الخميس 3 يوليو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

سقـوط دولـــة البابــا

سقـوط  دولـــة البابــا
سقـوط دولـــة البابــا


كان عصبيا فى هذا اليوم. متجهما.. حادًا فى كلامه.. انفعاله لا يليق بصبر قارئ لديكينز، ومدخن للبايب الإنجليزى الذى يحتاج إلى دقيقتين على الأقل كى يشعله وينطفئ غضبه.. السادات تحت قبة البرلمان فى 5 سبتمبر 1981 يردد :
«بذاءات، سفالة إجرام، حزب التجمع الملحدين، أهو مرمى فى السجن زى الكلب، وشنودة يغلط لأنه عاوز يعمل زعيم  للأقباط زعيم سياسى وعايز يحقق أهدافًا خاصة عنده» ثم يلقى البيان رقم 8 (الخاص بالرجل اللى عايز يعمل زعيم) :
«إلغاء قرار رئيس الجمهورية رقم 2782 لسنة 71 بتعيين الأنبا شنودة بابا الإسكندرية، وبطريركا للكرازة المرقسية، وتشكيل لجنة للقيام بالمهام البابوية من خمسة من الأساقفة...»، ثم يستطرد بتفسيره للحدث الجرىء: «أجريت هذا بعد  أن استشرت المخلصين للبلاد والكنيسة، وعلى هؤلاء الأساقفة سرعة معالجة الشعور القبطى العام فى الداخل والخارج، لكسر حاجز التعصب والحقد والكراهية وبث روح  المحبة والتسامح وعلى هذه اللجنة أن تتقدم للحكومة بكل الاقتراحات المناسبة لإعادة الكنيسة إلى وضعها التقليدى الأصيل كنسيج حى فى جسم الدولة وترسيخ روح الحب والوداعة والصبر والحكمة تجاه جميع الطوائف والناس التى كانت فيه رائدة لكل كنائس العالم».
يهلل النواب، والتصفيق الحاد يكاد أن يوقظ الموتى الخارجين من غرف عمليات قصر العينى، عدا نائبين قبطيين لم يصفقا، ثم تحرجا من موقفهما فى «ثورة التصفيق» فصفقا أخيرًا من باب الوحدة الوطنية، والخوف من جرأة الرئيس. أما عن استشارة السادات للمخلصين من أبناء الكنيسة فكان يقصد بها متى المسكين، الذى كفره شنودة بعد أن قويت شوكته بعد وفاة السادات وموسى صبرى.
على الجانب الآخر، كان الرجل الذى خصه السادات بالتهكم تارة.. وبالغضب تارة.. ثم أخيرا قرر عزله من كرسى البطريركية، قد شرع منذ أن تولى الباباوية أن يكون بابا على طريقة باباوات أوروبا فى العصور الوسطي: يتوج إمبراطورا.. ويعزل آخر.. يدعو لحروب صليبية، وأمره لا يرد فهو مندوب الله على الأرض.
فبعد توليه كرسى البابوية بعام واحد، وحين اندلعت أحداث الخانكة الطائفية فى العام 1972 بدلا من أن يهدى الشعب القبطى الثائر، أرسل رجال دين أقباط ومعهم 400 شاب ثائر يشحنهم بالشحنة الطائفية ضد الرئيس وضد الدولة الوطنية فتعود الاشتباكات مجددا.
لم يكن للأقباط وقت حكم الرئيس السادات (1970-1981) مراكز قوى فى البلاد غير اثنين: موسى صبرى مستشار السادات، وبطرس غالى، وزير الدولة للشئون الخارجية، خشى غالى على تاريخه وتاريخ عائلته العريق، الذى يستشهد بهم الأقباط مع آيات الإنجيل، فلم يتدخل فى أزمة واحدة كى يخرج أبيض ناصع حافلا بإنجازاته الدبلوماسية. أما صبرى الرجل القوى فلم يخش أحدًا من الأقباط، حتى إنه فى مذكراته قد اعترف أنه أراد يوما الزواج من مسلمة، وهذا لما رآه من خروج الأقباط عن مألوف الثقافتين: المصرية والعربية.. هكذا أحسب نظرة الرجل القبطى الأقوى فى عهد السادات،  وبعد صبرى لم تجد أحدًا يهذب شنودة على تجاوزاته، ويتخرج كزعيم قبطى مثله من مدرسة الدولة، وليس من مدرسة الكنيسة.
حكى لى الراحل أنيس منصور يوما عن الوضع القبطى، وكيف أنهم هاجموه بعد  مسلسل «من الذى لا يحب فاطمة». ثم تطرقتُ بالحديث معه عن صديقه موسى صبرى الذى كفره شنودة ومنع الصلاة عليه، فضحك وقال:  ضرب شنودة على رأسه مرتين، الأولى أنه فى يوم أخذت صبرى «الجلالة».. وهو من أعلام صاحبة الجلالة، وقابل شنودة وحدث شد بينهما، أما الثانية فهى أن صبرى ضرب شنودة على رأسه بعصا السادات. قلت لمنصور: إذن.. هل موسى صبرى هو وراء قرار السادات الشهير بعزل شنودة؟.. قال: نعم.. نصحه بذلك.
هكذا تكلم أنيس منصور. لكن أضيف أن سببًا آخر كان وراء هذا القرار، وأثار حفيظة السادات ضد شنودة، فأثناء زيارة جيمى كارتر لأسوان فى 15 مارس 1979واستقباله فى المطار مع وفد رسمى ضم شنودة، وقبل أن يصافح كارتر السادات، خرج شنودة من الصف المستقبل، وقدم إلى كارتر وصافحه  قبل أن يصافح الرئيس الأمريكى الضيف رئيس جمهورية شنودة، وهذه ما أثارت حفيظة السادات، إذ تخطى شنودة البروتوكول الرسمى.. وعمل زعيمًا.
فى خلال رئاسة شنودة للكنيسة (1971- 2012) وفى فترات الشد والجذب مع السادات. أقام شنودة وطنًا بديلا للأقباط أو وطنًا موازيًا، بدأت بمدارس الأحد، والأسرة المسيحية فى الجامعات. وفى مجال العمل كان الشباب القبطى يوظف عن طريق الكنيسة وليس عن طريق الدولة فيذهب لقس كنيسته يعطيه «كارت وصاية» لأحد الشركات أو المصانع التى يمتلكها أقباط، وظهرت المنتجات القبطية فى الأديرة والكنائس وتنوعت ما بين: «عسل نحل مار مينا»، و«مكرونة القديسة مارينا»، و«أسماك الأنبا إبرام»..  وهلم جر، ولو كانت هذه المنتجات صحية بالمعنى الحضارى لتم  توزيعها على الجميع: المسيحى والمسلم، وعلى الرجل الهندوسى الذى يعمل فى 6 أكتوبر.
 وفى مجال الإعلام ظهرت مجلة الكرازة وصحيفة وطنى ومجلة «الكتيبة الطيبية» التى هاجمت الوحدة الوطنية. ثم جاءت القنوات المسيحية والتوك شو المسيحى ، وكل هذا حل محل الإعلام الطبيعى للدولة، فلو تناولت وسائل الإعلام القبطية هذه الأمور الدينية فقط فهو أمر مقبول إن تبشر أصحاب دينك وترشدهم، لكنها للأسف تناولت كل جوانب الحياة من سياسية حتى اجتماعية، ما جعل الأقباط ينعزلون أكثر ويتقوقعون فى وطن صغير أو قل بديل هو الكنيسة. وانعكست هذه الوسائل على عقول الشباب القبطى وتأهيلهم الثقافى والاجتماعى، فقد تسأل شابا يافع: نفسك تطلع إيه؟.. سيرد: نفسى اطلع نجيب جرجس، أو بطرس مرقص اللذين شاهدهما وقرأ عنهما فى إعلامه المسيحى، أما نجيب محفوظ أو بطرس غالى فهو لا يراهم فى وسائل الإعلام المسيحية هذه، وبالتالى لا يعرفهم ولا يطمح أن يكون مثلهم، إضافة أن وسائل الإعلام والتربية الكنسية هذه علت من شأن النزعة الفرعونية وحدها دون الالتفات للحضارات  المصرية الأخرى، فكره الأقباط كل ما هو عربى، وظهر هذا جليا فى اختيار جيل (العشرينيات والثلاثينيات) أسماء لأولادهم وكلها أجنبية، فرفضوا اسم إبراهيم وداود وأسموا أولادهم: إبرام وديفيد على سبيل المثال.
وعلى الجانب الوطنى يكفى الإشارة أن فى كل مظاهرة قبطية كانت تخرج كان يردد الأقباط هتافات تندد بما يتعرضون له من مضايقات، بداية من حادثة وفاء قسطنطين مرورا بأى حادثة أخرى، إضافة لهتاف آخر أكثر طائفية: «أرفع راسك فوق.. أنت قبطي».
بعد وفاة شنودة  عام 2012 استمر الحال على ما هو عليه، وتولى باخوميوس أعمال البطريرك، وجاء تواضروس وما أشبه الليلة بالبارحة، ومن سوء إلى أسوأ، ومن انعزال عن الشعب المصرى إلى انعزال أكثر وأكثر.
إلى أن كان الفضل لثورة يونيو 2013 فى إعادة الهوية والروح الوطنية للأقباط، ولا يرجع فضلها هذا  فى مشاركة الأقباط بها، فهم شاركوا فى كل ثورات الشعب. بل كان الفضل الأعظم حينما تعرى الغرب وأمريكا أمام الأقباط، عندما ساندوا جماعة الإخوان، فأصبحوا يتساقطون شيئًا فشيئًا، وتحول هتاف المناصرة إلى المعاداة والمطالبة برحيل السفيرة الأمريكية، والدعاء على أوباما عدو المسيحية وعدو مصر.
أعقبت ثورة يونيو حادثتان شهيرتان كانا لهما أثر طيب على محاولات استرجاع الهوية المصرية للأقباط، الأولى هى زيارة السيسى للكاتدرائية فى 6 يناير 2015 وتهنئته للأقباط بعيد ميلاد المسيح، والثانية حينما انطلقت الطائرات المصرية تقصف داعش فى ليبيا، قصاصا لذبح 21 مصريا قبطيا. فأحس الأقباط يومها أنهم مصريون لهم ما للدولة.. وعليهم ما على الدولة. الطائرات قصفت داعش.. وقصفت أيضا أسوار الكنائس التى سجنت الأقباط بداخلها ومنعت عنهم هواء الوطن ونسمة الهوية المصرية، فخرجوا بأعلامها مهللين. وأسقطت رسميا دولة شنودة (1971- 2015). السيسى كان عنده حق فيما فعل (زيارة الكاتدرائية وقصف داعش)، والسادات كان عنده حق فى خطاب سبتمبر. أمام البرلمان.. ولا تتعجب  حين ترى بعد سقوط دولة شنودة، وإحلال الدولة المصرية مكانها، أن تجد النواب الأقباط  الـ36 الجدد يصفقون لكل قرار وطنى.