والدى «أحمد عبد الجواد» مكانش بتاع نسوان وعوامات.. ونجيب محفوظ افترى عليه

روزاليوسف الأسبوعية
كتبت - مروة مظلوم
آفة حارتنا النسيان.. لكنها لا تنسى ميلاد ابنها البار فى عامه الرابع بعد المائة.. محفوظ ابن الحارة الذى احتواها فى سطور خلدت سكانها جيرانه وأصدقاءه عاش فيها المثقف مع الفتوة والداعية مع الراقصة واللص وكلابه ومقهى كبير ضم الحرافيش «ولاد حارتنا».
أبطال رواياته أشخاص حقيقيون عاشوا أحلاماً كأحلامنا ضاقت قلوبهم بالحب وبكت رحيله.. حملوا عاداتنا وتقاليدنا.. بيئتنا.. تنفسوا هواءنا .. سبعون عاماً مضت ومازلنا نرى أنفسنا فيهم بين حروفه وعلى شاشات السينما فى عصر كانت الرواية صوتاً وصورة لواقع يحيا بداخلنا يصدره الكاتب لنا فى ثوب جديد غزله بقلمه، أما الآن فحتى مشاعرنا الدرامية «شغل أوروبا» تخلو من علامة حارتنا «صنع فى مصر».. «بلطجية وسرسجية ونبطشية وقتلة مأجورون» هو ما تستورده لنا دراما المقاولات.. نوع واحد من الشر «المنقى».. بينما أبدع محفوظ فى صناعة الشخصية المركبة.. شرير بدوافع طيبة وطيب بنوازع شريرة.. ولعل أشهر تلك الشخصيات.. سى السيد أحمد عبد الجواد.
الأب القاسى جليس الحظ صاحب اللسان السليط فى بيته الذى يقطر عسلا فى بيوت الغوانى.. عبوس الوجه مقتضب الملامح هو نفسه ذلك العربيد الذى يبدع فى تأليف النكت والقفشات ولا تفارق وجهه الابتسامة.. بين الحزم والشدة والورع فى المنزل والفسق والمجون فى جلسات الأنس والفرفشة.. جمع الكاتب الكبير نجيب محفوظ هذه الصفات فى نموذج واحد من الحارة المصرية هو سى السيد أحمد عبد الجواد.. ولما كان لكل مقام مقال فالمنزل يلزمه امرأة طيبة القلب مطيعة تغرس فى أبنائها الخلق القويم وتمطر زوجها بالدعوات قبل خروجه إلى عمله وهى «أمينة».. كذلك فإن ليالى الأنس والفرفشة لا يستطيع إحياءها سوى «زبيدة» العالمة.. مهلاً سى السيد أحمد عبدالجواد ليس شخصية خيالية.. توليفة نجيب محفوظ فقط كانت خيالية لكن الشخصية موجودة بالفعل فهى صديق شخصى للكاتب الكبير وحرافيشه.. «حرافيش الفيشاوى» ويسكن ذلك الحى الذى وصفه فى ثلاثيته وصفاً دقيقاً.. وفى واجهة شارع جوهر القائد يقع محل «عطارة البركة».. لصاحبه محمد عبدالجواد.
∎ «أمينة» والمبخرة والكاكولا
يحدثنا عن الشخصية الحقيقية التى قامت عليها ثلاثية نجيب محفوظ.. محمد عبدالجواد (73) سنة ابن سى السيد عبد الجواد الأصلى فيقول: إنه لا ينكر أن كثيراً من ملامح شخصية والده تتشابه مع وصف محفوظ لها فيما يتعلق بسماته الحزم والشدة والقسوة فى بعض الأحيان وأنه كان من الصعب عليه وعلى أخواته البنات الست التحدث إليه مباشرة فى أى موضوع كانت المهمة موكلة إلى والدتهم السيدة «أمينة»، كذلك لم يكن مسموحاً لهم بالجلوس معه على «طبلية» واحدة فقد كان يتناول إفطاره وحده ثم يجلس «محمد» مع أمه وأخواته لتناول الإفطار بعد أن يرحل والده عن منزلهم الكائن بمنطقة الباب الأخضر أمام مسجد الحسين .
ويضيف الحاج محمد أنه يعتب على نجيب محفوظ لما أضافه على شخصية والده فقد وصفه بالمجون ومجالسته للعوالم وهى صفات لا تمت إلى حقيقته بصلة فقد كان رجلاً صالحاً ورعاً دائماً ما يعقد حلقات الذكر داخل محل العطارة الخاص به حتى منتصف الليل ويحضر هذه الحلقات كبار العلماء والشيوخ فى مصر وقتها مثل الشيخ محمد أبوالليل وهو من علماء الأزهر الشريف والمقرئون أمثال الشيخ البهتيمى والشيخ مصطفى إسماعيل والشيخ طه الفشنى والشيخ محمد الفيومى المنشد الدينى والشيخ محمود عبد الحق والشيخ عبد الباسط عبد الصمد.. إلخ.
كذلك كان والده «السيد عبدالجواد» تربطه صداقة بكبار الكتاب والفنانين وكانت جلساتهم المفضلة إما فى قهوة الفيشاوى أو فى محل عطارة «السيد عبدالجواد» وعلى رأس هؤلاء الكاتب الكبير نجيب محفوظ وأنيس منصور والمخرج الكبير حسن الإمام ويوسف السباعى والذى كان - على حد وصفه -طيبا وابن نكتة.
وعن حياته مع والده يقول الحاج محمد: لقد كان حقاً قاسياً صارماً وكنت أهابه أنا وأخواتى البنات الست، ولكنه كان أيضاً يسمح لنا بقليل من الرفاهية، حيث كان يذهب بنا إلى منطقة روض الفرج لنستقل مركباً تنقلنا إلى القناطر الخيرية، كذلك كنا نذهب معه إلى السينما لنشاهد الأفلام المحترمة فقط مثل فيلم «هذا جناه أبى» والذى قام ببطولته «زكى رستم» وفيلم «خلود» بطولة «فاتن حمامة» و«عز الدين ذو الفقار».
ولكننى لم أكن أستطيع الحديث معه مباشرة دون أن تكون والدتى همزة وصل بينى وبينه إلى أن اتخذت قرارى بالزواج من ابنة أحد الأتراك فى مصر يدعى الشيخ شمس الدين رئيس رابطة الأتراك فى جامع الأزهر، وقد تعرفت على ابنته من خلال بطاقة التموين وقتها لم يتجاوز عمرى 17 عاما، وكان لابد من مفاتحته فى الأمر ولم أستطع فقررت أن يتحدث إليه أحد أصدقائه المقربين نيابة عنى وهو الحاج أحمد القطبى صاحب إحدى المكتبات بمنطقة الحسين، وعندما أخبرنى الحاج أحمد بأننى مازلت صغيراً على الزواج فقلت بتلقائية «أمى قالت والدى اتجوز وعمره 15 سنة يعنى أنا بقى لى سنتين صابر»،
معظم شخصيات محفوظ تحمل أسماء وشخصيات من واقع عالمه وإن كانت تخالف حقيقتهم التى عرفها عنهم الناس والذى تسبب له فى ذات مرة لمحاولة قتل، حيث قام باقتباس بطل رواية «السراب» من شخصية «حسين بدر الدين»، والتى كانت تحكى عن قصة شاب يعانى من العجز الجنسى، وأمه تسيطر على شخصيته، كان خريج كلية الحقوق، ثريًا أدمن المخدرات ودخل السجن، وعندما علم من أحد أصدقائه بأمر الرواية وقال له نجيب كتب عنك، حاول هذا الشاب قتل نجيب محفوظ فاضطر الأخير إلى الاختفاء حتى يسود الهدوء.
الاعتراف الحقيقى حول خفايا الشخصية حملته مذكرات محفوظ التى صاغها الراحل رجاء النقاش بعنوان «نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته»، صفات عدة شخصيات عايشها فى صباه ليكون إحدى أشهر الشخصيات الفنية فى الأدب العربى المعاصر.. فمن والده أخذ حبه للفن، ومن زوج شقيقته وجارهم الشامى أخذ القسوة والشدة فى التعامل مع الزوجات، ومن عمه الوسيم المحب للحياة صاحب العلاقات الغرامية الكثيرة أخذ ذلك الجانب المحب للهو والعربدة.. وكانت الخلاصة شخصية «سى السيد» المرعبة الجبارة.
الشائع أن ثلاثية بين القصرين تصور حياة أسرة نجيب محفوظ خاصة فيما يتعلق بملامح «كمال أحمد عبد الجواد» الذى جسد شخصية محفوظ نفسه، إلا أن الروائى الشهير أقر فى مذكراته بأن شخصية والده ليس لها علاقة بشخصية «سى السيد» المرعبة المنحرفة أخلاقياً إلا فى شغفه بالطرب، أما والده فقد كان رجلا متدينا لا يشرب الخمر ولا يلعب القمار، يقضى وقته بعد عودته من العمل بين الصلاة وقراءة القرآن والتأمل الطويل، وينام بعد تناول العشاء لا يعرف السهر الماجن حتى الفجر.. وهو فى تعامله مع أولاده ولاسيما نجيب الأصغر بينهم كان ودودا لطيفا لم يضربه إلا مرة واحدة عندما خالف أمره وفتح النافذة ليشاهد الجنود الإنجليز المعسكرين فى حارتهم! وبدلا من وصف «ابن الكلب» الذى كان «سى السيد» يخاطب به «كمال» كان والد نجيب يبالغ فى تدليله، ويستمع معه لأغانى المطربين، ويصطحبه معه إلى «نادى الموسيقى» للاستماع إلى أغانى المطربين القدامى الذين كان يعشقهم!
العلاقة بين والد نجيب ووالدته لم تكن كما صورتها «الثلاثية» علاقة بين زوج جبار وامرأة ذليلة خائفة، فقد كانت مثالا للاحترام والحب، ولأنها كانت امرأة عصبية فقد كان صوتها يعلو أحياناً على غير ما تجسد شخصية «أمينة» الخانعة.. وهى كانت امرأة ذواقة طرب، عاشقة لأغانى الموسيقار سيد درويش الذى كانت أغانيه تلعلع فى البيت من «الفونوغراف». تحب التردد على المسارح والمتاحف وحتى أديرة المسيحيين، كما تحب التردد على مسجد الحسين!