مـن مقـالات محمد عبدالمنعم.. «روزاليوسف» ووثبة إلى المستقبل

هذا الأسبوع لم يكن أسبوع «صحافة» بالنسبة لى، بكل ما يستتبع ذلك من توتر وزيادة فى إفراز مادة الأدرينالين التى يفرزها الجسم فى حالات ترقب الخطر، ولكن كان بالدرجة الأولى أسبوع طرح ثمرة جهد إدارى استمر أكثر من عامين.. وكانت البداية هى أننا اقتنعنا جميعًا بأنه لا بُدّ من تطوير الطباعة بهذه المؤسّسة العريقة، ومن ثم كان قرار شراء ماكينة للطباعة هى أحدث ما توصلت إليه الهندسة والتكنولوجيا الألمانية.
تبيّن بعد ذلك أننا نحتاج لعنبر بمواصفات خاصة فكان أن بنيناه.. ثم تبيّن أننا بحاجة إلى طاقة كهربية فعالة وثابتة وآمنة فكان أن غيّرنا شبكة الكهرباء للمؤسّسة بأكملها، وبتكلفة وصلت إلى مليونىّ جنيه.. لتكون شبكة حديثة وقادرة على التحمل وعلى تغذية هذا الصرح الصحفى العريق بملحقاته المتعددة.
وما أن انتهينا من شبكة الكهرباء حتى بدأنا فى مد شبكة الغاز بمواصفات خاصة حتى يمكن أن تعمل الماكينة وتبدأ إنتاجها، وكان أن فعلنا ذلك، ونفذنا معه عشرات من المتطلبات الأخرى من تكييف للهواء وللمبرد الخاص بالماكينة ولمواسير الصرف الصحى.. و.. و.. وكم من التفاصيل ليس هناك ما يدعو لإزعاج القارئ الكريم بسردها.
فى هذا المناخ كانت أسرة «روزاليوسف» كعهدها وطبعها تعمل كخلية نحل تسودها روح أسرية جماعية تبذل أقصى جهدها لتجسد إضافة جديدة للمؤسّسة، التى يشعر الجميع بأنها مؤسّسة كل واحد منهم، وجميعًا يريدون لها أن تكون الأفضل بين جميع المؤسّسات!
فى هذا الأسبوع كانت أيدينا جميعًا على قلوبنا.. فقد حان موعد حصاد ثمرة الجهد الذى بذلناه معًا طوال العامين الماضيين.. وعندما دارت المطبعة وأفرزت إنتاجها المتميز تنفّسنا الصعداء وانتابت الجميع نوبة فرح أثارت دهشة الخبراء الألمان الذين يعملون معنا طوال هذه الفترة، لم يفهم الألمان ما يحدث، فهم مشغولون بخرائطهم، ولوحات البيانات التى يعلقونها على الحوائط أمام أعينهم، وبشبكة الإنترنت التى أقاموا عليها خطا دائمًا للاتصال بمقر شركة كرومومان فى ألمانيا.. لم يفهموا هذه الفرحة التلقائية العارمة ولم يفهموا دوافعها، ولو أنهم فى النهاية وبعد شهور طويلة قضوها بيننا أدركوا وأيقنوا أنهم يعيشون بين نسيج إنسانى خاص جدًا، وأنهم كلما تعمقوا ازدادوا فهمًا لشكل خاص من الحياة توصل إليه أبناء دولة كانت هى ذاتها مهدًا للحياة!
المهم أنه لم يكن أسبوع صحافة بالنسبة لى أتابع خلاله الأخبار والأحداث والتعليقات والحوارات.. وكل أشكال وجع الرأس والتوتر الذى يملأ الدنيا بأكملها، ونصدّع به رءوسنا ورءوس غيرنا؛ لكنه كان أسبوع متابعة ولهفة وترقب لنتائج عمل المئات من العاملين فى «روزاليوسف» لعامين كاملين، وكان حرصنا الأول منذ البداية أن نجوّد شكل المجلة دون أن نغيّر روحها، وأسلوبها، وشخصيتها وطابعها الذى تعَوّد عليه القارئ وارتبط به.. جودة المظهر والجوهر دون مساس بالطابع والشكل العام.. وكم كانت صعوبة هذه المعادلة، وكان أخيرًا أن جاءت النتائج مذهلة، واستطاعت حلاوتها أن تمحو مرارة الصعوبات التى نشأت، والتى تغلبنا عليها الواحدة تلو الأخرى بالأداء الجماعى وبروح الفريق الواحد والمتجانس.. أى بالأسلوب الوحيد للإنجاز فى القرن الحادى والعشرين.. ومن قبله القرن العشرين.
نشر بتاريخ 26/8/2000
إسرائيل وحدها فى العالم كله: الدولـــــــــــــة «الكاكــــى»!
الكاكى هو- كما نعرف جميعًا- هذا اللون البنى الفاتح المائل للاصفرار أو الاخضرار، وتستخدم منسوجاته الصوفلية والقطنية لصناعة الزى العسكرى لمعظم جيوش العالم، ويرجع الفضل لاكتشافه إلى الجيش البريطانى الذى استخدمه لأول مرة فى عام 1848 ليكون زيًا موحدًا لرجاله الذين كانوا يعملون فى الهند، وكلمة «كاكى» هى أصلا مشتقة من كلمة هندية معناها «مترب»، وقد اكتشف العسكريون البريطانيون أن هذا اللون بجانب كونه يساعد فى عمليات الإخفاء والتمويه؛ فإنه يساعد أيضا على إخفاء آثار اتساخ شوارع الهند فى ذلك الوقت، ونتيجة هذه الجوانب العملية كان أن شاع استخدام هذا اللون وهذا النوع من الأقمشة والمنسوجات، لتقوم فى النهاية جميع جيوش العالم بتصنيع الزى الرسمى لرجالها من هذا النوع من القماش، ولم يحدث عليه تغيير يُذكر إلا خلال الحرب العالمية الأولى عندما أضيفت إلى هذا اللون مسحة من اللون الزيتونى للعمل على إخفاء وتمويه الجنود المحاربين فوق ساحة القتال فى أوروبا؛ حيث تنتشر الغابات والمزارع والأشجار بلونها الأخضر الداكن.
والمشكلة طبعًا ليست فى اللون الكاكى لأنه لون عملى. وبدليل شيوع استخدامه بين المدنيين وبخاصة الشباب منهم، ولكن المشكلة هى عندما تصبغ الدولة نفسها باللون الكاكى، ويصبح هو اللون السائد.
أو قل المتسيد، فحينئذ تبدأ المتاعب الحقيقية، وقد كان هذا هو الحال بالنسبة لبريطانيا الاستعمارية، وبالنسبة لألمانيا النازية، وإيطاليا الفاشية، واليابان المتزمتة ما قبل هيروشيما وناجازاكى.. إلخ. وظهر اللون بصورة أو بأخرى فى منطقة الشرق الأوسط، ولكنه لم يكن - كالعادة - بجدية وخطورة هذه الظاهرة على المستوى العالمى المعروف، ولا يخفى على القارئ الكريم أن جميع هذه الدول التى ذكرناها والتى لم نذكرها استقرت فى نهاية الأمر فى قاع هزيمة مريرة وفادحة ما زالت تعانى من آثارها حتى يومنا هذا، وإن لم يكن فإنها بالقطع- أى الهزيمة الفادحة- عملت على تغيير التاريخ، وبالتالى الحاضر والمستقبل!
وفى عالم اليوم، لم تعد هناك «دولة كاكى» بالمعنى المعروف اللهم إلا دولة إسرائيل، أو الدولة العبرانية أو الدولة اليهودية.. سمها كما تشاء، ولكن من المؤكد أنها الوحيدة من نوعها فى العالم كله التى تعتبر دولة «كاكى» بأكملها، و«كاكى »من الطراز الأول تسيد داخلها هذا اللون الخطير رغم حداثة منشأها وتاريخها، ورغم حقيقة أن شعبها كان شتاتًا فى العالم كله، وفى أحسن الأحوال مقيمًا دائمًا فى «جيتو» مغلق ومنعزل ومعقد سيكولوجيًا!
هى الدولة «الكاكى» الوحيدة فى العالم، وأخطر من ذلك أنها تضغط باستمرار على «زنادها الاستراتيجى»، ومع ذلك فهى الدولة الوحيدة فى العالم، وفى التاريخ الإنسانى كله، التى وصل بها التدليل إلى الحد الذى لا يسائلها فيه أحد ابتداءً من مذابح دير ياسين وانتهاء بمذابح خان يونس والحصار الروتينى اليومى لمقر الرئيس عرفات، ومرورًا بمذابح صبرا وشاتيلا.. وتاريخ كامل وحافل بالمذابح، كذلك وصل بها الدلال والتدليل والتميز الذى لا نعرف له سببًا- فى مناخ الضلال العالمى السائد- إلى الحد الذى ينزل فيه العقاب.. أشد العقاب، على ضحاياها وعلى جيرانها الذين لا ينشدون غير السلام العادل، بينما لا تلقى هى عتابًا.. ولا نقول - لا سمح الله -عقابًا!
نعم إن الجيش، أو القوات المسلحة، هو مصدر فخر أية دولة فى العالم، وهو القوة الحامية التى توفر الأمن وتذود عن الأوطان.. ولكن بشرط أن يكون هذا الجيش مسيطرًاعليه من قِبَل عقول واعية ومتحضرة، أمّا أن نترك له العنان ليصبغ الدولة بأكملها باللون الكاكى، كما حدث أخيرًا فى إسرائيل؛ فإن الجيش فى هذه الحالة، مثله مثل أى تنظيم قوى داخل أية دولة؛ بل إنه بطبيعته هو أقوى التنظميات فى أية دولة فى العالم، فإنه فى هذه الحالة يطمح ويشطح إلى أقصى حد فى تضخيم كيانه وقوته ودوافع وجوده، ويبذل رجاله وقادته كل ما يمكن بذله للإبقاء على الأوضاع ساخنة وملتهبة وتحويلها إلى تهديدات تثير الذعر والرهبة حتى يمكنهم- مثلهم فى ذلك مثل قادة الإرهاب والتطرف- بسط نفوذهم وفرض سيطرتهم على المجتمع كله إبقاء لأنفسهم فى قلب ومحور وجوهر دائرة الاهتمام وسماء النجوم!
ولذلك فإننا نرى الآن قادة إسرائيل يعملون جاهدين على تسخين المواقف من حولهم وتحويلها إلى حد الأزمة التى تهدد الوجود الإسرائيلى الذى لا وجود لأحد غيره!
ومن هنا تخرج علينا إسرائيل بعبارات فريدة من قاموسها الدعائى الذى لا ينضب.. تارة نسمع عن «التهديد الإيرانى» الذى اختفى لنسمع بدلاً منه حاليًا عن «التهديد العراقى» الذى تحشد له الولايات المتحدة الجيوش والعتاد الضخم لإجهاضه وتخليص العالم الحر من شروره! ثم فى نفس الوقت الذى لم تنته فيه الأزمة العراقية بدأنا نسمع عن «الكارثة الليبية» الممثلة فى أن ليبيا تعمل على تصنيع سلاح نووى! وبالمرة نسمع عن عبارة الأزمة الاستراتيجية عند نهر َ«الحاصبانى» مع أن الحاصبانى- على حد علمى- لا علاقة له من قريب أو من بعيد بالاستراتيجية ولكنها شعارات وعبارات الهدف منها تصعيد الموقف وإشعاله والإبقاء على تهديدات وهمية تبريرًا لاستمرار وجود الدولة «الكاكى» الوحيدة من نوعها فى العالم كله!
وفى هذا المضمون علينا أن نعود بالذاكرة إلى العبارة الدارجة التى أطلقها الرئيس مبارك منذ عدة أشهُر عندما قال بالعامية المصرية مشيرًا إلى تصرفات شارون « دى عملية جر شكل بقى»... نعود بالذاكرة لأنها عبارة بالغة الأهمية فى تفسير ما يحدث، ولأن مصر هى مفتاح المنطقة بأكملها، وأيضًا لأن مصر أكتوبر كانت الدولة الوحيدة التى استطاعت أن «تمرّغ» سمعة العسكرية الإسرائيلية فى أوحال سيناء وقناة السويس وفى سمائنا الممتدة والرحبة، من أجل هذا وذاك فإن مصر كانت وما زالت أغلى ما تتمناه العسكرية الإسرائيلية المتطرفة..
لقد انطلقت هذه العبارة البليغة والمعبرة على لسان الرئيس مبارك: «دى عملية جر شكل بقى» بعد سلسلة طويلة من الاستفزازات والمناورات والمؤامرات الإسرائيلية على مدى أكثر من خمسة عشر عامًا، وبدأت كما نذكر- بالقصة الرتيبة والمُملة عن تعاون مصر مع كوريا الشمالية لتصنيع صواريخ «سكود - بى» وهو السيناريو الذى كان يطل علينا بين الحين والحين وفى توقيتات حيوية على مدى عقد كامل من الزمان، وبعد أن أجهضنا هذه المحاولة بالتجاهل التام فقد تبعتها- كما نتذكر- قصة المناورات والتدريبات العسكرية التى تجريها مصر والتى اعتبرنا خلالها أن العدو الرئيسى لنا سيأتى من اتجاه الشرق «أى إسرائيل»، ثم تلى ذلك روايات تهريب مصر للأسلحة إلى قطاع غزة والمقاومة الفلسطينية، وبعدها خرجت رواية تحريض مصر للفلسطينيين لعدم قبول اتفاقيات السلام.. وروايات أخرى عديدة وسيناريوهات فجة ومريضة كان آخرها أن مصر تشترك بطريقة ما مع ليبيا- أو الكارثة الليبية حسب القاموس الإسرائيلى- فى تصنيع السلاح النووى!
وكان من حظ مصر، وبالتالى من الحظ العاثر لصقور إسرائيل أن الرجل الذى يتولى شئون مصر الآن هو من أكثر الشخصيات تماسكا، ويصعب- إن لم يكن يستحيل- استفزازه أو استدراجه إلى حيث يريد الآخرون، وأهم من هذا وذاك فإن الرئيس مبارك يتمتع بخلفية محترفة وراقية ويجيد تمامًا- نتيجة استيعاب الخبرات المتراكمة منذ تخرجه فى الكلية الحربية وحتى انتصاره العسكرى فى أكتوبر 73- يجيد تمامًا اللعبة التى تمارسها إسرائيل بين الحين والحين، ومن ثم فإنه لا يتيح لهم فرصة واحدة لإحراز الهدف.. علينا أن ننظر إلى التطورات الأخيرة فى المنطقة من هذا المنظور، وعلينا أيضًا أن نتذكر درس التاريخ الذى يقول لنا إن مثل هذه المجتمعات، وهذه الدول «الكاكى».. «تستقر فى نهاية الأمر فى قاع هزيمة مريرة وفادحة تعمل على تغيير التاريخ، والحاضر، والمستقبل».
نشر بتاريخ 12/10/2002
محمد عبدالمنعم