارى الشيخ سيد الصفتى.. وهى شخصية غنية جدا ومتعددة، الأبعاد، فهو شيخ معمم.. وفى الوقت نفسه يشاهد «بمبة كشر» ومتيم بها لدرجة العشق.. وهو يطلبها للزواج، ولكنها تضع شرطا قاسيا.. وهو أن يتخلى علشان خاطر عيونها عن الجبة والقفطان والعمة.. ويرتدى الزى العصرى البدلة والكرافات، وفى كل مرة يرفض الشرط.. تتزوج بمبة كشر بغيره وهو على حبها باقٍ وعلى رغبته فى الزواج ملح، وهكذا يتكرر الأمر عدة مرات وتتعدد زيجات بمبة كشر.. حتى يأتى يوم ولا يجد الشيخ سيد الصفتى مفرا من القبول بالتخلى عن العمة والجبة والقفطان لرغبته القاتلة فى تتويج حبه لبمبة كشر بالزواج.. ساعتها تكون بمبة كشر قد غادرت دنيا الأحياء.
كان أمين الهنيدى يتمنى من أعماق قلبه لو أنه قام بهذا الدور فهو أكثر الجميع جدارة للقيام بدور الشيخ المعمم.. وفاتحنى الهنيدى فى الأمر ولكنى رفضت تماما رغم اقتناعى الكامل بأنه أصلح الجميع لأداء الدور.. بالطبع كان ح يكسر الدنيا.. ولكن الهنيدى عنده عيب خطير.. فهو لا يلتزم بالنص.. خصوصا. إذا أخطأ الممثل أمامه فإنه لا يفوت أى خطأ أو هفوة.. بالعكس إنه يستطيع أن يصنع من الخطأ هذا فاصلاً متواصلاً من الضحك يضحك عليه الممثل المخطئ نفسه والجمهور أيضا.. وقد خشيت على الفنانة نادية لطفى التى تقف للمرة الأولى فى حياتها على خشبة المسرح، وبالتالى فإن الخطأ وارد جدا وأيضا خروج الهنيدى هنا مضمون فإنه مائة بالمائة سوف يربك نادية لطفى تماما لو أخطأت وربما تترك الرواية وتهجر المسرح إلى الأبد.. هنا كان ولابد أن أستبعد الهنيدى نهائيا.. وتم استبداله بالأستاذ مدبولى وتم الاتفاق على الأدوار التى ترشح لها الأساتذة: حسن مصطفى ونظيم شعراوى وسيد زيان فى أول انضمام له مع الفرقة.. وفاروق فلوكس ومحمد يوسف والشيخ حامد مرسى والسيدات ثريا حلمى ونبيلة السيد وجمالات زايد.
واجهتنا عقبة جديدة أثناء عملية تسجيل الاستعراضات.. فقد كانت السيدة نادية لطفى تعيد الغناء وفى كل مرة لا تصل إلى المطلوب وهنا اكتشف بليغ حمدى أن أذن نادية لطفى لا تملك الحس الموسيقى وحاول فى عملية التكرار أن يصل إلى نتيجة مرضية ولكنه فشل.. وهنا قرر بعد أن عرض على الأستاذ جليل البندارى فكرة أن تبدأ نادية لطفى الكوبليه.. بكلمة واحدة فقط.. القاء.. وتكمل السيدة ثريا حلمى بقية الكوبليه..
مثلا تبدأ نادية قائلة... (شبكشى).. وتستكمل ثريا حلمى الكوبليه.. ثم تقول نادية (مهرى) وتدخل ثريا لتكمل وتغنى الكوبليه. وكان ظهور نادية لطفى على المسرح له بهاء وإبهار خاص بها وحدها.. كانت مفاجأة بكل ما تعنى الكلمة، توهج غير معهود واختيار ذكى جدا للملابس والإكسسوار بفضل نادية وحسين كمال معا بدت على المسرح وكأنها ملكة متوجة على العرش وكان النجاح الباهر حليفا لها.
استمر عرض بمبة كشر بنجاح لا نظير له على مسرح الحرية وأثناء العرض تلقيت دعوة لإقامة عدة حفلات بدولة الكويت لمسرحيات سبق أن قدمها أمين الهنيدى وفؤاد المهندس.. وقبلت السفر بالفعل، ولكن ما أن علمت السيدة نادية لطفى بالأمر حتى ثارت فى وجهى معترضة.. ذلك لأن بعض الممثلين فى بمبة كشر هم أصحاب أدوار رئيسية فى المسرحيات المسافرة إلى الكويت.. وقالت هل تسافر وتغلق مسرحية ( بمبة كشر) وهى فى قمة النجاح.. إذا أغلقنا المسرحية سوف يتصور الناس أننا فشلنا وهذا أمر لم يحدث.. وأضافت: أنا سوف أستمر فى عرض الرواية فلا يمكن بعد هذا النجاح الساحق أن ينتهى العرض بالسكتة القلبية.
هنا وجدت نفسى فى حيرة حقيقية.. فقد قبلت بالعرض فى دولة الكويت وتم التعاقد بالفعل مع الجانب الكويتى وأغلب المشاركين فى ( بمبة كشر) لهم أدوار ضخمة ومهمة فى المسرحيات المسافرة إلى الكويت وهم: الأستاذ حسن مصطفى ونظيم شعراوى ومحمد يوسف وليس من المعقول أن أذهب إلى الكويت وأستعين بممثلين جدد لا يعرفون الحركة ولا يحفظون النص ستكون مهمة مستحيلة..
هنا قالت السيدة نادية لطفى: من يريد أن يسافر لن نمنعه ولكننا سنقوم بإيجاد البديل، وبالفعل حل الأستاذ سعيد أبو بكر محل حسن مصطفى والأستاذ صلاح نظمى محل نظيم شعراوى والأٍستاذ بدر نوفل محل محمد يوسف.
وكان على أن أذهب بمفردى إلى الكويت سريعا للإعداد مبكرا قبل وصول الممثلين.. وعرض الأستاذ جليل البندارى أن يسافر معى إلى الكويت فرحبت بالفكرة جدا .. كان جليل شخصا ممتعا فى صحبته فهو دائم السخرية من الناس والأشياء بشكل غير خارج بالعكس فهو يسعد من يقع ضحية له ويجعله فى نفس الوقت من أقرب الناس إليه لما لديه من صفات محببة للنفس.
وقد كنت حجزت لنفسى تذكرة فى الدرجة الأولى وعندما لم أجد تذكرة له فى الدرجة نفسها قالوا لم يعد هناك تذاكر متاحة سوى فى الدرجة السياحية فعدت إلى جليل لأخبره بالأمر فقال على الفور: هى لو الطيارة وقعت ح ينجوا ركاب الأولى ويموت ركاب السبنسة.
وسافرت مع جليل البندارى.. وصلنا الفندق فى الكويت الساعة الثامنة مساء وصعدت إلى غرفتى وبعد دقائق معدودة وجدت طرقا على الباب فوجدت فاتورة خاصة بأدوية مسحوبة من صيدلية الفندق.. قلت لهم واضح أنكم أخطأتم فى الغرفة.. فقال الرجال.. لا.. أنها الغرفة المقصودة.. مش سيادتك أ/ سمير خفاجى فقلت نعم، ولكنى لم أطلب شيئا من الصيدلية فقال الرجل.. صديقك الأستاذ بندارى هو إللى طلب.. ودفعت ثمن الفاتورة.. واتجهت إلى غرفة الأستاذ جليل وساخرا قلت له: أنت جاى هنا علشان تعمل عيان واصرف عليك.. فقال بلهجة جادة: وبصوت يكاد يخرج من فمه بصعوبة: أنا نازل مصر!
فقلت له.. أنت لسه جيت الكويت علشان ترجع مصر.. ده إحنا لسه واصلين.. فقال: لا يا سمير عاوز أرجع.. أموت وسط أولادى ساعتها نظرت إلى وجه الأستاذ جليل البندارى واكتشفت ما جعلنى أتسمر فى المكان.