حليم والسادات قتلا النمر الأسود

طارق مرسي
«ما لم يكن عبقريا وخلاقا وفذا فلا يدخل علينا» عبارة مستوحاة من جملة شهيرة مكتوبة على أكاديمية عالم وفيلسوف الرياضة الأشهر فيثارغورث الذى أفنى حياته لإثبات أن العالم أصله عدد ونغم بالأدلة والبراهين وكان لا يدخل أكاديميته إلا المؤمن بالرياضة باعتبارها سر الكون.
روزاليوسف كان هذا هو شعارها كواحة للإبداع والمبدعين لم يدخل عليها سوى العباقرة والأفذاذ والخلاقين والمفارقة أن الراحلين عبدالحليم حافظ وأحمد زكى فى قائمة هؤلاء.. «روزا» العملاقة آمنت بموهبتهما الربانية وكانت شاهدا على ما قدماه من إبداع لا ينسى وكانت شريكا فى النجاح والآلام التى عانى منها العندليب الأسمر والنمر الأسود فى مشوارهما المبدع.
عندليب التمثيل الأسمر «أحمد زكى» كان له فى «روزا» تاريخ وجغرافيا عبر مسيرته الفنية وكانت رقيبا على أعماله قبل وبعد تخرجه من معهد الفنون المسرحية عام 27 بتقدير جيد جدا والذى أهله بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف خلال تاريخه الفنى حتى احتل المكانة التى تليق به.. «أحمد زكى» المتفوق علميا كان ضمن أوائل دفعته التى ضمت عفاف على أحمد شعيب «عفاف شعيب» ومصطفى أحمد متولى «مصطفى متولى» وأحمد عبدالوارث أحمد «أحمد عبدالوارث» وعهدى صادق بشاى حنا «عهدى صادق» ومنى جان قطان «منى قطان» زوجة الراحل العبقرى صلاح جاهين.. لكن «أحمد» تفوق على الجميع رغم تاريخهم الفنى المميز.. وجلس على الصدارة محطما كل النظريات الفنية المعمول بها فى الوسط الفنى والتى كانت تضع «كلا شبهات» فتى الشاشة الأول لكن ببشرته السمراء وملامحه المصرية العميقة كسر كل النظريات وتصدر المشهد ببراعة كبيرة.
لم يكن طريق «النمر الأسود» مفروشا بالورود مثل آخرين وصلوا للقمة وسقطوا منها بل بدأ مشواره من تحت الصفر حتى تجاوز الأرقام القياسية.
أحمد زكى عبدالرحمن بدوى المولود فى 81 نوفمبر 9491، المدينة الزقازيق بمحافظة الشرقية، ظهرت موهبته مبكرا، قبل سنوات التحاقه بمعهد الفنون المسرحية من خلال فرق التمثيل المدرسى وعندما التحق بالأكاديمية انتعشت موهبته عندما شارك فى مسرحية «هالو شلبى» الشهيرة مع أستاذ الكوميديا الراحل عبدالمنعم مدبولى، وعقب تخرجه بتفوق اختاره جلال الشرقاوى للمشاركة فى المسرحية الأشهر «مدرسة المشاغبين» تأليف على سالم، وبعد النجاح المدوى لها تنقل إلى أدوار مميزة جعلته الفارس الأوحد لعبقرية التقمص من الباطنية إلى عيون لا تنام وشفيقة ومتولى والراقصة والطبال والبيه البواب وزوجة رجل مهم وكابوريا وهيستيرا وضد الحكومة، وبينها رائعة ناصر 65 واختتم مشواره السينمائى الفريد بفيلميه «حليم» وأيام السادات، وكانت عبقرية التقمص فيهما قد تجاوزت كل الحدود والنظريات العلمية الفنية.
النجم العملاق مثل عظماء الفن المصرى بخلاف صولاته وجولاته الفنية ومعاناته كان له دراما حب خاصة فى أروقة روزاليوسف وخلال مراحل مشواره المتنوعة راهن عليه كبار الكتاب وصغار المحررين وكسب الجميع الرهان عليه كممثل فذ.
مشوار الممثل العبقرى كان محل اهتمامى فى بداياتى والتحمت هذه العلاقة فى مرحلة النجومية والتألق وكنت من شهود رحلته الأخيرة، ومن أوائل من تلقوا صدمة مرضه اللعين من طبيبه الخاص ولم أفصح به كانفراد مثلما يحدث فى الأوساط الإعلامية وتكتمت الخبر اللعين ويحدونى أمل تجاوز المحنة أن تحيطه عناية الله.. وقبل هذه المحنة كنت شاهدا على أزمته الكبرى فى فيلم «أيام السادات» الذى تحمل من أجل خروجه للنور الكثير من الآلام انتهت بسرقة نسخة الفيلم وطرحها فى الأسواق أمام السينمات فى وقت عرضه مما كبل الفيلم الفلتة خسائر فادحة له باعتباره منتجا له باع من أجل إتمامه كل ما يملك من أموال وأصول.. «أحمد زكى» بعد يوم من طرحه فى دور العرض جاء مترجلا من محل إقامته فى ذلك الوقت بفندق هيلتون رمسيس ــ كما قال لى ــ لروزاليوسف طالبا المساندة والحماية من الذين اغتالوا حلمه بسرقة الفيلم فى مؤامرة كبرى تحالفت فيها أطراف كثيرة سياسية وفنية، لم أنس أول كلماته لى «سرقونى وسرقوا حلمى» وتحدث معى بدون مواربة عن محنة سرقة فيلمه ووقتها رغم صراحته المعهودة وقسوة أزمته لم يتهم أطرافا بعينها، فقد كانت كل الأطراف مفضوحة ومعروفة ولكنه كان يتساءل: لماذا وكيف؟ هذه الأزمة كانت من عوامل تفاقم صحته وانهيار جهازه المناعى بالكامل فقد كان أحمد مثلما كان يتقمص دورا حتى يخرج للجمهور كان يعيشه بكل تفاصيله ومشاعره ولا يدخل فيه إلا عندما يصدقه ويؤمن به لدرجة أنه يتحول تلقائيا للشخصية التى يقدمها ولا يخرج منها بسهولة.
هذه المحنة قتلت «أحمد زكى» وساهمت إلى حد كبير فى انهياره وفقدان توازنه والتحكم فى انفعالاته كما يفعل فى أعماله.
هذه الزيارة كانت الأخيرة للنمر الأسود لروزاليوسف بعدها دخل فى غيبوبة المرض والمفارقة أنه كان يفيق منها بتقمص دور عندليب الغناء «حليم» الذى كان أحد أحلامه لتشابه الموهبة والطموح والحلم الفنى.
«حليم وزكى» أسطورة لم ولن تتكرر بسهولة وفصل جديد من حكايات ألف ليلة وليلة بالعبقرية المصرية وعزاؤنا الوحيد هو أعمالهما الخالدة التى ستستمر حتى فناء هذه الدنيا.∎