
د. أشرف سنجر
هؤلاء يكتبون عن السيناريوهات
حرب الظلال بين إيران وإسرائيل تعيد تشكيل العالم
يمر النظام السياسى الدولى فى الوقت الراهن بحالة من السيولة غير المسبوقة، تُربك حتى أكثر العارفين بدهاليز العلاقات الدولية. إذ لم يعد المشهد كما عهدناه منذ عقود، بل بات مرآة لعالم يتغير تحت وطأة التحولات الجيوسياسية العنيفة، حيث فقدت الولايات المتحدة الأمريكية قدرتها شبه المطلقة على فرض إيقاعها على المسرح الدولى، وبدأت القوى الصاعدة، وعلى رأسها الصين، فى شق طريقها نحو مشهد متعدد الأقطاب.
بداية هذه التحولات يمكن رصدها بوضوح مع إدراك واشنطن لحجم التحدى الصينى الذى تخطى التوقعات على المستويين التكنولوجى والعسكرى. وبينما انخرطت أمريكا منذ عام 2001 فى حروب صاخبة المظهر، محدودة التأثير، فى أفغانستان والعراق ومناطق أخرى، كانت بكين تُراكم مكاسب استراتيجية فى صمت، متربصة بمشهد أمريكى منهك يُعيد إنتاج هزيمته الرمزية فى فيتنام داخل تربة الشرق الأوسط، بهيبة زائفة ومهتزة.
ثم جاءت الحرب الروسية الأوكرانية عام 2022 لتكون بمثابة الزلزال الذى هز يقين «القطب الواحد»، وأعاد طرح الأسئلة الكبرى حول موقع واشنطن من منظومة السيطرة العالمية. فبينما كانت الولايات المتحدة تستثمر فى تلك الحرب بصفتها رأس حربة للناتو فى مواجهة موسكو، كانت تنزلق تدريجيًا إلى موقع الطرف المستنزَف، لا الضابط للمشهد. ومع تقلب الإدارات الأمريكية بين بايدن ثم ترامب، بدا العالم وكأنه يعانى من صدمة سياسية مزمنة، عنوانها فقدان الثقة فى استمرارية المواقف الأمريكية.
إدارة بايدن راهنت على دعم أوكرانيا بكل ما أوتيت من أدوات، عسكرية واقتصادية، لكن المشهد انقلب رأسًا على عقب مع عودة ترامب إلى السلطة؛ إذ بات حلفاء واشنطن، لا سيما الأوروبيون، يخشون من انقلاب فى الأولويات وتخلى محتمَل عن الالتزامات التاريخية، ما طرح مجددًا تساؤلًا وجوديًا: هل لا تزال الولايات المتحدة حليفًا موثوقًا؟ أم أن تحالفاتها مرهونة بمزاج سياسى متقلب وإدارات تعيد صياغة عقيدة الأمن القومى كل أربع سنوات؟
هذا التذبذب يضرب فى عمق النظرية الليبرالية التى بشّرت بها واشنطن ذات يوم، والتى تفترض أن الديمقراطيات لا تذهب إلى الحرب فيما بينها، وإن فعلت، فحروبها تكون محدودة ومؤقتة. إلا أن تهديدات ترامب لكندا والدنمارك، وميله إلى خطاب عدائى حتى مع أقرب الحلفاء، يقوّض تلك النظرية ويضع العالم أمام مفارقة تاريخية محيرة: ديمقراطيات على وشك الاحتراب.
ولم تقف الولايات المتحدة عند حدود السياسة التقليدية، بل قادت حروبًا تجارية عابرة للقارات، فى انتهاك صارخ لروح المؤسسات الدولية التى طالما تغنت بها الليبرالية الغربية.
هذا التداخل العشوائى بين المدارس الواقعية والليبرالية، بين صقور المحافظين وتكنوقراط العولمة، أوقع العالم فى حيرة أمام سلوك أمريكى متقلب، لم تعد له قواعد تفسيرية ثابتة حتى داخل أروقة البيت الأبيض.
كل هذا أسهم فى إضعاف الشراكة التاريخية بين واشنطن وأوروبا، فترامب لا يتوانى عن توجيه الإهانات لحلفائه الأوروبيين، مما فتح الباب أمام الصين لملء الفراغ. بكين، بعينها التى لا تغفو، تراقب التصدعات بهدوء وتنتظر اللحظة المثلى للانقضاض على قيادة النظام الدولى. ويبدو أن هذا الطموح لن ينتظر طويلًا، فقد يحمل عام 2035 مشهدًا جديدًا لعالم تراجعت فيه الهيمنة الأمريكية لحساب مشهد تتصارع فيه أقطاب متعددة على رسم خريطة النفوذ.
وفى هذا الإطار، تظهر منطقة الشرق الأوسط كجائزة كبرى فى هذا الصراع الخفى بين القوى العظمى. فإسرائيل، بما تمثله من دور تخريبى منظم، تُستخدم كأداة لإشعال المنطقة عند الحاجة، سواء لكبح التقارب العربى-الصينى أو لتقييد انفتاح الشرق الأوسط على شركاء جدد. ومن هنا يمكن فهم أن الحروب فى إيران، وسوريا، ولبنان، وحتى غزة، لم تعد فقط نزاعات محلية بل امتدادات لصراع دولى خفى، هدفه الأعمق هو إبقاء الصين بعيدة عن مفاصل القرار فى هذه المنطقة الحيوية.
وقد أدركت مصر مبكرًا خطورة ما يجرى، فتبنّت منذ تولى الرئيس عبد الفتاح السيسى زمام الحكم، سياسة تسليح استراتيجية تقوم على تأمين الجبهة الداخلية وتعزيز القدرات العسكرية، فى ظل محيط إقليمى مشتعل وحدود مُلتهبة. ورغم أن الشرق الأوسط يملك وزنًا اقتصاديًا وطاقويًا كبيرًا، إلا أنه لا يزال يُعامل كمنطقة نفوذ تتنازعها القوى الكبرى، كلٌّ يسعى لاختطاف الولاء دون استثمار حقيقى فى أمنه واستقراره.
ويبدو أن نجاح الصين فى التوسط بين السعودية وإيران لم يكن مجرد مصالحة إقليمية، بل كان إعلانًا صينيًا ضمنيًا بأن بكين لم تعد لاعبًا اقتصاديًا فقط، بل أيضًا تعد شريكًا استراتيجيًا يُحسن استخدام الدبلوماسية الهادئة لتحقيق مكاسب عجزت واشنطن عن إدراكها.
وفى المحصلة، يبدو أن العالم يمضى مسرعًا نحو تفكيك نظام القطب الواحد، دون أن يُبنى بعد على أنقاضه نظام بديل واضح المعالم. تعددية الأقطاب قد تُنعش بعض مناطق العالم، لكنها فى الوقت ذاته تُنذر بمزيد من الحروب، وتعمق من سباق التسلح، وتضعف من جدوى المواثيق الدولية، لتصبح سلعة الأمن هى الأغلى ثمنًا فى السوق العالمية.
خبير السياسات الدولية بقناة القاهرة الإخبارية