لبنان «فى انتظار جودو».. المسيحى

جورج ضرغام
من يخسر الجغرافيا دائما ما يذهب إلى التاريخ، ليعد مقعدا من تخمة الأوراق الصفراء البالية الآيلة للسقوط، ليجلس ويحكم بالناستولوجيا لا بمعطيات الواقع ومتغيراته السياسية التى فرضت عليه وهو مرغم لقبولها. هذا ما جناه مسيحيو لبنان.. وما جنى عليهم أحد غير الهجرة والحرب الأهلية، وخلافات الزعماء الموارنة، و«اتفاق الطائف» الذى قضى على السلطة الفعلية للمسيحيين. فهل من إلغائه، والعودة لما قبل العام 1990 أم هناك وسيلة أخرى تضمن للمسيحيين الوجود فى المعادلة السياسية، واسترجاع سيادة الكرسى المارونى الشاغر فى قصر بعبدا، بعد خروج الرئيس المسيحى ميشال سليمان منذ عام ونصف العام، بل والوجود فى ديارهم من الأساس؟
افتراض إلغاء «الطائف» يجرنا لما حدث لزعيم «حزب القوات» سمير جعجع، حينما وافق على الاتفاق ثم نقضه، فحكم عليه بالإعدام خفف للسجن المؤبد ثم استصدار عفو للإفراج عنه ليعود للحضن السعودى مرة أخرى، مع مغازلة معاونيه للوسط المسيحى فى الداخل بصورة بشير الجميل وشعاره: «لبنان أولا».
على رأس المحاولات الطامحة والمشروعة للعودة إلى السيادة، أو المشاركة المؤثرة فى القرار السياسى، تأتى جهود الزعماء الموارنة فى محاولة استصدار قانون استعادة الجنسية اللبنانية للمهاجرين أو المنحدرين من أصول لبنانية، الذى من شأنه أن يضمن أكثرية مسيحية على الأرض مثلما حدث أيام الإحصاء السكانى عام 1932 وغلبة الطرف المسيحى فيه، الذى قام على أساسه «الميثاق الوطنى الشفهى» عام 1943 وإعلان دولة لبنان المستقل، فالطرف المسيحى كان المتضرر الأكبر من الحرب الأهلية (1975 - 1990) لما وقع عليه من تهجير وإبادة كما حدث فى حرب الجبل، و«مجزرة الدامور» التى راح ضحيتها أكثر من 700 قتيل أغلبهم من النساء والأطفال فى أقل من ساعتين، وغيرها التى أدت إلى تقلص فى الكتلة السكانية المسيحية، ومن عجائب القدر السياسى أنه منذ أشهر قلائل على خلفية «أزمة النفايات» يطالب المتظاهرون فى «ساحة رياض الصلح» بوسط بيروت، بضرورة عودة الحقوق السياسية للمسيحيين!.
آخر ما تداول من أخبار وتسريبات حول عزم الزعماء المسيحيين إجبار مجلس النواب اللبنانى، ورئيسه نبيه برى على عقد جلسة تشريعية لإقرار قانون استعادة الجنسية وقانون الانتخاب، وما أشيع عن عزم «حزب القوات اللبنانية» برئاسة جعجع حشده جماهيره بالتزامن مع إصدار بيان مشترك مع القوى المسيحية الأخرى: الكتائب والتيار الوطنى الحر للنزول إلى الشارع والاحتكام إلى الإضراب والاعتصام تحسبا للجلسة التشريعية التى قد تعقد من دون القوى المسيحية لوضع قانون الانتخاب وإبداء الاعتراض على التمادى فى طرح قانون استعادة الجنسية اللبنانية. وكان قبلها قد أبدى الزعيم المسيحى الجنرال عون اعتراضه وكثف جهوده ودعا أنصاره إلى النزول إلى الشارع وآخر جهوده ما عرضته قناته الفضائية «أو تى فى» من برومو يتضمن شرحا بالأرقام أعداد المهاجرين اللبنانيين فى كل بقاع الأرض.
ليست جريمة
استعادة الجنسية اللبنانية ليست جريمة.. فلم المماطلة فى إقرار قانون ينظمها؟! وقد سبق وأن تم تجنيس 100 ألف من المسلمين السنة، و30 ألفاً من المسلمين الشيعة، فى «مرسوم التجنيس» عام 1994 أيام الرئيس الياس الهراوى، ورئيس الوزراء رفيق الحريرى. لكن يظل السؤال الصعب قائما على: هل سيعود المسيحيون اللبنانيون إلى أرض أجدادهم؟ أو بالأحرى هل بريق البيزنس وجواز السفر الغربى صار أطيب للعين من بريق شجرة الأرز الأخضر؟!
المسيحى اللبنانى الآن صار أشبه بزهرة عباد الشمس، صحيح أنها مكون رئيسى للحفاظ على الصحة العامة، إلا أنها تابعة لا مستقلة فى اتخاذ مسارها وقرارها نحو الاتجاه الذى تريده، فالتيار العونى يدعم بعمامة شيعية ممثلة فى حليفه حزب الله.
والقوات اللبنانية تلبس عقالا سعوديا، رغم الانتهاكات السعودية المتكررة تجاه المسيحيين بصفة عامة «كالقبض على من بحوزته إنجيل»، واللبنانيون بصفة خاصة «كمحاولات إخراج عبدالمحسن بن الوليد، الذى أوقفته قوى الأمن اللبنانية وبحيازته طناً من الحبوب المخدرة»، إضافة إلى استخدام السعودية «القوات اللبنانية» لضرب تحالف «عون - نصر الله»، وإخراج النفوذ الإيرانى من المعادلة السياسية اللبنانية الصعبة، و«حزب الكتائب» يحب دائما أن يردد قول الشاعر:
شاخ الزمان وإنت بعد الشباب
هل لى بعرض البحر نصف جزيرة؟
فى البحث عن «كبش فداء» لا مسيحا فاديا مصلوبا يخلص المسيحيين اللبنانيين، وتقع عليه مسئولية تدهور الحال المسيحى، وتهديد الوجود المسيحى فى لبنان ومن ثم المنطقة كلها، يقع الاتهام على كل الزعماء المسيحيين ورجال الدين، باستثناء الجنرال ميشال عون فلو التف المسيحيون حوله قبل إسقاطه فى أكتوبر 1990 لما وصل بهم الحال لما وصل إليه الآن من تهميش، فمشروع عون كان وطنيا يكفل السيادة المسيحية فى السلطة، لأنه كان ضد «اتفاق الطائف» الذى أهدر السيادة المسيحية فى السلطة وأصبح منصب رئيس الجمهورية منصبا شرفيا لا سياديا، عون كان مع التعايش والوحدة الوطنية وإيجاد حل للقضية الفلسطينية، لكن حدث العكس فقد سلمه الرئيس الأسبق أمين الجميل السلطة، وكان لا يمتلك سيادة على الأرض سوى أمتار قليلة هى محيط قصر بعبدا، وبضع كيلومترات هى مساحة قضاء المتن، والأشرفية! ومع ذلك صار عون مخلصا مسيحيا وعربيا، وحاول فرض دولة القانون ذات سيادة، لا دولة ميليشيات مسلحة، فاصطدم بسمير جعجع فى حرب الإلغاء، وبالجيش السورى الذى حاول فرض سيادته على أرض ليست له، كذلك اصطدم بالبطريرك المارونى نصر الله صفير نظرا لتأييده لاتفاق الطائف.
فظهر صفير بمظهر المهدر للكرامة والسيادة المسيحية، واقتحم أنصار الجنرال مقره فى بكركى وأجبروه على تقبيل صورة ميشال عون، بينما ظهر الجنرال عون فى صورة المسيح المخلص حامى السيادة والكرامة المسيحية واللبنانية.
السلاح للمقاومة فقط
حينما رفع الرئيس اللبنانى الراحل بشير الجميل شعاره «لبنان أولا»، أيده فريق لبنانى، ورفضه فريق لبنانى آخر، رافعا شعار «فلسطين أولا»، ورفعت الدول العربية شعارها الشهير: «الله يسعدهم.. ويبعدهم»!! فاصطدم الفريقان واحتدمت الحرب بقبحها ودماء أبريائها. وربما نسى الفريقان أننا كعرب مسيحيين ومسلمين أن قبلتنا الموحدة هى القدس الشريف، وأن فلسطين هى قضية كل العرب، وأن الرواية الرسمية للسلطة الفلسطينية مازالت تقول: «المقدسات المسيحية والإسلامية فى القدس». ولم يكن المسيحيون معارضون للوجود الفلسطينى بل على العكس وتشهد على ذلك محاولات الرئيس الأسبق شارل حلو فى تطوير البنية التحتية للمخيمات الفلسطينية، وأن يعيش الأخ الفلسطينى عيشة كريمة كأخيه اللبنانى شرط ألا يرفع السلاح. فالسلاح لمقاومة العدو الإسرائيلى وليس للشقيق العربى، ولا تنس أن الزعيمة المسيحية العربية فيروز غنت لزهرة المدائن فحفظتها الأجيال ونطقت من بعدها الشهادة العربية: «كلنا فلسطين.. كلنا لبنان.. كلنا أرض العرب». وعودة السيادة اللبنانية للمسيحيين والمسلمين (قبل الطائف) حق على كل عربى منصف أن يؤيدها، وأن تبقى لبنان بلدا متعدد الطوائف كل الطواف، وتبقى أرض الأرز وأرض فيروز «بانثيون عربى»، كالبانثيون الرومانى (مجمع الآلهة والأديان)، الذى شيده الرومان فى روما لكل أصحاب دين ومذهب مختلف يمر بها فيمتدح حضارتها وتنوعها.