الثلاثاء 1 يوليو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

من الموالد إلى الحرم.. حين أصبح الغناء عبادة

دائمًا وأبدًا، تحتل الأغنية الدينية المصرية مكانة عميقة فى الوجدان العربى، فهى ليست مجرد نغم عابر أو أداء صوتى تقليدى؛ بل كانت ولا تزال مرآة روحية تعكس أشواق القلوب، وتوثّق العلاقة الحميمة بين الإنسان وربّه ونبيه، وتُجسّد نبض المصريين فى تعلّقهم العاطفى بالحج، والمدينة، ومقام النبي، وآل البيت.



وفى الذاكرة المصرية، تحضر هذه الأغانى فى كل مناسبة دينية، لا بوصفها طقسًا فنيًا فحسب؛ بل حالة وجدانية جماعية، تجعل المستمع يدمع، ويبتسم، ويشتاق. هذا المقال يستعرض بعضًا من أبرز تلك الأغانى التى ارتبطت بموسم الحج خاصة، وبالروح الدينية عمومًا، كما أدّتها نخبة من قمم الغناء المصرى والعربي.

 «عليكَ صلاةُ الله وسلامه» – أسمهان

فى أداء نادر يحمل عبق المديح ونغمة الابتهال، وضعت أسمهان صوتها الساحر فى خدمة مدح النبى صلى الله عليه وسلم، فى أغنية ليست مجرد مدح؛ بل مناجاة تشبه أنفاس الزهّاد فى جوف الليل. أداؤها الرقيق والعميق فى آن، يُدخل المستمع فى حالة من السكينة الروحية، وكأنها ترتّل لا تغني.

الأغنية كانت فى الأصل بعنوان «محمل الحجاج»، كتبها بديع خيرى بطلب من طلعت باشا حرب، ولحنها فريد الأطرش وغناها عام 1938، ثم أعادت أسمهان تسجيلها بصوتها فى العام التالى، بعد عودتها من سوريا، ليصبح عنوانها الجديد هو «عليك صلاة الله وسلامه»، وتتحول إلى واحدة من أندر التراتيل الغنائية التى جسّدت روح الحج والمديح معًا.

 «لأجل النبى» – محمد الكحلاوى

مع صوت محمد الكحلاوى، نحن أمام مديح شعبى متوهّج بالحب. ليس من الإنصاف وصف «لأجل النبي» بأنها مجرد أنشودة، فهى تحوّلت بمرور الزمن إلى ما يشبه «النشيد القومى» للمحبين. صوت الكحلاوى، ببحّته الحنونة، لا ينشد فقط، بل يُفجّر الوجدان الشعبى فى حب النبى «صلى الله عليه وسلم».

وتشير روايات إلى أن هذه الأغنية كانت مرشحة لأم كلثوم، لكنها استقرّت فى النهاية مع الكحلاوى، الذى جعل منها أيقونة خالدة، تُرددها القلوب قبل الألسنة، من الموالد إلى الإذاعات.

«إلى عرفات الله» – أم كلثوم

حين غنّت أم كلثوم «إلى عرفات الله»، كانت كمن تصعد بجمهورها إلى المناسك ذاتها. قصيدة من الرصانة ما يجعلها أقرب إلى خطبة شعرية خاشعة، تتفاعل مع مناسك الحج من زاوية وجدانية سامية. السنباطى، كعادته، صنع لحنًا يليق بهذه الكلمات، وأم كلثوم لم تؤدِ الغناء كصنعة صوتية، بل كحجّ غنائى مكتمل الأركان.

 «يا رايحين للنبى الغالى» – ليلى مراد

تبقى هذه الأغنية، شخصيًا، الأقرب إلى قلبي. ففى لحظة شديدة الرمزية، تقف ليلى مراد، الفنانة التى وُلدت يهودية، لتغنى واحدة من أشهر الأغانى المرتبطة بالحج: «يا رايحين للنبى الغالى». لحظة لا تُفهم إلا إذا استُحضِر السياق: مصر التى لم تعرف الطائفية ولا سمحت للتعصب بأن يغتال جمال الفن.

ليلى، التى ولدت عام 1918 باسم «ليليان زكى مراد»، دخلت الإذاعة المصرية فى الثلاثينيات، وتألقت سريعًا فى السينما. وفى عام 1945، غنّت «يا ست نظرة» فى فيلم «ليلى بنت الفقراء»، احتفالًا بمولد السيدة زينب، قبل أن تعتنق الإسلام رسميًا بعام، حسب وثائق نشرها المؤرخ أشرف غريب فى كتابه «الممثلون اليهود فى مصر».

أما «يا رايحين للنبى الغالى»، فقد جاءت فى فيلم «بنت الأكابر»، حين طلبت ليلى من الشاعر أبوالسعود الإبيارى أن يكتب لها أغنية تودّع بها الحجاج، لأنها لم تستطع أداء الفريضة حينها. فكتب لها نصًا بسيطًا، دافئًا، يفيض بالشوق والدموع.

رياض السنباطى وضع اللحن بلغة الذكر الشعبى المصرى، وافتتح الأغنية بتكبيرات أقرب إلى الموالد: «الله، الله، الله». واختار لها مقام راحة الأرواح، وهو مقام شرقى تأملى، يمنح السامع طيفًا من الخشوع والمناجاة.

ليلى مراد لم تغنِّ هنا فقط؛ بل كانت تُصلى بفنها، تناجى بشجنها، وتعبّر عن انتماء وطنى ودينى صادق. وقد تحولت الأغنية إلى تراث يُردد كل موسم حج، وظلت عنوانًا على التسامح والتنوع المصرى الأصيل.