الجمعة 23 مايو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد امبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد امبابي

رحل الغيطاني

رحل الغيطاني
رحل الغيطاني


«أمنيتى المستحيلة أن أمنح فرصة أخرى للعيش.. أن أولد من جديد لكن فى ظروف مغايرة أجيء مزودا بتلك المعارف التى اكتسبتها من وجودى الأول الموشك على النفاد.. أولد وأنا أعلم أن تلك النار تلسع.. وهذا الماء يغرق فيه من لا يتقن العوم.. وتلك النظرة تعنى الود وتلك تعنى التحذير. وتلك تنبئ عن ضغينة.. كم من أوقات أنفقتها لأدرك البديهيات.. ومازلت أتهجى بعض مفردات الأبجدية».

تلك كانت آخر ما كتبه أديبنا الراحل جمال الغيطاني- صاحب الزينى بركات- ودونها فى صفحته الرسمية بشبكة المعلومات العنكبوتية، عندما أتم عامه السبعين فى التاسع من مايو الماضي، وكان حينها فى كامل لياقته الروحية والذهنية، يتذكر مسيرته وسيرته الطويلة مع الكتابة والأدب والسفر والتاريخ والسياسة ومعشوقته القاهرة الفاطمية.
الغيطانى صاحب التجليات الذى غاص فى عمق الشخصية المصرية، عرفته لأول مرة من خلال ملحمته الأسطورية «الزينى بركات» التى روى من خلالها عن فترة الحكم المملوكى فى الظاهر لكنها تعبر عن حياة وتاريخ وأحداث وناس يمكن أن تقابلهم فى أى زمان أو مكان.
فى ذلك الوقت اعتقدت أن الغيطانى أحد المؤرخين المخضرمين أو الرواة الكبار، لم أتمكن من معرفة ملامحه تماماً، ثم مضت أيام وسنين قرأت خلالها لجمال الغيطانى الكثير من أعماله التاريخية والأدبية، كنت أحلق معه فى وصف الأمكنة، والحواري، والمقاهي، والشوارع، وأبنية القاهرة الفاطمية والمملوكية، أعيد خلالها بناء الصورة وأعيش مع بشر وأمكنةً ومصائر.
 عندما تقرأ «شطح المدينة» أو «المسافر خانة»، تظن جمال الغيطانى مهندسا معماريا، وفى كتاب ثان تظنه أحد مشايخ الصوفية، وفى كتاب آخر فناناً تشكيلياً. ناهيك عن تنوع إنتاجه الأدبى بين الرواية والقصة القصيرة، وإن ظلت الرواية هى السمة المميزة لإبداعه والنوع المحبب إلى قلبه.
يبدو جمال الغيطانى الصعيدي، لمن التقى به مزيجاً من شغف وحنين ورغبات وحارات جمالية فى الحسين وصندوق كتب جده.. إضافة إلى أشياء أخرى حولته إلى متأمل وكاتب نذر حياته لإنجاز تجارب عديدة ومختلفة، وصرف معظم وقته فى قراءة الكتب وتأليفها حتى تظن وأنت فى مكتبه بجريدة الأخبار أنك فى مكتبة عامرة بالكتب التى تحتوى على نفائس الأعمال، هى خلاصة حياته بما ضمته، خصّص جانباً منها لمؤلفاته الكثيرة، فهذا هو جمال الغيطانى متعددٌ فى الكتابة والحكايات.
يحكى الغيطانى عن بداية رحلته مع الصحافة والأدب قائلا: «لحظة البداية كانت عام 1959 عندما وجدت نفسى راغباً فى تدوين حكاية سمعتها من والدي. وظل مفتوناً بالكتاب حتى فارقنا إلى العالم الآخر، وفى ذلك الوقت المبكر من حياته، كان يقرأ كل ما تقع عليه عيناه تقريباً، ينسخ بخط يده الكتب التى لا يستطيع شراءها، يقرأ الترجمات وما تيسر من كتب التراث فى صندوق جده».
وكان أول كتاب صدر للغيطانى بعنوان: «أوراق شاب عاش منذ ألف عام» صدر فى بداية عام 1969. طبعه على نفقته الخاصة وبمساعدة من صديقه يوسف القعيد، وأحدث ذلك الكتاب ضجة كبيرة جداً، بالإضافة أن الكتاب كان يتضمن نوعاً من الرد الروحى على هزيمة يونيو 1967، قبل المعركة العسكرية الكبيرة فى حرب الاستنزاف.
ورغم أن الغيطانى ولد فى التاسع من مايو عام 1945 بقرية «جهينة» بمحافظة سوهاج، فإن نشأته فى حى الجمالية تركت انطباعاً عميقاً فى نفسه ترك أثراً بالغاً فى العديد من رواياته التى أظهر فيها أصداء عشقه لمنازل الصبا والطفولة، إضافة إلى علاقة عشق حقيقية بأماكن ومعالم تركت فيها الزمان بصمة خالدة لا تمحي.
أول قصة قصيرة للغيطانى نشرت في يوليو 1963 وعنوانها «زيارة» بمجلة الأديب اللبنانية. وفى نفس الشهر نشر مقالا فى مجلة الأدب التى كان يحررها الشيخ أمين الخولي، حول كتاب مترجم عن القصة السيكولوجية.
كتب ثلاث روايات فى الفترة من 1963 و1968 هي: «رحيل الخريف الدامى لم تنشر»- و«محكمة الأيام» فقد المخطوط أثناء اعتقاله عام 1966، و«اعتقال المغيب»- فقد أثناء اعتقاله عام 1966.
وفى عمر السادسة والعشرين «1971» صدرت «الزينى بركات» كاملة مُكملة فنيا ومعرفيا. لا يظهر «الزيني» بشخصه أبدا طوال الرواية. هو دائما فى أصوات الرواة العديدين ذلك الداهية المتخفى رجل كل العهود، من السلطان الغورى إلى الغازى «سليم بن عثمان». فى مرسوم تعيينه مُحتسبا للقاهرة مذكور أنه يلتزم بالسنة النبوية فى نتف شعر الإبط وحلق شعر العانة! فى الرواية هناك «عمرو بن العدوي» «ذلك المزدوج بكل ما تحمله الكلمة» وسعيد الجهيني، المعادل المعاصر للمثقف المأزوم قليل الحيلة.
وتعد «الزينى بركات» واحدة من أهم الروايات العربية التى ظهرت فى تاريخ الأدب العربي، ومن أوسع الروايات العربية أيضا انتشارا خارج لغتها.. إذ ترجمت للعديد من اللغات الأجنبية أولها الفرنسية سنة 1985 وقد وصفتها سلسلة بنجوين Penguin المتخصصة فى نشر كلاسيكيات الأدب العالمى بأنها واحدة من أبرز الروايات العربية، وكانت لدى صدورها بهذه السلسلة بالإنجليزية عام 1988 أول رواية عربية تترجم وتنشر بها.
وهناك رواية صغيرة لجمال الغيطانى لم تلفت النظر كثيراً عند ظهورها ربما لأن رواية الزينى بركات غطت عليها، تلك الرواية كانت بعنوان «الزويل» افترض فيها الغيطانى عالما قائما بذاته على حدود مصر والسودان فى الصحراء.
يحكى الغيطانى عن تلك الرواية قائلا: «لم أكن زرت تلك المنطقة، فلكى أوهم بوجودها وثقت، بمعنى أن أكتب مثلاً فى بنية الرواية فصلاً فى عادات الزويل وتقاليدهم وكذا وكأنها موجودة، طبعاً أنا كتبت هذا العنوان ربما كنت متأثراً بكلمة سودانية وهى زول فاشتققت العنوان، فى ذلك الوقت لم تكن الواقعية السحرية قد عُرفت بعد بالمفهوم الأمريكى اللاتيني، ولكن كثيراً من الأصدقاء يقولون لى لقد عرفت الواقعية السحرية قبل.. الحقيقة الواقعية السحرية موجودة فى أدبنا القديم، موجودة فى ألف ليلة وليلة، فى حكايات المتصوفة، فى الحياة اليومية.. فهذا ما حاولته، أنا ما زلت أغامر، يعنى الاستكانة إلى أسلوب لا يستفزنى إلا قول فلان أسلوبه كويس.. أنا مع اللغة بحاول أتجاوز اللغة باستمرار».
كما أثرى الغيطانى الأدب العربى بالعديد من الأعمال، منها مجموعة «أرض- أرض»، و«وقائع حارة الزعفراني»، و«متون الأهرام»، و«هاتف المغيب»، و«الخطط»، و«شطح المدينة»، و«حكايات الغريب».
وخاض تجربة ثرية ومتميزة فى العمل بالحقل الصحفى التى تتلاقى مع تجربته كأديب، بدأت من خلال عمله كمراسل حربى على جبهة القتال منذ 1969 حتى 1974 ثم عمله كمحرر بقسم التحقيقات الصحفية، ثم رئيسا للقسم الأدبى بجريدة الأخبار عام 1985. ورئيس تحرير جريدة «أخبار الأدب» التى صنع منها واحدة من أوسع الصحف العربية الأدبية انتشارا، إذ ارتقت بمجال الصحافة الأدبية لمستوى رفيع جاد قل أن عرفه ذلك الجنس من الكتابة فى اللغة العربية من قبل، فضلا عن فتحها آفاقا جديدة فى الثقافة العربية عموما جعل منها نموذجا مثيرا للإعجاب فى الجمع بين الصحافة والثقافة الجادة الرفيعة بمختلف تجلياتها وليس الأدب فقط.