الجمعة 19 سبتمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

«كعبة الإخوان» فى تل أبيب

فى ظل الصراعات التى يشهدها العالم على السطح، وتحت الأضواء، تلك الصراعات التى نظنها حقيقية من خلال المظاهرات الخطابية، والبيانات المتشنجة، تختبئ خيوط من العلاقات التى لا تعترف بالثنائيات التقليدية بين العداء والود، بين العداء السياسى والتعاون الاقتصادى، بين الصراع والاتفاق. 



 

هذه الخيوط، المعقدة والمتشابكة، تنسج شبكة سِرِّيَة من المَصالح بين جماعة الإخوان الإرهابية وإسرائيل، وهذه من الأمور الغرائبية فى واقعنا المعاصر، ولكن مَن يتجاوز المَشاهد المرئية يستطيع أن يراها بوضوح من خلال شبكة تمتد عبر قارات وعقود، تربط بين رجال المال وأذرع الشركات فى كثير من بلاد العالم؛ حيث يلتقى القديم بالجديد، والأيديولوجى بالمالى، فتتشكل صورة من التناقضات العميقة التى لا تقبل البساطة، وتعيد تعريف الحدود التى يحسبها الجميع صلبة.

فخلف ستار الخطابات الرسمية، والمظاهرات الفارغة وحرق الأعلام وشعارات «ع القدس رايحيين شُهَدا بالملايين» وعلى مدار سنوات، نمَت شبكة تعاون خفية ربطت بين قيادات إخوانية بارزة بتنظيمهم الدولى؛ بشركات إسرائيلية فى مجالات متعددة، من مواد البناء، إلى البنية التحتية، إلى تكنولوجيا التحول الرقمى، ومن الإعلام إلى الاستثمار العقارى إلى شركات الاتصالات؛ وصولاً إلى التنقيب عن الذهب فى إفريقيا، وتجارة الماس، فى مشهد يعكس تناقضات عميقة وحسابات مالية دقيقة.

كانت البداية مع «يوسف ندا»، الرجل الذى اشتهر فى أروقة الاقتصاد الأوروبى والإسلامى، واتهم كثيرًا بتمويل الإرهاب، ولكنَّ أحدًا لم يكشف عن حسابات شركاته السِّرية ليرى محورًا رئيسيًا يقوم بتنظيم التعاون الاقتصادى بين كيانين يبدوان فى الظاهر متخاصمَين.

ولكى نكون أكثر تحديدًا نبدأ بمؤسّسة «ندا للإدارة»، التى كانت تتخذ من لوغانو بسويسرا مقرًا لها، وقد عُرفت تلك المؤسّسة بنشاطها الاقتصادى المكثف خلال العقد الأول من الألفية الجديدة.

وقد وثقت سجلاتها التجارية، كما ورد فى مجلة «إيه كافى» الإيطالية عام 2015، قيام المؤسّسة بصفقات ضخمة مع شركات بناء إسرائيلية رائدة فى إقامة وتطوير المستوطنات فى الضفة الغربية والقدس الشرقية.

تلك الشركات الإسرائيلية المعروفة للجميع التى لا تخفى تعاملاتها، والتى حملت أسماء مثل: «حيمنوتا»، و«أفيفا»، و«شيكون أوفناه»، وكانت تعمل وفق غرضها الأساسى على توسعة المستوطنات، كما أنها تمثل أذرعًا عقارية واستثمارية لصندوق الأراضى اليهودى، وتعمل على توسيع المشاريع السكنية والبنَى التحتية فى المناطق المحتلة. 

وكانت مؤسّسة ندا للإدارة تزوِّد تلك الشركات بملايين الدولارات من مواد البناء؛ وبخاصة الأسمنت والحديد، بمَبالغ وصلت لنصف مليار دولار خلال عشر سنوات؛ وفقًا للتقارير المنشورة فى مجلات الاقتصاد السويسرية والإيطالية.

وبينما كانت هذه العلاقات الاقتصادية تنمو فى الظل، برزت شخصية «إبراهيم الزيات» فى ألمانيا وتركيا، كوجه آخر من أوجُه التعاون غير المعلن؛ فقد ساعدت عضويته فى مجلس أمناء مؤسّسة «ميلى غوروش» التركية، التى تُعتبر قادرة على جمع أموال الزكاة والتبرعات من الجاليات المسلمة فى أوروبا، مكنت هذه المؤسّسة «الزيات» فى توسيع نفوذه فى الأسواق الأوروبية؛ وبخاصة فى القطاع العقارى والاستثمارى. وقد كانت تحالفاته العائلية، بزواجه من صبيحة أربكان، ابنة شقيق نجم الدين أربكان، زعيم الإسلام السياسى التركى، تمنحه قاعدة اجتماعية وسياسية واسعة.

والعجيب؛ أنه تحت الشعارات الإسلامية وجمع التبرعات لإغاثة الفلسطينيين يحدث أبشع ما يمكن تصوره، فالزيات بشركاته لم يتوقف عند حدود الاستثمار التقليدى؛ ولكنه لتنمية المال المجموع من التبرعات أقام اتفاقات تجارية مع شركة «بيزك» الإسرائيلية، وشركة «بارتنر»، من خلال شركاته فى تركيا وألمانيا؛ بهدف بناء وتشغيل شبكات الاتصالات والإنترنت، التى أصبحت هى العمود الفقرى لتشغيل العديد من المؤسّسات والشركات التابعة له ولشبكة الإخوان. 

لم تكن هذه الشبكات مجرد بنَى تحتية تقنية؛ بل كانت مراكز لتحليل البيانات، ونشر الإعلام الإلكترونى، والتحكم فى تدفق المعلومات.  ولم تقتصر علاقات الزيات على الجانب التجارى فقط؛ بل امتدت إلى المجال الأكاديمى والإعلامى، عبر شراكته مع مركز «شموئيل نيمان» للصحافة والإعلام، التابع لجامعة تل أبيب؛ حيث وُضعت برامج لتدريب كوادر إخوانية فى ألمانيا على الصحافة الاستقصائية، والإعلام الرقمى، والأمن السيبرانى، بما يعزز قدرات الجماعة فى مواجهة التحديات الإعلامية والسيبرانية التى تواجهها فى المنطقة العربية والعالم الإسلامى، وبما يمكنها من التأثير على الوعى العربى والمصرى وتوجيهه، ومن ثم إدخاله فى عدة مَحاور؛ أولها هو، الإرباك، ثم إدارة الإرباك، ونشر الفوضى، ثم إدارة الفوضى.

كل هذه التفاصيل المالية التى قد تبدو متناقضة مع العداء السياسى الظاهر، ليست سرًا مخفيًا؛ بل هى موثقة ومنشورة فى تقارير اقتصادية ألمانية وفرنسية، وهى تؤكد أن خطوط التعاون الاقتصادية والإعلامية بين الإخوان وإسرائيل تمتد فى شبكات معقدة ومتشابكة. فبينما تتبادل الجماعة وإسرائيل الاتهامات والخطابات الحادة، تظل مصالح المال والاستثمار حاضرة بقوة، تاركة خلفها خلفية من المَصالح المشتركة التى تعكس واقعًا أكثر تعقيدًا من الصراع السياسى المعلن.

وفى أعماق القارة الإفريقية، وعلى مدار عقود، نسجت جماعة الإخوان شبكة اقتصادية ضخمة تتجاوز حدود السياسة والخطابات الدينية، لتصل إلى ميدان المال والاستثمار فى الموارد الطبيعية الثمينة مثل الذهب والألماس. 

حيث انطلقت شركات تابعة للتنظيم الدولى بقوة من ميناء مومباسا فى كينيا خلال تسعينيات القرن الماضى، عندما أسَّسَ حسن مالك وخيرت الشاطر شركة عملاقة فى مجال نقل الحاويات، باستثمار ضخم بلغ 800 مليون دولار، ومع مرور الوقت، توسعت هذه الشركة لتصبح لاعبًا دوليًا برأس مال تجاوز 1.5 مليار دولار عام 2014، مع فروع ومقرات فى ماليزيا وبريطانيا وتركيا وجنوب إفريقيا؛ لتكون بذلك منصة اقتصادية محورية لتنظيم الإخوان فى إفريقيا وخارجها، ولكن ليس بنشاطها المنفرد فحسب؛ ولكن بالشراكة مع أكبر الشركات الإسرائيلية العاملة فى مجال التنقيب عن المعادن النفيسة.

هذا الاستثمار لم يقتصر على النقل والتجارة فحسب؛ بل تواصلت الجهود لامتلاك كنوز الأرض؛ حيث ضَخّت الجماعة نحو مليارىّ دولار فى مشاريع التنقيب عن الذهب، بدءًا من السودان الذى شكّل نقطة الانطلاق؛ حيث تم تأسيس شِراكات مع شركات جنوب إفريقية وماليزية منذ أيام عمر البشير، ثم توسع النشاط إلى كينيا حديثًا. 

يقود هذا الجانب من الاستثمار القيادى الإخوانى الكبير محمد البحيرى الذى يُعَد الآمر الناهى للإخوان فى إفريقيا، والمعروف بلقب «فاتح إفريقيا» داخل الجماعة، لكونه الشخصية التى تبنّت نشر فكر الإخوان فى القارة، على غرار القادة الإسلاميين الأوائل الذين فتحوا طرُق الإسلام نحو إفريقيا.

ولكن مع هذا الامتداد الإفريقى، تتشابك خيوط التعاون مع شركات إسرائيلية كبرى فى مجال استخراج وتجارة الألماس؛ حيث تدخل شركة «شتاينميتز ديموندز» التى يملكها الملياردير الإسرائيلى «بينى شتاينميتز» كطرف مهم فى هذه التجارة المشتركة، ما يضيف بُعدًا آخر للعلاقات الاقتصادية غير المعلنة بين الإخوان وإسرائيل. 

والآن الواقع الذى لا يستطيع أحد إنكاره هو أن إسرائيل التى تمتلك صناعات متقدمة فى تصنيع الألماس، باتت شريكًا اقتصاديًا لجماعة الإخوان ولتنظيمها الدولى من خلال هذه الشركات، فى نشاط يمزج بين المال والسياسة، بين الاستثمار والاستخراج، فى مسار يعيد كتابة الكثير من المفاهيم عن أدوار جماعة الإخوان فى الساحة الاقتصادية الدولية.

وهكذا؛ تتحول صورة العداء السياسى إلى خطوط من العلاقات الاقتصادية، حيث يشكل التمويل والاستثمار فى القطاعات الاستراتيجية مثل البناء والاتصالات والإعلام أركانًا أساسية، وهكذا؛ يكون المال هو اللغة المشتركة التى تشرح لنا أن ما بين الإخوان وإسرائيل من علاقات أبعد وأعمق مما توحى به الشعارات، وأن اللعبة السياسية التى نراها ليست سوى واجهة لفصول معقدة من المَصالح التى تشكل خريطة غير معلنة لمصالح اقتصادية متشابكة، لتبقى الحقيقة الأهم وهى أن «المال والحكم» هما القِبلة التى يتوجه إليها الإخوان وأن كعبتهم يمكن أن تكون فى تل أبيب، حتى وإن أضاعوا دينهم.