«قناة السويس».. مالهاش فى السينما نصيب
هاجر عثمان
رغم أن دماء عشرات الآلاف من شباب ورجال مصر معجونة برمال قناة السويس ويكاد تنبت شطآن المجرى أزهارا من عظامهم الذائبة بين الرمل، فإن أعين السينما والتليفزيون كانت عمياء عن هذه الملحمة الإنسانية لشعب منح العالم أهم شريان ملاحى.
وعندما منح القدر السينمائيين فرصة لتدارك جريمتهم الفنية وبعث إليهم مشروع حفر قناة السويس الجديدة، الملحمة الجديدة التى سطرها المصريون، تكاسلوا مجددا.. وتجاهلوا الحرب التى يخوضها شباب مصر وماكيناتهم لإزالة ملايين الأطنان من الرمال، تجديد شباب القناة التى حفرها أجدادهم، بأخرى جديدة فقط الشعراء.
وباستثناء فيلم «شفيقة ومتولى» ومسلسل «بوابة الحلوانى» وكلمات الشاعر الكبير صلاح جاهين لا أحد استوقفته هذه المشروعات الملحمية.
يقول جاهين:
يا سايق الغليون
عدى القنال عدى
وقبل ما تعدى
خد مننا وادى
ده اللى فحت بحر القنال.. جدى
بحر القنال يا كترها رماله
وجدنا فوق الكتاف شاله
بحر القنال اتبدلت حاله
وجدنا متهنى بعياله..
هذه الكلمات غزلها بحرفية كبيرة وإحساس يفيض بالوطنية والفخر جاهين دفاعا عن المشروع العظيم بعد تأميم القناة وردا على العدوان الثلاثى الذى سعى لاستعادتها تحت سيطرة إنجلترا.
يبقى السؤال: هل قدمت السينما والدراما توثيقا لهذا المشروع القومى العظيم قديما، وهل استفادت مصر من أخطاء الماضى وصورت مراحل حفر القناة الجديدة لتقوم بإنتاج عمل فنى.
الإجابة أن فيلمًا ومسلسلاً فقط صورا معاناة المصريين مع حفر القناة، الأمر الذى استمر نحو 10 سنوات، وفى مسلسل «بوابة الحلوانى» تأليف محفوظ عبدالرحمن وإخراج إبراهيم الصحن مناقشة لحفر القناة وكيف خلقت مدنا جديدة مثل بورسعيد والإسماعيلية وكيف ضحى المواطنون، وضم العمل مجموعة نجوم منهم على الحجار وخالد النبوى، أحمد راتب، محمد وفيق، عبدالله غيث، سميرة عبدالعزيز.
أما الأعمال الدرامية الأخرى فتشير للحفر سريعا ضمن أحداث سياسية أخرى عبر استقدام مشاهد أرشيفية، وأبرز هذه المسلسلات التى اعتمدت على ذلك منها: «صديق العمر» بطولة جمال سليمان وباسم السمرة، الذى تناول قرار الرئيس الراحل جمال عبدالناصر بتأميم القناة ونتائجه والعدوان الثلاثى على مصر من فرنسا وإنجلترا وإسرائيل عام 1956 .
فى السينما لا يوجد سوى فيلم «شفيقة ومتولى» إخراج على بدرخان، من أكثر الأفلام التى صورت استعباد المواطن فى حفر القناة، ومعسكرات السخرة والحفر ومشاركة متولى «أحمد زكى» ودفاعه عن قتل المصريين وحرقهم بعد تفشى الوباء فى مشاهد بديعة.
وتناول فيلم «ناصر 56» بطولة الفنان الراحل أحمد زكى وتأليف محفوظ عبدالرحمن وإخراج محمد فاضل تأميم القناة بتفاصيله ونتائج التأميم.
واهتم فيلم «بورسعيد» تأليف وإخراج عزالدين ذوالفقار بتصوير العدوان الثلاثى والمقاومة الشعبية لأهالى السويس للدفاع عن مصر بعد قرار التأميم، الفيلم بطولة فريد شوقى وشكرى سرحان وليلى فوزى ورشدى أباظة.
الغريب أن السينما لم تستعد لتسجيل ملحمة حفر القناة الجديدة أيضا. حيث قال مجدى أحمد على، المخرج السينمائى: إن إدارة الشئون المعنوية لم تدع أى سينمائى مصرى ليكون موجودًا مع فريق مدرب من الفنيين والمصورين لمتابعة جميع مراحل الحفر حتى نهاية الاحتفال والافتتاح.
أضاف «على»: إن الدولة لاتزال تنظر للفن والثقافة نظرة غير لائقة وتحتقر الإبداع، ولا يوجد لديها ثقة فى المبدع المصرى من أول غيابه وعدم استدعائه فى توثيق حرب أكتوبر 1973 لافتا إلى أن الأمريكان ينتجون يوميا أفلاما عن الحرب العالمية الأولى والثانية ومئات من الأفلام التى توثق إنجازات صغيرة للشعب الأمريكى، ولكن يتم تضخيمها عبر أفلام هوليوودية لأنهم واعون بأن السينما وسيط فنى استراتيجى خطير.
وأوضح أن عدم سعى المنتجين لتقديم أفلام توثيقية لحفر قناة السويس القديمة أو الجديدة يعود لحاجتها إلى مجاميع وجرافيك، خاصة أنه لا يوجد منتج يغامر بأمواله فى تقديم فيلم سينمائى قد لا يكون مناسبا للذوق العام السينمائى فى الوقت الحالى، ولكنه مهم على المدى البعيد لأنه سيوثق نجاحات المصريين عبر السنين للأجيال القادمة والعالم كله.
ونبه إلى أنه من المؤسف بعد ثورتين أن الدولة لا تفهم أن السينما إحدى أدوات القوة الناعمة وأنها صناعة استراتيجية وليست أداة للتسلية والترفيه، كما يعتقد المسئولون، هذا الموقف يجب أن يتغير.
قال الشاعر زين العابدين فؤاد: إن صلاح جاهين كتب أكثر من نص شعرى عن حفر القناة غناه محمد عبدالمطلب ومنها «يا سائق الغليون» من قصيدة «موال علشان القنال».
وجاء مسلسل «بوابة الحلوانى» للمؤلف محفوظ عبدالرحمن الأبرز فى توثيق حفر القناة القديمة.
وأضاف زين العابدين: إن الفرنسيين لم يهتموا بتوثيق حفر القناة فى الفترة من 1859- 1869 أو أعداد المصريين الذين شاركوا فى الحفر أو ماتوا خلاله، ولكن أشعار صلاح جاهين وفؤاد حداد أعادت لهم الاعتبار.
أوضح فؤاد أن التركيز على معاناة المواطن المصرى الذى ضحى فى المشروعات العظيمة والإنجازات الكبيرة التى حققتها مصر لم يكن موجودا بوضوح فى الكتابات أو الأعمال الدرامية أو السينمائية، مشيرا إلى أن كتاب الدراما ركزوا بدرجة كبيرة على قرار التأميم.
وأكد أن أزمة إنتاج أفلام ودراما تتناول مشروعا عظيما كحفر القناة القديمة يعود لغياب الرؤية بالمنظومة الإعلامية بشكل عام من صحف وراديو وخطب بالجوامع وخطاب سياسى، وكيفية توجيهها للجماهير، فنجد دائما أن هذه المنظومة تختزل المشروعات فى شخصيات وقيادات، وتنسى المواطن العادى وما بذله من تضحيات وما صنعه من إنجازات.
ويرى محمد فاضل، المخرج القدير، أنه من المؤسف أن السينما لم تقدم معالجة كافية لتوثيق حفر القناة الذى استغرق المصريون فى إنجازه 10 سنوات، وهذا يعود إلى أن وزارة الثقافة خلال الـ 30 عامًا الماضية من حكم الرئيس الأسبق حسنى مبارك كانت تعانى من تراجع كبير، سواء لعدم اقتناع المسئولين أو انشغالهم، عن توظيف الثقافة والفنون فى التعبير عن إنجازات المجتمع المصرى.
وأوضح أن الشعر والأدب كانا أسهل وأغزر فى التعبير عن الحفر فهو صناعة سهلة لا تحتاج سوى ورقة وقلم، ولكن الدراما والسينما صناعة ضخمة تحتاج إلى أموال لإنتاج عمل سينمائى يليق بمشروعات عظيمة كحفر القناتين الأولى والثانية.
وأضاف: إنه من المؤسف تكرار الخطأ نفسه مع القناة الجديدة، وكان يجب على الشئون المعنوية والقوات المسلحة وهيئة قناة السويس إتاحة الفرصة للمبدعين والسينمائيين لتسجيل المشروع من خلال عيونهم السينمائية بطريقة احترافية.
وأشار إلى أن لديه العشرات من القصص والأفكار عن القناة، ولكن لا يستطيع الإفصاح عنها حتى لا تتم سرقتها، وناشد الرئيس عبدالفتاح السيسى والمهندس إبراهيم محلب لتبنى مشروع سينمائى يوثق للإنجاز القومى الذى تحقق فى زمن قياسى.∎