فى الذكرى الـ 113 لاكتشافها
متى تعود نفرتيتى إلى حضن الوطن
رشدى الدقن
منذ 113 سنة.. وتحديدًا فى 7 ديسمبر عام 1912، شهدت الآثار المصرية اكتشافًا من أهم الاكتشافات فى تاريخ علم المصريات، عندما تم العثور على تمثال الملكة نفرتيتى فى منطقة تل العمارنة بمحافظة المنيا.
هذا التمثال الذى أدهش العالم بجماله ودقته صار أحد أشهر القطع الأثرية التى تجسد عظمة الحضارة المصرية القديمة وروعتها الفنية...ويجسد أيضًا أحد أهم القطع المنهوبة التى تم تهريبها وسرقتها ليستقر حتى اليوم فى ألمانيا.
الذكرى 113 تصلح تمامًا كمدخل للحديث عن آثارنا المنهوبة التى تملأ المتاحف فى كل دول العالم وتصلح أيضًا للحديث عن أحقية المصريين فى استرداد آثارهم وعودتها إلى حضن الوطن خاصة بعد افتتاح المتحف المصرى الكبير.. حيث شكّل الأول من نوفمبر 2025 علامة فارقة فى التاريخ الثقافى والدبلوماسى لمصر، حين افتُتِح المتحف المصرى الكبير رسميًا عند بوابة أهرامات الجيزة، معلنًا عن لحظة تحول استراتيجية فى مسار توظيف التراث المصرى كقوة ناعمة، وفى إعادة صياغة الدورين الإقليمى والدولى للدولة المصرية عبر أدوات حضارية أصيلة، ورؤية ثقافية تؤسس للمستقبل بقدر ما تستدعى الماضى.
لم يكن هذا الافتتاح حدثًا بروتوكوليًا اعتياديًا، بل مثّل إعلانًا واضحًا بأن مصر قررت أن تستعيد، بفعالية مؤسسية وبقدرات وطنية راسخة، موقعها الطبيعى فى قيادة المشهد الحضارى الإنسانى، وأن تتحول من مجرد موطن لحضارة عريقة إلى فاعل ثقافى معاصر يوظف إرثه فى بناء النفوذ وتشكيل الإدراك العالمى.
ومع الافتتاح تتلاشى أهم المبررات لرفض إعادة آثارنا حيث تمسكت الدول الناهبة والسارقة لآثارنا على مدار عقود بمزاعم عدم وجود مكان جيد للعرض، وأن العديد من القطع مكدسة فى المخازن.
علامة فارقة
المتحف إذن هو علامة فارقة على التحول الكبير فى البنية التحتية للمؤسسات المتحفية داخل مصر.. ويجعل الدولة فى موقع أكثر قوة مما كانت عليه سابقًا، فالمتحف الكبير يمثل نقلة استراتيجية ضخمة فى قدرة مصر على الحفظ والعرض والتأمين..فهذا الصرح الدولى لم يعد فقط متحفًا، بل منصة حضارية تمنح مصر ثقة قانونية وعلمية لاستقبال القطع المستردة وصونها بأعلى المستويات.
الصرح العالمى، الذى صُمم وفق أحدث المواصفات العالمية فى العرض المتحفى والحفظ والتأمين، يُعلن بوضوح قدرة الدولة المصرية على استقبال وحماية وعرض أى قطعة أثرية مهما بلغت قيمتها التاريخية أو دقتها الفنية.. فبفضل التقنيات الحديثة وبيئات العرض المصممة وفق أعلى المعايير الدولية، باتت مصر تمتلك ما يؤهلها لاستعادة كل أثر خرج منها بصورة غير قانونية أو استقر فى أماكن لا تتوافر فيها المعايير المثلى للحفظ.
رأس نفرتيتى
يتزامن مع الذكرى الـ113 لاكتشاف رأس «نفرتيتى» المسروق.. خبر حزين عن غرق آثارنا الموجودة فى متحف اللوفر بباريس.. فقد أعاد حادث غرق قسم الآثار المصرية فى متحف اللوفر الفرنسى مؤخرًا إلى الواجهة نقاشًا قديمًا وحيويًا حول مستقبل الآثار المصرية خارج الوطن، وآثار المزيد من الجدل بين المصريين والمهتمين بالآثار المصرية حول العالم، وذلك بعد تعرض نحو 400 كتاب نادر للغرق فى مياه المجارى..وأصيبت بأضرار بالغة.. خاصة أن الأمر لا يقتصر على الخسارة المادية فحسب، بل يمثل جرحًا للذاكرة الإنسانية.. كما فتح هذا الحادث، النقاش من جديد حول استرداد القطع التى خرجت سواء بطرق مشروعة أو غير مشروعة.
استعادة الآثار لم تعد قضية ثقافية فقط، بل تمثل سيادة وطنية وحقًا تاريخيًا لا يمكن التفريط فيه.. ودعوة لإعادة تقييم دور المؤسسات الدولية فى حماية التراث، وتعزيز قدرة مصر على صون إرثها الحضارى، بما يضمن الحفاظ على ذاكرة الإنسانية كلها.
وعلينا أن نعرف أن الآثار المصرية لن تعود إلى حضن الوطن إلا بإرادة دولية تحترم التاريخ، ونظام حماية عالمى يتعامل مع المتاحف بوصفها خزائن ذاكرة لا يجوز أن تغرق.. وعلى الدولة المصرية أن تتحرك سريعًا من خلال تشكيل لجنة وطنية لاستعادة الآثار المصرية بالخارج.
فالآثار المصرية المعروضة بالخارج تمثل صفحات من تاريخ مصر، لكنها أيضًا جزء من التراث الإنسانى المشترك الذى يجب أن يُعامل بأقصى درجات الحماية..خاصة خروج الآثار المصرية إلى الخارج سواء عبر الإهداء أو القسمة أو الإتجار فى الفترات السابقة على قانون 117 لسنة 1983 لا يُسقط قيمتها ولا مسئولية المتاحف العالمية عن صونها ومراعاة المعايير الدولية فى عرضها وتخزينها وتأمينها.
حجر رشيد
الذكرى الـ113 وغرق تاريخنا فى متحف اللوفر تزامن معه أيضًا..عودة الحديث عن قطعة أثرية فى منتهى الأهمية هى «حجر رشيد» والذى سرقته الحملة الفرنسية فى طريق خروجها من مصر..ثم استولت عليه بريطانيا العظمى ليستقر فى لندن إلى اليوم.
مؤخرًا كشفت صحيفة «الجارديان» البريطانية أن مصر وجهت دعوة رسمية إلى المملكة المتحدة لإعادة «حجر رشيد»، أحد أبرز الآثار المصرية المعروضة فى المتحف البريطانى منذ أكثر من 200 عام، باعتباره الشاهد الأهم على فك رموز اللغة الهيروغليفية.
ونقلت الصحيفة عن الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار الدكتور محمد إسماعيل خالد قوله خلال فعالية رسمية فى بريطانيا: «نحن نحب أن يعود حجر رشيد إلى مصر بالطبع.. أجيال كاملة من المصريين تقرأ عنه فى الكتب المدرسية لكنها لم ترَه بعينها أبدًا».
وأكد الأمين العام للمجلس أن الحجر خرج من مصر «بشكل غير قانونى» عقب الحملة الفرنسية وهزيمة نابليون أمام القوات البريطانية عام 1801، مشددًا على أن معاهدة الإسكندرية التى استندت إليها بريطانيا فى نقله لم تعبّر عن إرادة المصريين، بل وُقعت فى ظل الاحتلال عبر أميرال عثمانى.
ويحمل حجر رشيد مرسومًا ملكيًا واحدًا كُتب بـ3 لغات: الهيروغليفية، والديموطيقية، واليونانية، ما جعله المفتاح الأساسى لفك رموز الكتابة المصرية القديمة بعد أن ظلّت لغزًا لقرون.
وبعد هزيمة الجيش الفرنسى، سُلّم الحجر إلى القوات البريطانية بموجب معاهدة الإسكندرية عام 1801، ثم نُقل إلى لندن عام 1802، ليصبح منذ ذلك الحين القطعة الأكثر جذبًا لزوار المتحف البريطانى.
وفى عام 1822، نجح العالم الفرنسى جان فرانسوا شامبليون فى فك شفرة الهيروغليفية اعتمادًا على النص اليونانى المدون على الحجر، فى إنجاز علمى غيّر مسار دراسة الحضارة المصرية القديمة وفتح الباب لقراءة آلاف النصوص المصرية القديمة.
حملة شعبية
اللافت أنه مع افتتاح المتحف المصرى الكبير مطلع نوفمبر الماضى، تصاعدت حملة شعبية واسعة للمطالبة باستعادة الآثار المصرية المعروضة فى الخارج، وعلى رأسها حجر رشيد، لضمها إلى مقتنيات المتحف الجديد الذى يوفر أحدث تقنيات العرض والحفظ.
الحملة التى بدأت بفيدوهات بتقنية الـ ai تقول « أنا نفرتيتى ملكة مصر المخطوفة… أريد أن أعود إلى وطنى»... «حجر رشيد يكسر الصندوق الزجاجى الموضوع بداخله فى المتحف البريطانى من أجل العودة إلى مصر»... مقاطع الفيديو هذه شاهدناها جميعًا مصنوعة بالذكاء الاصطناعى عقب افتتاح المتحف المصرى الكبير الذى أعاد الحديث عن آثارنا المنهوبة بالخارج فى إطار حملة شعبية تطوعية بدافع الغيرة على ميراث الأجداد المُستباح.
استعادة القطع
ومن المهم هنا الإشارة إلى أن جهود الدولة المصرية خلال السنوات الأخيرة فى ملف استرداد الآثار أثبتت قدرة واضحة وإرادة سياسية حاسمة، حيث نجحت مصر فى استعادة مئات القطع التى خرجت بطرق غير مشروعة، اعتمادًا على مسارات قانونية دقيقة وعمل دبلوماسى متواصل. فمصر اليوم أصبحت طرفًا فاعلًا يمتلك من القوة التفاوضية والمرتكزات القانونية ما يضمن لها الدفاع عن حقها الحضارى.
وعلينا أن نعلم أن عملية الاسترداد لا تعتمد على الانفعال أو الضغوط الإعلامية، فقط بل ترتكز على ثلاث ركائز أساسية، أولاها التثبّت من الوضع القانونى للقطعة وكيفية خروجها من مصر. ثانيها تقييم الظروف الحقيقية للحفظ داخل المتحف الأجنبى، وبيان مدى التزامه بالمعايير العالمية. ثالثها تفعيل أدوات التعاون الدولى التى تكفل لمصر حقها فى حماية تراثها.
التحرك باحترافية
ومصر عبر لجانها العلمية وقطاع التعاون الدولى تتحرك باحترافية كاملة لإجراء مراجعة شاملة لحالة الآثار المصرية بالخارج، من خلال آليات توثيق دقيقة وزيارات ميدانية واتصالات رسمية. وأى متحف يثبت عدم قدرته على صون القطع المصرية سيواجه مطالبة مباشرة بإعادتها إلى موطنها الأصلى، وفق ما تسمح به القوانين والاتفاقيات الدولية.
السؤال الذى يطرح نفسه بقوة فى هذا الجزء: ما آلية التحرك على المستوى الدولى لاستعادة آثار مصر؟ خبراء آثار وقانون مصريين قالوا: المسألة يمكن أن تُطرح من زاوية جديدة ليس فقط من زاوية حقّ الاسترداد القانونى كما فى حالات التهريب أو الخروج غير القانونى، بل من زاوية مسئولية الحفظ والصيانة، وإذا لم توجد ضمانات جدية للحفاظ على هذه المقتنيات، قد يُعاد النظر فى موقعها الخارجى. فالقطع المصرية ليست معروضات فحسب، بل ذاكرة حضارية تستحق حماية جادة، وقد تُعيد بحث مسألة الاسترداد بوصفها أولًا وأخيرًا قضية حماية وترميم وحفظ، وليس فقط ملكية تاريخية.
تحديات سياسية
رغم بساطة الإجابة عن السؤال الأصعب..فعلينا أن نعرف أن استعادة الآثار المصرية الموجودة فى الخارج تواجه تحديات سياسية واقتصادية كبيرة، وحجم التراث المصرى الموزع على المتاحف العالمية يفوق القدرة على استعادته بشكل كامل وفورى.. فمتحف اللوفر الفرنسى وحده يضم نحو 55 ألف قطعة أثرية مصرية، بينما يحتوى متحف برلين على 80 ألف قطعة، والمتحف البريطانى على 110 آلاف قطعة.. هذه الأرقام تعكس حجم التحدى الذى يواجه مصر فى محاولة استرجاع تراثها المادى والثقافى.
وعلينا معرفة أن استعادة هذه القطع بالكامل تحتاج إلى إعادة النظر فى الاتفاقيات والقوانين الدولية المتعلقة بالتراث، بما فى ذلك تعديل اتفاقية اليونسكو، التى من شأنها خلق آليات تسمح بممارسة الحق القانونى لمصر فى استعادة ممتلكاتها التاريخية.. كما أننا بحاجة إلى حلول مرنة تسمح لنا بالحفاظ على تراثنا الثقافى مع ضمان التعاون الدولى بما يخدم البحث العلمى والمصلحة الوطنية.
الخلاصة: مصر ملتزمة بحماية آثارها وموروثها الثقافى، وعلى الحكومة أن تعمل بشكل جاد مع المجتمع الدولى لإيجاد حلول قانونية وعادلة لاستعادة التراث، مع ضرورة تحديث الاتفاقيات الدولية بما يضمن حقوق الدول الأصلية، وتمكينها من الاستفادة العلمية والثقافية والاقتصادية من ممتلكاتها التاريخية، سواء كانت مستعادة ماديًا أو من خلال مشروعات تعليمية وبحثية وثقافية.







