الإثنين 1 سبتمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

أكد أنه يقتل يوميا فى غزة رغم أنه خارجها

المخرج الفلسطينى «رشيد مشهراوى»: السينما وطن لا يستطيع أحد احتلاله

من بين ركام البيوت، وذاكرة اللجوء، وندوب الغربة، خرجت سينما «رشيد مشهراوى» لتعلن حضورها لا بوصفها انعكاسًا للسياسة، بل بصفتها مرآة للإنسان. هو ليس مجرد مخرج فلسطينى، بل هو صوت بصرى ممتد منذ ثلاثة عقود، يؤرخ الوجع، ويُعيد تشكيل فلسطين داخل المخيلة الجماعية للعالم.. بكاميرا تعرف ما الذى يعنيه حلم الوطن.



 

فى هذا الحوار الخاص، يحدثنا «مشهراوى» عن رهانه الفنى فى مشروع (من المسافة صفر وأقرب)، وعن لغته السينمائية التى تتجاوز الخطابة لتُعلى من شأن الحكاية الإنسانية. كما يكشف تفاصيل أفلامه، ويتأمل فى وضع السينما الفلسطينية، ورد فعل العالم تجاهها، فى ظل واقع عربى هش، ومشهد إنسانى متصدّع.

هنا، على صفحات مجلة «روزاليوسف»، تتحدث الذاكرة، ويكتب المخرج شهادته بالكلمات كما كتبها بالكاميرا.

 ما سبب الاستمرار فى تقديم جزء جديد من مشروع (أفلام المسافة صفر)؟

- الاستمرار فى المشروع جاء نتيجة لإيمانى العميق بالفكرة التى انطلق من أجلها الجزء الأول من الفيلم (من المسافة صفر). نحن لا نقدم مجرد مجموعة من الأفلام أو المشاريع الفنية، بل منذ البداية كان هدفنا الأساسى أن نشارك العالم قصصًا حقيقية من داخل غزة، يرويها أهلها، وبصوتهم، لتكون الصورة أوضح وأكثر صدقًا.. فى البداية، كنا نعتقد أن الحرب التى اندلعت فى 7 أكتوبر 2023 ستنتهى خلال شهرين أو ثلاثة على الأكثر، ولهذا أطلقنا المشروع كوسيلة سريعة للتوثيق والمقاومة البصرية. لكن مع استمرار الحرب واتساع حجم الكارثة فى القطاع من دمار وفقدان ومجاعة، أصبح من الضرورى أن نواصل هذا الجهد.. وكلما طالت الحرب، زاد إيماننا بأن السينما هى سلاحنا للمقاومة والتوثيق. ولهذا قررنا أن نقدم جزءًا جديدًا بعنوان (من المسافة صفر وأقرب)، نستكمل به رواية الحقيقة، ونواجه به الصمت العالمى.

 ما الفرق بين الجزء الأول والثانى من مشروع (من المسافة صفر)؟

- الفرق الأساسى فى الجزء الثانى، الذى يحمل عنوان (من المسافة صفر وأقرب)، هو أننا ركزنا بشكل أكبر على الأفلام الوثائقية، باعتبارها الأداة الأقوى فى توثيق الواقع وكشف الحقائق. نحن لا نقدم هذه الأفلام من أجل الفن فقط، بل لنكسر الصمت الخارجى، ونطلق مبادرات تُعبّر عنّا، وعن حكاياتنا، وتوصل صوتنا إلى العالم. صحيح أن الجزءين ينطلقان من نفس التوجه والرؤية- وأنا صاحب الفكرة والمشرف العام عليها- لكننا فى هذا الجزء ركزنا بشكل خاص على اختيار الموضوعات التى لم تُروَ من قبل. فنقوم، أنا وفريق العمل، بانتقاء الشخصيات والأفكار بعناية، وفق شروط محددة، أهمها أن تكون الحكايات شخصية، حقيقية، وتُروى بتقنيات سينمائية عالية بقدر الإمكان. نحن نؤمن بأن السينما توثق تاريخ الشعب الفلسطينى، ومشاكله التى لم تبدأ فى أكتوبر 2023، بل منذ الاحتلال الإسرائيلى لفلسطين.

 وكم يتبقى على الانتهاء الفعلى من المشروع الجديد (من المسافة صفر وأقرب)؟

- بحسب المخطط الحالى، يضم المشروع 10 أفلام، ومن المقرر أن تكون جميعها جاهزة للعرض مع نهاية سبتمبر المقبل. بعض هذه الأفلام عُرضت منه أجزاء خلال مهرجان كان السينمائى، وأخرى شاركت بالفعل فى مهرجانات دولية، مثل مهرجان عمّان السينمائى الدولى. وهناك فيلمان فى مرحلة التصوير، وثلاثة فى مرحلة المونتاج. لكن، رغم وضوح الخطة، أؤكد أن الواقع هو الذي يكتب كل شيء. نحن نعدّ الأفكار ونصور الأعمال، لكن ما يجرى داخل القطاع يفوق الخيال. ظروف العاملين على هذه الأفلام صعبة للغاية، وقد تتغير الأمور فى أى لحظة، وهو ما يجعلنا نعمل بكل ما نستطيع، لكن دائمًا فى ظل ظروف غير مستقرة.

 العنوان يحمل بُعدًا شعريًا وسياسيًا فى آن، فهل لنا أن نعرف كيف يعكس العنوان مضمون المشروع؟

- عادةً عندما أُخرج فيلمًا، أذهب بنفسى لتصويره من داخل الحدث. لكن مع هذا المشروع، قررت ألا أقدمه كمخرج، بل أكتفى بالدور الإشرافى، أختار الموضوعات، وأوفّر لشباب غزة من السينمائيين والسينمائيات كل ما يحتاجونه من دعم إنتاجى وتقنى، ليصل صوتهم الحقيقى إلى العالم. واخترنا عنوان (من المسافة صفر) ليعبّر بدقة عن فكرة الاقتراب الشديد من الحدث. القصص تُروى من داخل غزة، من قلب الألم، بأصوات من يعيشونه فعلًا. صانعو هذه الأفلام هم الرواة، وهم أيضًا جزء من الرواية.

أتذكّر أن أحد المصوّرين أخبرنى أثناء تصويره لفيلم عن طفل يشتكى من الجوع، ويقول إنه لم يتناول الطعام منذ أيام، ثم همس لى بأنه هو نفسه لم يأكل منذ أيام. هذه ليست فقط مشاهد، بل حيوات كاملة تُنقل من المسافة صفر فعلًا.

 فيلم (أحلام عابرة) ترك أثرًا واسعًا فى عدة مهرجانات. كيف كانت ردود الفعل عليه من الجمهور غير العربى؟

- بصفتى كاتب السيناريو والمخرج، أحرص دائمًا على أن تعكس أفلامى واقع فلسطين كبلد، وشعب فلسطين كقضية وهوية.  (أحلام عابرة)، قدّمت قصة إنسانية بسيطة لكنها تحمل عمقًا شديدًا. هى رحلة فى يوم واحد، عبر طرقات بلد محاصر، تُمثّل كل شيء: الجمال، والذاكرة، والدمار، والجدار العازل. كل ذلك ظهر من خلال تفاصيل صغيرة ترمز إلى الواقع دون خطابة مباشرة.. أما ردود الفعل من الجمهور غير العربى، فكانت مؤثرة جدًا. شعروا بأنهم أمام قصة إنسانية حقيقية، جعلتهم يتساءلون عن بلد عمره 77 عامًا من المعاناة، وليس فقط من أكتوبر الماضى. الفيلم نقل لهم صورة عن فلسطين التى لا يعرفونها: شعب، وثقافة، وعادات، وأحلام مشروعة.

 تهتم بالطابع الإنسانى والتركيز على الحياة اليومية بعيدًا عن الحديث المباشر عن السياسة.. ما سبب اختيارك لرحلة الطفل الذى يبحث عن طائرِه؟

السينما ليست نشرة أخبار، ولا وسيلة لنقل الوقائع كما تفعل التقارير الإخبارية. نحن فى السينما نروى قصصنا كأفراد، كمجتمع، كشعب له حياته اليومية، بتفاصيلها من علاقات، وصراعات، وأحلام، مثل أى شعب فى العالم. لذلك، لا نتناول «القضية» من زاوية شعارات أو خطب سياسية، بل نُركّز على إنسانيتنا، لأننا نملك الحق فى الحياة، فى الأمن، فى أن تكون لنا دولة وأحلام، تمامًا كبقية الشعوب. اختيار قصة الطفل الذى يبحث عن طائره ليس صدفة. هى رحلة رمزية عن التعلّق بالأمل وسط الركام. عن البحث عن شيء صغير وسط كل هذا الدمار. نحن نستخدم القصص الإنسانية كوسيلة لخلق حوار مع العالم، لأن العالم للأسف يتعامل معنا كأرقام فقط.. اليوم، نتحدث عن مرور أكثر من 650 يومًا على بداية الحرب وسقوط عشرات الآلاف من الضحايا فى غزة، لكن من يعرف قصصهم؟ من يسمع أسماءهم؟ نحن لسنا أرقامًا، نحن بشر، ولكلٍّ منّا حياة تستحق أن تُروى، وعلينا أن ندافع عن تلك الحياة وحقوقها عبر السينما.

 هل واجه فيلم (أحلام عابرة) صعوبات فى التوزيع بسبب طابعه السياسى أو كفيلم فلسطينى بشكل عام؟ وما هى المهرجانات التى سيشارك فيها قريبًا؟

- التسييس موجود فى معظم مهرجانات العالم، وهذا واقع لا يمكن إنكاره، خصوصًا مع وجود مهرجانات تتبع لدول منحازة بشكل صريح لإسرائيل. لكنى أؤمن دائمًا أن الفيلم الجيد يفرض نفسه بلغته السينمائية أولًا، قبل أى مضمون سياسى. أفلامى كلها تتناول القضية الفلسطينية، لكنها وصلت إلى المهرجانات العالمية بفضل مستواها الفنى والإنسانى، لا بسبب السياسة وحدها، وقد حصدت العديد من الجوائز بسبب ذلك. بالنسبة لـ(أحلام عابرة)، فقد بدأت العمل على مونتاجه بعد انتهائى من مشروع (من المسافة صفر). فشعرت بأننى يجب أن أواصل الرسالة، ولكن من زاوية إنسانية أكثر قربًا، فقررت أن أفضل (من المسافة صفر) عن فيلمى وأرشحه لمهرجانات دولية.. وعلى الرغم من أن (أحلام عابرة) عُرض فى عدد من المهرجانات ويُعرض حاليًا فى أكثر من 80 دار عرض فى فرنسا، لكن مع كل ذلك، لا أرى أن انتشاره يقارن بما يحدث مع مشروع (من المسافة صفر)، فالقضية الآن أصبحت أكثر إلحاحًا، وغزة باتت هى أولويتى القصوى، لأنها مدينتى وطفولتى وذكرياتى. أنا أعيش خارجها، لكننى أُقتل يوميًا فيها، وهذا ما يجعلنى أتمسّك أكثر بسينما المقاومة.

 كيف ترى السينما الفلسطينية اليوم؟ وما أبرز ما يقلقك أو يحمّسك فى مسارها الحالي؟

- أنا فخور وراضٍ عن وضع السينما الفلسطينية فى الوقت الحالى،أرى أن السينما الفلسطينية يجب أن تقدم قصصًا واقعية وإنسانية بعمق وموضوعية، دون أن تقع فى فخ المباشرة أو التكرار الذى يُشبه تقارير الأخبار. أحيانًا، هناك أعمال تسعى فقط إلى استدرار التعاطف، وتفترض أن الجمهور سيحب أى شىء فلسطينى تلقائيًا، وهذا شىء لا أؤيده. نحن بحاجة إلى أعمال صادقة وقوية سينمائيًا، تنقل قضيتنا بشكل فنى وإنسانى يترك أثرًا حقيقيًا.

 كيف تحافظ على شغفك كصانع أفلام بعد كل هذه السنوات، خاصة فى ظل مشهد عربى قاسٍ؟

- أنا أعتبر نفسى طوال حياتى أعمل على فيلم واحد لم يكتمل بعد، فالدافع الأساسى الذى قادنى إلى عالم السينما هو تجربة مستمرة لا تنتهى. لا توجد وصفة محددة للفيلم الناجح أو غير الناجح، لأن كل فيلم هو رحلة وتجربة بحد ذاته، وفى كل مرة أبدأ عملًا جديدًا أظل أتعلم وأكتشف طوال الطريق. السينما أنقذتنى شخصيًا، فهى طريقتى للهروب من قسوة الواقع. وكونى ابن غزة، لا أملك رفاهية الجلوس والبكاء فقط على ما يحدث، بل أقاوم بطريقتى، من خلال السينما. فالسينما تقوينى وتمنحنى مساحة للتنفس والتعبير. أنا أؤمن أن السينما وطن لا يمكن احتلاله، لا أحد يستطيع احتلال أفكارى أو خيالى.. لهذا أواصل، وأتمسك بهذا الشغف.

 هل تغيّرت نظرة الجمهور العالمى للفيلم الفلسطينى بعد وصوله إلى العالمية؟

- بكل تأكيد، النظرة تغيّرت بشكل كبير. منذ ثلاثين عامًا، لم تكن هناك أفلام فلسطينية تشارك فى المهرجانات الكبرى، وبالتالى كان الجمهور الغربى يجهل تمامًا واقع الشعب الفلسطينى. كانت معظم الصور التى تصله عنا تأتى من خلال كاميرات ليست بأيدينا، ولم تكن تعبر عنّا. لكن مع مرور الوقت، أصبح لدينا الكاميرا، وأصبح الصوت فلسطينيًا حقيقيًا. أتذكر بدايات مشاركة أول فيلم فلسطينى فى مهرجان كان، يومها كنا نضطر أن نشرح للجمهور من نحن، ما هى ثقافتنا، وعاداتنا، وواقعنا المعقّد. ومع زيادة عدد الأفلام الفلسطينية وتنوعها، بدأ العالم يتعرّف علينا بشكل أعمق وأصدق. السينما لعبت دورًا محوريًا فى ذلك، فهى لم تكن فقط وسيلة عرض، بل وسيلة تعريف بالشعب الفلسطينى وتاريخه وهمومه.

 هل هناك مشروع عمل فنى جديد تعمل عليه حاليًا؟ وهل يمكن أن تكشف لقراء «روزاليوسف» بعض تفاصيله؟

- سأكشف عنه لأول مرة حصريًا لـ«روزاليوسف». أعمل حاليًا على فيلم روائى جديد بعنوان (ولاد البلد)، وهو مشروع طموح ومرشّح لبطولته عدد من الأسماء المهمة فى العالم العربى، من بينهم «إياد نصار، ومحمد بكرى، وجورج خباز، وأشرف برهوم» وغيرهم.. تدور أحداث الفيلم فى إطار كوميدى طريف، يجمع بين الاجتماعى والسياسى، حيث ينطلق من فكرة حفل زفاف يُقام فى الأردن، ويدعى إليه مجموعة من الفلسطينيين القادمين من أماكن مختلفة حول العالم. ومن خلال هذا التجمع، نحكى عن الشتات، وعن الغربة، وعن علاقة الفلسطينى بوطنه من وجهة نظر إنسانية وحميمية، فى قالب بسيط لكنه عميق.. الفيلم أيضًا يتناول قصة حب بين شاب وشابة فلسطينيين فى ظل هذا الحدث، وقد تم الانتهاء من كتابة السيناريو قبل أحداث 7 أكتوبر، وأنا أعمل حاليًا على التحضيرات النهائية تمهيدًا لبدء التصوير قريبًا.