دماء فى مدينة «الجن والملائكة»

مرفت الحطيم
فى هجوم إرهابى غير مسبوق نفذه مسلحون على صحيفة «شارلى إبدو» الساخرة فى باريس قتل 12 شخصا وأصيب 10 آخرون بينهم 5 فى حالة خطيرة، ومن بين القتلى شرطيان، ونقلت وكالة فرانس برس عن مصدر فى الشرطة قوله إن شهود عيان سمعوا المهاجمين يهتفون «انتقمنا للرسول» فى الوقت نفسه اتضح أن من بين القتلى المشهورين كابى وشارب وتينيوس وفولانسكى، الذين صنعوا تاريخ الصحيفة، وقد تصادف الاعتداء مع انعقاد الاجتماع الأسبوعى، قبل صدورها الأسبوعى كل يوم خميس، بل جرى فى المقر الجديد الذى افتتح بعد احتراق مقرها القديم فى اعتداء سابق.
وهذه ليست المرة الأولى التى تتعرض فيها الصحيفة الساخرة لاعتداء، فقد تعرضت فى السابق لقنبلة فجرت مقراتها وظلت ضيفة على جريدة «ليبراسيون» لكن الاعتداء الأخير هو الأكثر دموية فى فرنسا منذ خمسين عاما.
و«شارلى إبدو» صحيفة ساخرة تصدر رسوما كاريكاتورية شكلت جدلا واسعا فى السابق، من بينها رسومات تناولت النبى «محمد» «صلى الله عليه وسلم» مرتين مما أدى إلى تظاهرات ضدها فى العالم الإسلامى، ونشرت الصحيفة مؤخرا على حسابها على «تويتر» رسما كاريكاتوريا ساخرا ضد أبوبكر البغدادى، قائد تنظيم داعش، وتفتخر الصحيفة الأسبوعية الساخرة باستفزاز الديانات الرئيسية فى العالم والسياسيين والمشاهير.
ومنذ تأسيسها عام 1970 رفعت الصحيفة لواء حرية التعبير والسخرية من كل ما يسمى باللياقة السياسية. كما تفتخر باستفزاز الجميع بدون تمييز ويضع رسامو الكاريكاتير والكتاب فى الصحيفة نصب أعينهم الديانات الرئيسية فى العالم والسياسيين والمشاهير.
وصدر عدد خاص من الصحيفة الفرنسية عام 2011 بعنوان «الشريعة» بعد فوز حركة النهضة الإسلامية فى الانتخابات التونسية، وكتب ناشر الصحيفة آنداك عبارات مسيئة للنبى بهذا الشأن . وفى اليوم الذى تم فيه النشر تم تفجير مقر الجريدة فى باريس، فى حين تم شراء كل نسخ هذا العدد فى غضون ساعات ودافع السياسيون الفرنسيون عن حق الصحيفة فى التعبير.
ولكن السؤال هل هذا الحادث الإرهابى بسبب الرسوم المسيئة وحرية التعبير فقط وبعد كل تلك السنوات أم بسبب إرهاب زرعته فرنسا فى الكثير من الدول التى حاربتها''؟
ففى العام الماضى بثت مؤسسة الحياة التابعة لتنظيم داعش تسجيلا مصورا بعنوان «ماذا تنتظرون؟» ظهر فيه مقاتلون فرنسيون يتوعدون بشن هجمات فى فرنسا. وحرق المقاتلون جوازات سفرهم ودعوا باللغة الفرنسية مناصرى التنظيم فى فرنسا «إلى الهجرة للجهاد فى بلاد الشام والعراق ومبايعة زعيم تنظيم داعش أبو بكرى البغدادى». وقال أحدهم فى حالة عدم تمكن المسلمين من الهجرة بسبب أحوالهم المادية، فليرهبوا فرنسا، مشيرا إلى وجود أسلحة وسيارات وأهداف جاهزة لاستعمالها ضد الفرنسيين. وجاء هذا التسجيل بعد إعلان الحكومة الفرنسية عن تعرفها على مواطن فرنسى آخر فى التسجيل الذى بثه التنظيم قبل أيام وتضمن عملية إعدام جماعى لجنود وضباط فى قوات النظام السورى.
وزير الداخلية الفرنسى (برنارد كاسينوف) حذر الشباب الفرنسى المسلم من التأثر بفكر تنظيم داعش وأن يتحصن من دعايته البشعة والتأمل فى بشاعته). وطالب الوزير (الجالية المسلمة بوضع يدها بيد السلطات الأمنية لزيادة الحذر والحيطة وتجنب الخطاب المتطرف بمساجد فرنسا).
وبدون أن يعرف ما إذا كان الأمر على ارتباط بالهجوم، عنونت «شارلى إبدو» عددها الأخير الأربعاء الماضى توقعات المنجم ويلبيك: فى عام 2015 أفقد أسنانى.. وفى 2022 أصوم شهر رمضان! تزامنا مع صدور رواية الكاتب المثير للجدل «سوميسيون» (الاستسلام) عن أسلمة المجتمع الفرنسى.
وكان نائب فى البرلمان البلجيكى قد كشف أن الهدف من الحرب التى شنتها فرنسا على مالى السيطرة على اليورانيوم وأكد أن فرنسا تقوم بهذه الحرب لإنقاذ شركتها العملاقة AREVA ومجابهة القوة الاقتصادية الصينية ومساعدة أمريكا على الحفاظ على مكانتها العالمية.
وأضاف النائب: «كيف لبلد مثل بلجيكا يقدم للثوار فى سوريا الذين يطالبون بتطبيق الشريعة 9 ملايين يورو للقضاء على بشار الأسد ويساعد الأنظمة الإسلامية فى كل من ليبيا تونس ومصر، وهى أنظمة تريد أيضا تطبيق الشريعة وفى مالى يريدون المشاركة فى الحرب لمنع تطبيق الشريعة التى هى ضد حقوق الإنسان هذا تناقض ونفاق ولسنا مغفلين كى نصدقكم، اليوم تريدون أن تشنوا حربا ضد مالى «ضد الإرهاب» وغدا تطالبون بشن حروب أخرى فى دول الربيع العربى بعد أن ساعدتموهم لإنشاء أنظمة إسلامية وقتها ستتهمونهم بـ(الإرهاب) وستبررون حربكم عليهم للدفاع عن مصالح إسرائيل».
وأكد النائب اعتراضه على مشاركة بلاده فى الحرب كما أعلن أنه سيحارب هذا المخطط مهما تكون الاتهامات التى ستوجه إليه لأنه لا يريد أن يساهم فى حرب استعمارية غير إنسانية تهدف إلى إعادة رسم خارطة جديدة جيوسياسية، وفجاة، وبدون مقدمات، انقضت فرنسا على معاقل المسلحين فى شمال مالى، بعد أن كررت مرارا أنها لن تفعل ذلك بمفردها.. وقالت باريس إن هدفها وقف زحف الحركات المتشددة، التى تهدد أمنها ومصالحها فى المنطقة. لكن آخرين يخشون من انزلاق فرنسا فى مستنقع عميق، قد يرتد عليها، ومنذ اللحظة الأولى للهجوم، أعلنت باريس حالة التأهب القصوى لأجهزة الأمن فى جميع أنحاء فرنسا. فالحرب هناك تدور ضد متشددين يرتبطون بتنظيم القاعدة فى بلاد المغرب الإسلامى.
حتى الرئيس التونسى اعترف بأن بلاده أصبحت فى ذلك الوقت ممرا لتزويد هؤلاء المتطرفين بالسلاح القادم من ليبيا.
فرنسا كانت تريد من خلال الحرب التى أعلنتها على شمال مالى استباق أية محاولات للجماعات الانفصالية أو المتطرفة دينيا فى المنطقة لاستغلال حالة الفوضى التى نشأت بعد الثورات العربية خاصة فى ليبيا التى أصبحت موردا جيدا للسلاح لتلك التنظيمات. وهى تعتقد أيضا أن بإمكانها استقطاب جماعات السلفية الجهادية الناشطة فى المغرب.
وفى ليبيا فى عام 2011 قامت حوالى20 طائرة حربية فرنسية بضرب أول أهدافها وأضاف المتحدث باسم القوات المسلحة الفرنسية فى ذلك الوقت، أن الطائرات التى شاركت فى العملية العسكرية فى ليبيا ركزت ضرباتها على منطقة مساحتها نحو 100 كيلو متر فى 150 كيلو متراً حول بنغازى.
وأعلنت قيادة أركان الجيش الفرنسى أن أول عملية قصف جوى فرنسية فى ليبيا استهدفت آلية تبين بوضوح أنها تابعة للقوات الموالية للرئيس الليبى الراحل معمر القذافى، فى أول عملية قصف إثر صدور قرار مجلس الأمن الدولى 1973، الذى يجيز استخدام القوة لحماية المدنيين الليبيين من هجمات نظام القذافى.
وقال الرئيس الفرنسى (نيكولاى ساركوزى) فى ذلك التوقيت إن تدخلا عسكريا تقوده فرنسا فى ليبيا، بالتعاون مع لندن وواشنطن وشركائها العرب، وأن القوات أصبحت مستعدة للتدخل ضد مدرعات النظام الليبى، واعتراض أى اعتداء لطائرات العقيد القذافى على السكان فى بنغازى، وأعلن الرئيس الأمريكى باراك أوباما بعدها أن (ائتلافنا جاهز للتحرك).
فرنسا لم تتدخل فى ليبيا ومالى فقط بل زرعت بذور الإرهاب الذى تجنى ثماره اليوم، فقد أعلن الرئيس الفرنسى فرانسوا هولاند أنه كان بمقدور فرنسا أن تقوم لوحدها بعملية عسكرية ضد سوريا فى حالة الضرورة. ونقلت وكالة (إيتار تاس)، ردا للرئيس الفرنسى، على سؤال طرح عليه فى مؤتمر صحفى فى باريس عن القدرات الدفاعية للبلاد: (أود أن أكشف عن أحد الأسرار لكم، فلو كان الوضع يتطلب ذلك، ولو اتخذت الأمم المتحدة قرارا بتوجيه الضربة العسكرية إلى سوريا، لكن بمقدور فرنسا لوحدها أن تقوم بذلك). وأصبح الرئيس الفرنسى منذ توليه الرئاسة مادة للتندر فى وسائل الإعلام الداخلية الفرنسية والغربية بسبب تصرفاته الخارجة عن الأعراف الدبلوماسية، وتصريحاته الغريبة.
وأضاف أن التهديد الفرنسى باستخدام القوة كان واقعيا، مما ساهم فى التوصل إلى الاتفاق بشأن ائتلاف الترسانة الكيميائية السورية.
يشار إلى أن الاتفاق بشأن تدمير السلاح الكيماوى السورى الذى جنب المنطقة حربا كارثية، جاء نتيجة اتفاق روسى أمريكى ولا دخل لفرنسا به.
ودافع الرئيس الفرنسى فى مؤتمره الصحفى فى ذلك الوقت عن العمليتين العسكريتين الفرنسيتين فى مالى وإفريقيا الوسطى، ونوه بأن فرنسا كانت تنوى من وراء العمليتين أن تساعد القوات الإفريقية، وليس أن تحل محلها.
وكشفت أرقام وزارة الداخلية الفرنسية أن عدد (الجهاديين) الفرنسيين الذين يقاتلون فى صفوف تنظيم داعش فى العراق والشام تجاوز الألف مقاتل، ما يعنى أن العدد فى ارتفاع متواصل رغم الإجراءات الأمنية والقضائية المشددة التى اتخذتها الحكومة الفرنسية.
وتعتقد الأجهزة الاستخباراتية الفرنسية أن عمليات (التجنيد) تتم داخل السجون والإنترنت وأيضا داخل المساجد على أراضيها، ووضعت الحكومة ترسانة من القوانين ضمن خطة اتخذت بموجبها عدة إجراءات ترمى إلى القضاء على ظاهرة تجنيد مقاتلين فى صفوف داعش والتنظيمات المتطرفة من فرنسا، كما خصصت رقم هاتف للعائلات للتبليغ عن أبنائهم الراغبين فى مغادرة فرنسا من أجل الانضمام للتنظيمات المتطرفة وأعادت العمل بقانون يمنع القاصــــرين من الخـــروج من الأراضى الفرنسية دون إذن من أهلهم لكن تراجعت عنه سريعا.
الهجوم على (شارلى إبدو) وبعد كل ذلك أليس من الممكن أن يكون قد تم بأيد فرنسية تم تدريبها جيدا على اللغة العربية ؟ من صنع الإرهاب فى الدول العربية؟ أليس التحالفات التى تمت خلال السنوات السابقة وكانت فرنسا واحدة فى تلك التحالفات؟، لقد وصل الإرهاب إلى أوروبا، إلى عقر دارهم، وبضاعتهم ردت إليهم.∎