الجمعة 23 مايو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد امبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد امبابي

مريم صالح «النعكشة» : قمة الفن

مريم صالح «النعكشة» : قمة الفن
مريم صالح «النعكشة» : قمة الفن


«أنا بيت فى بيت أنا رص رص أنا دوشة، أنا دوشة دوشة أنا هس هس أنا كله، أنا كله كله أنا نص نص أنا عو عو أنا يما يما، أنا حق».. أنزل حاجبيك  وحاول أن تغلق فمك من «السباب المستغرب» ربما مما تسمعه، وحاول أن تصمت زحمة الأفكار التى أغرقت ذهنك فجأة فيما تقول «إيه العك ده؟»، «إيه اللى بسمعه ده»، «مين البت دى»،  أكمل بقية الكلمات، لتجد جرعات الغرابة قد زادت للضعف «أنا حق حق أنا خم خم أنا أعمى، أنا أعمى أعمى، أنا بص بص أنا عندى عندى هناك هناك، أنا جرح جرح علاج علاج، أنا عيشة، أنا عيشة عيشة هلاك».
لا هى ليست تعويذة ولا مجرد كلام «عابر» ربما تصفه «بالهبل»، أو«الجنان المفرط» فى تكوينه، لكن الجنان الأكبر هو رغبتك اللاإرادية فى إعادة سماع الأغنية مرة تلو الأخرى، ليتحول الأمر من «انزعاج» و«خنقه» من «الصراخ» التى تقدمه المغنية، و«دوشة» المزيكا القوية بمحتواها، إلى «ارتياح» غريب جدًا، و«فصلان» تلقائى عما حولك من مشاكل وزحام وحتى «بشر».
يبدو أن مسامعك قد انخرست عما يحيط بك، وخطف ذهنك إلى مكان «معزول» لا تفاصيل فيه سوى ظلام يبتلعك، وصمت يكسر حاجز دوشة الموسيقى، ستغسل دماغك بشكل تدريجى مع استمرارك فى سماع التراك، لتتفوه شفتاك بكلمات تلك التعويذة «غصب عنك»، ستتفاجأ فى البداية من الأمر، وسيتحول فيما بعد إلى «حاجة بتضحكك»، و«تتريق ع اللى بتسمعه» حتى تصل إلى حالة «الإدمان» التامة لها، ولصوت من يؤديها، الذى لا يمكن تصنيفه أبدًا «أداءً غنائيًا» عاديًا، وإنما مجرد «صرخات» و«آهات» و«وجع»، تجسدت فى حبال صوت أنثوى ابتعد كل البعد عن الرقة والأنوثة المعتادة، ليدخل فى «سكة» الصراخ «بالمعنى الحرفى للكلمة»، «نشاز» ممكن وصفه بذلك، «عك» يجوز أيضًا، أو حتى «اقفل يبنى اللى بتسمعه ده».
لكن المدهش اسم التراك نفسه، والذى يحمل عنوان «مش بغنى»، ودخلة الأغنية بهدوئها فى المزيكا، وحتى تصاعدها بشكل مفاجئ مع وتيرة جملة «أنا مش بغنى، أنا مش بقول، أنا مش بنام أنا مش بقوم، أنا بالأخص وع العموم أنا أى حاجة وكل يوم»، هى فعلًا لا تغنى، هى بالأصل لا تقدم إليك أغنية والسلام، ليست مجرد وصلة موسيقية تسمعها من حين لآخر، أو تمسحها فور سماع أول 30 ثانية منها، وإنما «حالة» يجب أن تلمسك وتشعر بها حتى تفهمها، حالة من «اللعبكة» فى الشعور، بين الإزعاج التام، وعدم الارتياح، مرورًا بـ«عدم الفهم» و«أوفر دوز غرابة»، وصولاً إلى «التناحة» و«القبول» فى نهاية المطاف، هى ما تخلقها مريم صالح، صوت استثنائى فى خامته، و«أنثى» جريئة جدًا فى أسلوبها وكلامها، ملابسها «متلخبطة»، وشعرها «متنعكش»، وإطلالتها ع المسرح «خاطفة» للأبصار بكل بساطة، ابتسامتها جمعت بين «صفار الزيف» و«الخبث»، و«البهجة المطلقة» فى آن واحد.
شخصيتها «مريبة» بعض الشيء، لن تستطيع فهمها فى البداية، ربما تترك لك انطباعا أول صادما بـ«التناكة» و«الغرور»، مع قليل من بصمات «الشر» و«التخويف»، كمثل من يخاف أن يقترب من ملامسة «قطة» حتى لا تخربشه، لكن الحقيقة عكس ذلك تمامًا، هى بسيطة جدًا فى مظهرها وأبسط فى طباعها الشخصية، تصرفاتها وردودها تلقائية جدًا ولا إرادية فى المطلق، ربما تتفوه بقليل من الكلام دون وعى أو تفكير، أقرب ما تكون للطفولية، دمها «خفيف» وروحها غرقت فى برطمان عسل إن جاز التعبير، لو جربت الحديث معها بعد كسر حاجز الرهبة الأولية ستندهش جدًا من مسار الكلام، لتجد الحوار كله تحول إلى «هزار» و«ضحك» وحتى «تهريج» وإن كان الكلام كله «جد»، لن تستطيع استخراج أى معلومة مفيدة فى شكل صريح، إلا بعد تصفيتها من كم «الإفيهات» و«الدندنة» فى منتصفها، إطلالتها على خشبة المسرح «خاطفة» ببساطة، فلو جربت حضور إحدى حفلاتها اللايف، ستجد المسرح صامتًا، والمزيكاتية جلسوا فى أماكنهم، وتصاعدت صيحات الاستهجان من الحضور بعد طول انتظار لظهورها، لتشتعل فى المنتصف فجأة بؤرة إضاءة، مع لمحة خفيفة من المزيكا استعدادًا لدخولها، لتجد الجميع انتابهم صمت مفاجئ يتحول تدريجيًا إلى ضحكات متزايدة، عقب دخولها بكل طفولية وهى «بتجرى وتتنطط وعمالة تضحك وبتشاور للجمهور».
مريم صالح، كثرت ألقابها والجمل الوصفية لتوصيف حالتها، بين «الجريئة» و«المتمردة» بكسرها تابوهات المجتمع الشرقى، وحتى الوسط الفنى بأسلوبها الغنائى الصارخ، وبين اللقب الخفيف «المنعكشة» نظرًا لـ«ستايلها» المختلف تمامًا عن المعتاد، وحتى «اللى بتغنى الشيخ إمام بشكل غريب دي!»، فهى بداية اشتهرت بتقديمها أغانى الشيخ إمام وسيد درويش على طريقة مزيكا الروك، مريم تربت بالأصل على يد الشيخ، وكبرت على تراثياته، وسط أسرة فنية، من أم مطربة، وأب مسرحى قديم «صالح سعد»، دخلت الوسط الفنى من المسرح، عبر فرقة «السرادق»، ومن بعدها بدأت شغفها مع باند «جواز سفر»، بتقديم أغانى التراث بعود وطبلة، وتنقلت بين فرق الطمى المسرحية، والورشة، وفرقة مشروع كورال، وانغمست بين الحكى والتمثيل والغناء من وقت لآخر، حتى أسست مشروعها الثانى فرقة بركة، التى أضافت مزيكا الروك لتراث إمام، حتى وصلت لمرحلة أقرب للنضوج الفنى، وقررت الاستقلال بمشروع غنائى يحمل اسمها، وكان نتاجه مبهرا، عبر إطلاق أول ألبوماتها الرسمية «مش بغنى».
تحررت مريم قليلا من حملها رسالة الشيخ إمام فى أغانيها، لتقدم «ستايل» مختلفا فى الألبوم، معتمدًا على طابع المزيكا الروك، والكلمات الجريئة رغم «عدم فهمها» فى البداية، وحققت نجاحًا جماهيريًا غير مسبوق، رغم الانتقادات اللاذعة لها فى بداية إطلاق صوتها وموسيقاها وكلماتها، وصالت وجالت بجولات فنية فى أنحاء العالم العربى وأوروبا، حتى اختفت لمدة عن الساحة، وعادت بمفاجأة ألبومها الثانى «حلاويلا»، الذى حمل فى جعبته تجديدًا تامًا فى المحتوى الموسيقى خاصة بتعاونها مع الموسيقار اللبنانى زيد حمدان، «برنس» المزيكا الإلكترونية، وحمل نصف الألبوم إعادة إحياء لروائع الشيخ إمام أهمها الرئيسية «حلاويلا»، كما ضم جرعة مفرطة من الجرأة عبر أغانى «إصلاحات» و«وطن العك»، وتكمل حاليًا مريم سلسلة حفلاتها الناجحة خارج مصر، مع زيارة خاطفة «كل فين وفين» لجمهورها فى أم الدنيا.
مريم «حالة» أكثر منها مجرد مطربة عادية، تقدم خلطة بهارات سماعية من «النكد» التام والوجع الزائد بين معانى أغانيها، فما عليك إلا أخذ جولة سريعة إلى عالمها، بانعزالك داخل الهيدفون، وعش مع أغنية «وليه تنربط»، وكلمات «انساب وليه تنربط ياللى فى ضهرك جناح، أحزن عشان تنبسط، موت علشان ترتاح»، والتى تدخلك فورًا فى رغبة تلقائية بالانتحار، وتغرق فى كآبة كل ذكرياتك المحزنة والتى محاها الزمن، لتفكر جديًا فى التخلص من الحياة وتطير روحك للسماء، «ده الموت يعيدك لأصلك بس انت موتك معصلج، ياللى انت وشك غريب، ياللى انت قلبك محاصرك»، مع تفضيلك للعزلة التامة، مع دخولك فى «قوقعة» أغنيتها الأشهر «وحدى»، «عندى طول الوقت رغبة فى القعاد ع الأرض وحدى، رغبة فى السكات والقعدة وحدى»، مع أخذك القليل من جرعات الجرأة السياسية فى الطرح مع أغنية «حصر مصر»، «بعد طرحك من الحساب، للعساكر والكلاب، والأرانب والفيران، والأجانب والغيلان»، وأغنية «وطن العك»، مع متعة كلمات «دعونا نعشق وطن العك، فإذا استهلكنا لا نحتج، ونطس دماغنا فى الحيطة، فستثمر يومًا شكاليطة».
ولم تخل أغانيها من فرط عدم المنطقية ربما فى التعبيرات، مع «احسبلى سرعة الأيام بطول العمر ع المدة، مع إهمال أثر خوفك، وتأثيره ع الغدة»، والتى ستدعوك لـ«التتنيح» ربما مع بدايتها، والضحك على وقع تعبيراتها فيما بعد «وتفرز ريحة حافظها الكلب فى الشارع بنسبة مية فى المية، هيجرى وراك تقوم واقع، وتيجى فى وش عربية تقوم شايلاك فى سكتها»، والتى من المؤكد أنك ستعيدها مرارًا وتكرارًا دون أى زهق، وبالطبع لا يمكن تناسى ذكر رائعة «نيكسون بابا»، والتى أضافت إليها مريم لمسة من الخفة المطلقة للدم والمرح بأدائها التمثيلى الساخر، خاصة مع كلمات «بيقولوا اللحم المصرى مطرح ما بيسرى بيهرى، وده من تأثير الكشرى والفول والسوسى أبوزيت»، والتى تختتمها بوصلة «قهقهة» ممتعة جدًا «هاهاهاهاها»، لتختتم رحلتك الطويلة مع أغانى بنت صالح، بإحدى إبداعات ألبومها الأخير «حلاويلا» وأسرح مع أغنية «ولاعة سودا، شماعة زان، والدنيا توهة، وأنا ألعبان، زى المتاهة عايش مركز، والأصل إفكس والكاميرا هبلة، والكارت فاضى، وأنا قلت قابلة أقعد قصادى، ياحكومة وسخة أنا عايزة قاضى».■