الثلاثاء 23 سبتمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

ساحة مواجهة دبلوماسية بالأمم المتحدة

معركة «حل الدولتين» فى نيوريورك؟

حين تفتح قاعات الأمم المتحدة أبوابَها فى 22 سبتمبر الجارى، لن تكون نيويورك مجرد مسرح لخطابات رتيبة أو بروتوكولات دبلوماسية محفوظة؛ بل ساحة مواجهة صاخبة بين روايتين: رواية إسرائيلية تحاول تثبيت الأمر الواقع بالنار والبارود فى غزة، ورواية شعب يقف على حافة التهجير الجماعى، يبحث عن اعتراف يقيه محوًا جديدًا. 



هذه الدورة للجمعية العامة توصف فى كواليس العواصم الغربية بأنها «معركة شرعية» غير مسبوقة، بعدما أعلنت دول أوروبية استعدادها للاعتراف بدولة فلسطين، فى خطوة لو تحققت ستشكل صدمة استراتيجية لتل أبيب وامتحانًا مُحرجًا لواشنطن، بينما تستمر دولة الاحتلال فى انتهاج سياسة التهجير القسرى لنقل سكان غزة جنوبًا نحو معبر رفح، وضغوط تمارَس على مصر والأردن لتسهيل سيناريو التهجير. 

وفى الخلفية يعلو صوت الرئيس المصرى عبدالفتاح السيسي ليوجِّه خطابَه المباشر إلى الشعب الإسرائيلى من قمة الدوحة، ويصف دولتهم بـ«العدو»، فى إشارة نادرة تحمل دلالات تتجاوز حدود الكلمات.

 أوروبا من التردُّد إلى الاعتراف

لم يَعُد الحديث عن اعتراف أوروبى بدولة فلسطين ترفًا أو مجرد ورقة ضغط؛ بل صار خيارًا مطروحًا بقوة، عواصم مثل بلجيكا وإسبانيا ومالطا ولوكسمبورج لم تَعد تخفى نيتها، ودول كبرى كفرنسا التى أعلنت نيتها بقوة للذهاب إلى هذه الخطوة، وفى حال إتمامها ستكون أول دولة من مجموعة دول الـG7 تنفذ القرار، وبريطانيا تناقش المسألة علنًا تحت ضغط الشارع وحرج الصور القادمة من غزة. 

دبلوماسى أوروبى وصف اللحظة لصحيفة «واشنطن بوست» بأنها «نقطة تحول لا يمكن التراجع عنها»، مضيفًا: إن الاعتراف «لم يعد قضية لوبيات سياسية بل قضية ضمير أوروبى».

بحسب مركز Factbox التابع لوكالة الصحافة الأوروبية، هذه الخطوة قد تعمل على تحويل عدد الدول الأوروبية المعترفة بفلسطين من 11 إلى 12، وهو مؤشر على تحوُّل عميق فى السياسة الأوروبية.

من منظور Chatham House، تقول Bronwen Maddox إن الاعتراف البريطانى بفلسطين يمكن أن يُعدّ «بيانًا لا لبس فيه» بأن نهج دولتين هو السبيل الوحيد نحو مستقبل آمن للفلسطينيين ولإسرائيل، وأن التحوّل يمكن أن يكون دافعًا للضغط الدولى على إنهاء الحرب فى غزة.

 تحت القصف

بالنسبة لإسرائيل؛ أى اعتراف أوروبى بدولة فلسطين سيكون خرقًا للجدار الذى ظلت تبنيه طيلة عقود لحماية احتلالها من الاعتراف الدولى.

 الاعتراف يعنى أن مشروع الضم فى الضفة، والسيطرة على غزة بالنار، وفكرة «الحسم العسكرى» تفقد غطاءها السياسى؛ حيث حذرت صحيفة «هاآرتس» العبرية فى تقرير مطلع سبتمبر الجارى، من أن موجة الاعترافات «ستجعل تل أبيب دولة محتلة فى عيون أوروبا رسميًا، لا شريكًا أمنيًا». 

ومع كل صاروخ يسقط على غزة، يتضاعف الحرج: كيف يمكن لأوروبا أن تصمت بينما يلوح نتنياهو علنًا بخطط نقل سكان القطاع جنوبًا، فى مشهد يُذَكر بالنكبة الأولى والتهجير الفلسطينى عام 1948؟

يوضح مركز Chatham House أن الاعتراف بدولة فلسطين، إذا ما تجسّد؛ لن يكون مجرد بيان رمزى؛ بل خطوة تعيد شرعية الفلسطينيين إلى طاولة التفاوض، وتحررهم من حق النقض (الفيتو) الذى طالما مارسته إسرائيل وواشنطن فى منع الدولة الفلسطينية من الاعتراف الدولى. 

لكنه يحذر فى الوقت ذاته من أن هذا الاعتراف لا يكفى لوحده ما لم يصاحبه إطار واضح لحماية المدنيين ووقف الاحتلال والتهجير. من جانبه، يرى الباحث جاستن فايس، من معهد بروكينجز، أن الاعتراف الأحادى بفلسطين عبر الجمعية العامة قد يعزل إسرائيل دبلوماسيًا ويشكل إحراجًا لواشنطن، لكنه لا يبنى دولة فلسطينية ولن يؤدى إلى عضوية كاملة فى الأمم المتحدة ما لم يحظ  القرار بتوصية من مجلس الأمن تصادق عليه، وهو احتمال يعرقله الفيتو الأمريكى التقليدى.

فيما يرى تقرير لمحور التحليل «الأوروبى- الشرق أوسطى» أن محاولات الاعتراف الأحادية قد تذهب بالفلسطينيين نحو خيار bypass (تجاوز) أى مسارات المفاوضات المباشرة، لكنها تفتقر إلى استراتيجية تنفيذية حقيقية، إن لم تصاحبها خطط حماية دولية، وإعادة بناء للمؤسّسات الفلسطينية.

 مطرقة أوروبا وسندان إسرائيل

فى واشنطن، يدرك صانعو القرار أن المشهد الأوروبى الجديد لا يمكن تجاهله، البيت الأبيض، الذى ظل لعقود يرفع شعار «المفاوضات المباشرة»، يواجه الآن لحظة انكشاف.. الحلفاء الأوروبيون يلوّحون باعتراف فردى أو جماعى بفلسطين، بينما الكونجرس منقسم، والرأى العام الأمريكى- بحسب استطلاعات الرأى التابعة لمركز «بيو» الأخيرة-  يميل لأول مرة إلى تأييد ضغوط حقيقية على إسرائيل. 

مركز «بروكينجز» حذر فى تقريره الأخير من أن «ترك أوروبا تسبق واشنطن فى الاعتراف سيقوض نفوذ الولايات المتحدة فى أى تسوية مستقبلية». 

ويعتقد أن الاعتراف الأوروبى قد يجبر واشنطن على تعديل تكتيكاته، وربما تتجه نحو مبادرات وسيطة تدفع نحو تسوية مرحلية، لكن تلك الخطوات تحمل مخاطرة انهيار نهج المفاوضات التقليدى الذى تبنته إدارة ترامب الحالى.

وهكذا تجد الولايات المتحدة نفسَها أمام معادلة صعبة: إما التمسك بإسرائيل وخسارة شرعية دولية، أو إعادة صياغة خطابها بما يفتح بابًا لتسوية تحفظ ماء الوجه.

 شبح التهجير

على الأرض، لا تبدو الصورة أقل قتامة.. نتنياهو أعلن بوضوح أن العمليات العسكرية ستتواصل، مع الإصرار على نقل سكان القطاع نحو الجنوب. 

تقارير رويترز كشفت عن ضغوط متزايدة على القاهرة وعَمَّان لقبول ترتيبات قد تؤدى إلى نزوح فلسطينى واسع. 

لكن مصر التى أعلنت على لسان رئيسها فى الدوحة رفضها القاطع، والأردن الذى يحذر من «تفجير التوازن الديموجرافى»، يقفان فى مواجهة ضغوط غير مسبوقة. 

والسؤال هنا: هل ينجح الاعتراف الدولى بفلسطين فى كبح مشروع التهجير، أمْ يتحول الاعتراف إلى غطاء أخلاقى يُرافق مأساة إنسانية جديدة؟

يرى البروفيسور يوسى ميكلبيرج، من معهد «بروكلينجز»، أن الخطوات الأوروبية ينظر إليها كأداة ضغط دبلوماسى.. إنها تقول لإسرائيل إن استمرار سياساتها يُعَرضها لعزلة دولية متزايدة، وسيقلص من مجال حركتها فى الضفة وغزة. 

وفى هاآرتس وغيرها من وسائل الإعلام الإسرائيلية، ينظر إلى مثل هذه التحركات على أنها تهديد مباشر لسياسات الحسم العسكرى والتهجير؛ إذ إنها تحرج إسرائيل أخلاقيًا وقانونيًا، وتضعف أى مبرر لإعادة السكان إلى مناطقهم أو لإعادة بناء غزة فى ظل شروط الإبقاء على الحصار والسيطرة.

 كسْر الصمت

الحدث الذى أضاف بُعدًا جديدًا للصراع كان خطاب الرئيس السيسي فى قمة الدوحة، للمرة الأولى يَستخدم رئيس مصر عبارة «العدو الإسرائيلى» فى خطاب رسمى موجَّه للعالم منذ اتفاقية السلام، مخاطبًا الشعب الإسرائيلى مباشرة. 

محللون فى «تشاتام هاوس» وصفوا الخطاب بأنه «قفزة بلاغية» قد تؤسِّس لاصطفاف عربى أكثر وضوحًا، وتعيد القاهرة إلى واجهة الملف الفلسطينى بوصفها طرفًا لا وسيطًا محايدًا. 

تلك النبرة تشحن أجواء الجمعية العامة وتمنح المندوب الفلسطينى رصيدًا إضافيًا فى معركته الدبلوماسية المقبلة.

فى واشنطن ولندن وباريس، تصدر تقارير مراكز الفكر بنبرة متقاربة: الاعتراف بدولة فلسطين لن يوقف القصف على غزة، لكنه يغير قواعد اللعبة. 

تقرير «كارنيجى» حذر من أن الاعتراف «قد يظل رمزيًا إذا لم يُرفق بخطط مراقبة دولية لحماية المدنيين»، فيما ذهب مركز «الأطلنتيك كاونسل» أبعد، معتبرًا أن الاعتراف «سيفتح الباب لإجراءات قانونية ضد إسرائيل فى المحكمة الجنائية الدولية».

أما «تشاتام هاوس» فى لندن؛ فوصف الاعتراف بأنه «الورقة الوحيدة القادرة على إعادة إدخال الفلسطينيين إلى مائدة التفاوض بكرامة».

هكذا تبدو الجمعية العامة المقبلة أشبه بمسرح اختبار: أوروبا أمام قرار مصيرى قد يغير وجه الصراع، الولايات المتحدة أمام امتحان لمصداقيتها، إسرائيل أمام عزلة غير مسبوقة، والفلسطينيون أمام فرصة تاريخية لكسر الحصار الدبلوماسى. 

لكن يظل السؤال الحاسم: هل يكفى اعتراف دولى لبناء دولة على أرض تشتعل تحت القصف؟ أمْ أن الاعتراف سيكون مجرد ورقة فى معركة أوسع، يقرر مصيرها فى ميادين غزة وعلى طاولة القوى الكبرى؟

يوم 22 من سبتمبر قد يُسَجَّل فى التاريخ الحديث بوصفه يومًا فارقًا؛ يوم تحولت فيه الجمعية العامة إلى ساحة مواجهة؛ حيث الكلمات تطلق كالرصاص، والقرارات توزن كالقنابل.

 الاعتراف بالدولة الفلسطينية ليس نهاية المعركة؛ لكنه بداية منعطف؛ منعطف سيحدد إن كانت الشرعية الدولية ستظل مجرد نصوص تتلى، أمْ تتحول إلى قوة حقيقية توقف نزيف الدم وتضع حدًا لسياسة الأرض المحروقة. 

وفيما تتأهب نيويورك لاستقبال قادة العالم، تبقى غزة- بدمائها وأطفالها وأحلامها المهددة- هى الشاهد الأول والأخير على صِدق ما سيقال وما سيقرر.