
ثروت الخرباوى
الثورة التى حطمت السحر
فى البداية، لم نكن نحلم بالمدينة الفاضلة، كنا فقط نريد وطنًا يُعاملنا كأننا بشر، كنا نحمل فى صدورنا إرثًا ثقيلًا من الانكسارات، وكل ما طلبناه من يناير أن تفتح لنا نافذة، نطل منها على ضوء لا نعرف مصدره.
فلما جاءت الانتخابات، وقفنا فى الطوابير ونحن نردد لأنفسنا: «ليحكمنا من يشاء، فقط لا يكذب علينا».
ثم دخل السحرة علينا، كأنهم خارجون من كتاب قديم، كل شىء فيهم بدا مدهشًا: وجوههم مختلفة، خطابهم مختلف، مظهرهم مختلف، ولكن وعودهم لامعة.
صدقنا، صدّقنا لأن الأمل كان أضعف من أن يُنكر، ولأن الحلم لا يُقاوَم حين يأتيك متنكرًا فى هيئة الصلاة والفضيلة، لكننا اكتشفنا أن السحرة يستخدمون الدين كعباءة، وأن أعينهم لا ترى إلا أنفسهم، وأن السلطة عندهم ليست أمانة بل غنيمة، لذلك لم تكن ثورة يونيو مظاهرة، بل كانت انفجارا مكبوتا عمره عقود.
وحين خرج الناس لم يخرجوا لتُغييِّر الرئيس، بل لتُغييّر نفسيتهم.
خرجوا من بيوتهم كما يخرج المجروح يريد فقط أن يصرخ من شدة الألم، أن يتنفس، كانوا يرفعون الأعلام وكأنها شهادات مرض:
«أنا موجوع.. أنا مخنوق.. أنا لا أستطيع الاستمرار».
والناس بسطاء: لا يعرفون المصطلحات، لكنهم يعرفون أنهم تأذوا، وخُدعوا، وفقدوا الثقة فى كل شىء، لذلك فإن ثورة يونيو كانت فعلًا ثورة نفسية بامتياز، كانت تعبيرًا عن الغضب والحزن والخيانة والأمل فى آنٍ واحد، لم تكن ثورة على نظام بقدر ما كانت ثورة على الشعور بالخذلان.
30 يونيو أيها الناس لم تكن تكرارًا ليناير، بل كانت تصحيحًا داخليًا، فالشعب، لأول مرة، لم يكتفِ بالغضب، بل قرأ ما جرى، واستوعبه، وخرج ليعتذر لنفسه، لم يقل: «أخطأنا»، لكنه قال: «لن نُخدع ثانيةً».
وكان هذا الاعتذار أعمق من أى بيان سياسى، لأنّه لم يكن موجّهًا للسلطة، بل للضمير.
كانت ثورة يونيو من شعب قال فى ثورته إنه لا شىء أوجعه كما فعل استغلال الدين، حين كانت الخطب تنزل علينا كالسياط، وحين صار المختلف معهم كافرًا ، وحين صار الوطن مقسمًا بين «معنا» و«ضدنا».
أدرك الناس أن من تلوّن بالدين قد يبيعهم، وأن الله لا يُختزل فى جماعة، خرج الناس لا لينكروا دينهم، بل لينقذوه ممن يتاجرون به.
وحين قالوا لنا: «الرئيس منتخب.. له شرعية».
قلنا: نعم، لكن الجوع لا يعرف الشرعية، والصندوق ليس إلهًا، ولا معصومًا.
والناس حين تدفع حياتها كى تصوّت، ثم تكتشف أن مَن انتخبوه يسلبهم حق الحياة، فلن يستمروا فى التصفيق للكارثة ،لذلك فإن 30 يونيو كانت صراعًا بين نظريتين: شرعية الصندوق، وشرعية النجاة. وقد اختار الناس النجاة، وليس فى ذلك خيانة للديمقراطية، بل دفاعًا عنها.
وفى النهاية، لم نُسقِط جماعة فقط، نحن أيضا كسرنا سحرًا خَدَعَنا لحظة، وكاد يبتلع الوطن كله.