3.5 تريليون جنيه استثمارات مرتقبة: العوائد من تخفيض الفوائد

أحمد زغلول
بدأ البنك المركزى فى تحويل دفة السياسات النقدية للدولة من «التشدد» الذى اقتضى رفع الفائدة لمستويات تخطت الـ 28 % إلى «التيسير» الذى يستدعى خفضًا كبيرًا للفائدة لتيسير حركة الأموال دعمًا للاستثمار وخطة الدولة لرفع معدلات النمو الاقتصادى.
وتستهدف الحكومة فى خطة العام المالى المقبل تحقيق استثمارات كلية ضخمة قيمتها 3.5 تريليون جنيه خلال العام المالى المقبل 2025-2026 مقابل 2.6 تريليون جنيه خلال العام المالى الجارى، ويعد خفض الفائدة أحد أهم الأدوات لدعم هذه التحركات الطموحة فيما يتعلق بالاستثمار سواء الحكومى أو الذى يقوده القطاع الخاص بجميع شركاته من الكبيرة إلى متناهية الصغر.
وفى سبيل تعديل دفة السياسات النقدية أقر البنك المركزى فى اجتماعى لجنة السياسات النقدية بشهرى إبريل ومايو تخفيضات للفائدة بلغت فى مجملها %3.25 لتهبط إلى %24 للإيداع و%25 للإقراض بعد أن كانت قد سجل %27.25 للإيداع و%28.25 للإقراض.
واستدعت الفترة السابقة أن يقوم البنك المركزى بتشديد السياسة النقدية من خلال رفع أسعار الفائدة وذلك لمواجهة معدلات التضخم التى ارتفعت بشكل كبير ووصلت إلى ذروتها فى سبتمبر 2023 عند %38 للمرة الأولى، حيث استخدم البنك المركزى رفع الفائدة سلاحًا لتقليص حجم السيولة فى السوق من خلال الأوعية الادخارية مرتفعة العائد التى أتيحت فى البنوك من أجل تلجيم الطب على السلع.
ونجحت الأوعية الادخارية مرتفعة العائد -لاسيما شهادات الادخار التى أتيحت فى البنوك الحكومية لفترة طويلة بعوائد تصل إلى %30- فى جذب مدخرات ضخمة من المواطنين الأمر الذى ساهم فى رفع حجم الودائع بالبنوك إلى مستويات تاريخية تخطت الـ 14 تريليون جنيه بحسب أحدث البيانات الصادرة عن البنك المركزى.
وطبقًا لبنوك الاستثمار فإن السيولة المتاحة الآن لدى البنوك العاملة بالسوق المحلية، تعد ذخيرة مهمة لتمويل المشروعات والاستثمارات الضخمة المستهدفة للعام المالى المقبل، حيث تسهم قرارات البنك المركزى بخفض الفائدة فى إتاحة التمويل للشركات والمستثمرين بتكاليف مالية أقل، وهو ما يعزز حركة الطلب على التمويلات من أجل التوسع الاستثمارى.
وجاء خفض سعر الفائدة بمقدار 225 نقطة أساس فى اجتماع أبريل، تبعه خفض آخر بـ 100 نقطة أساس فى مايو، ليصل بذلك سعر الفائدة على الإيداع والإقراض لليلة واحدة إلى 25% و26% على التوالى، فى إشارة صريحة من البنك المركزى على أن أولوية السياسة النقدية بدأت تتغير، مع انحسار الضغوط التضخمية وتحسن التوقعات الاقتصادية.
وكان البنك المركزى قد حافظ على سياسة التشديد النقدى منذ مارس 2022 لمواجهة موجات التضخم الناتجة عن تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، وخروج رؤوس الأموال الأجنبية، وتراجع الجنيه أمام الدولار، إضافة إلى نقص العملة الأجنبية، ما دفع أسعار السلع إلى الارتفاع بشكل كبير.
تراجع التضخم
جاء قرار خفض الفائدة مدفوعًا بتراجع ملحوظ فى معدلات التضخم خلال الأشهر الأخيرة. فبحسب بيانات الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء، انخفض معدل التضخم السنوى فى المدن المصرية من ذروته البالغة نحو %38 فى سبتمبر 2023 إلى نحو %13.9 فى أبريل 2025.
كما سجل التضخم الشهرى معدلات أقل من المتوقع خلال الشهور الثلاثة الماضية، مدفوعًا بتراجع أسعار بعض السلع الغذائية وتحسن سلاسل الإمداد.
ويرجع هذا الانخفاض إلى عدد من العوامل، أبرزها تحسن سعر الصرف بعد طرح شهادات دولارية، وزيادة المعروض من بعض السلع الغذائية، إضافة إلى تراجع تأثير موجة ارتفاع الأسعار العالمية. كما ساهمت الاتفاقيات الاستثمارية الكبرى، لا سيما صفقة رأس الحكمة مع الإمارات، فى تعزيز احتياطى النقد الأجنبى وتهدئة سوق العملة.
نمو فى الأفق
مع استقرار الأوضاع النقدية وبدء دورة خفض الفائدة، تشير التوقعات إلى إمكانية تحسن معدل النمو الاقتصادى خلال العام المالى 2025/2026. وتشير تقديرات وزارة التخطيط إلى أن النمو قد يتراوح بين %4.2 و%4.5، مدفوعًا بتحفيز الاستثمار المحلى والأجنبى، وتراجع كلفة الاقتراض، وتوسيع مشروعات البنية التحتية.
وقد كانت الحكومة قد توقعت سابقًا نموًا أقل من %4 بسبب التحديات المالية العالمية، لكن الاتجاه الحالى لتحفيز الطلب المحلى قد يغير هذا المسار، لا سيما مع خطط زيادة الإنفاق على الاستثمارات العامة وتسهيل تمويل القطاع الخاص.
استجابة للمطالب
لم تأت قرارات خفض الفائدة من فراغ، بل جاءت استجابة مباشرة لمطالبات مجتمع الأعمال بضرورة تخفيف كلفة التمويل. ففى لقاء جمع رئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولى بعدد من كبار رجال الأعمال فى مارس الماضى، شدد الحضور على أن أسعار الفائدة المرتفعة تعيق التوسع فى المشروعات وتضغط على المصانع والشركات الصغيرة.
وقد وعد رئيس الوزراء حينها بنقل هذه المطالب إلى البنك المركزى، مؤكدًا أن الحكومة تسعى لتذليل العقبات أمام الاستثمار المحلى، خصوصًا فى قطاعات الصناعة والزراعة والتصدير.
ويأمل المستثمرون أن تسهم أسعار الفائدة المنخفضة فى تخفيف العبء على المصانع، وتحسين فرص التمويل البنكى، ودعم القدرة التنافسية للمنتجات المصرية فى الأسواق العالمية.
توقعات نقدية
ورغم بدء دورة التيسير النقدى، إلا أن التوقعات تشير إلى أن البنك المركزى سيظل حذرًا فى قراراته المقبلة، تماشيًا مع تقلبات الأسواق العالمية، وحفاظًا على جاذبية الاستثمار فى أدوات الدين المحلية.
وتتوقع بنوك استثمار ومؤسسات مالية، من بينها جولدمان ساكس وكابيتال إيكونوميكس، أن يقوم البنك المركزى بخفض تدريجى للفائدة خلال النصف الثانى من عام 2025، ليصل إجمالى الخفض السنوى إلى ما بين 400 و500 نقطة أساس، بشرط استمرار تراجع التضخم واستقرار سوق الصرف.
كما أشار تقرير صادر عن بنك بى إن بى باريبا الفرنسى إلى أن البنك المركزى المصرى بات فى موقف يسمح له بالموازنة بين استقرار الأسعار ودعم النمو، متوقعًا أن يستمر النهج التدريجى فى الخفض حتى لا يؤثر سلبًا على تدفقات رؤوس الأموال الأجنبية التى بدأت تعود تدريجيًا إلى السوق المصرية.
رسالة للمستثمرين والأسواق
وقال محمد عبد العال، الخبير المصرفى، إن قرارات خفض الفائدة تحمل رسالة طمأنة واضحة لمجتمع الأعمال والأسواق، بأن مصر تتجه نحو مرحلة أكثر مرونة وتوازنًا فى سياستها النقدية، تتبنى فيها التحفيز بدلًا من الكبح، دون أن تتنازل عن استقرار الأسعار كمهمة رئيسية للبنك المركزى.
وتُعول الحكومة على هذه المرحلة لتحقيق تعافٍ اقتصادى ملموس، وجذب استثمارات جديدة، وزيادة معدلات التشغيل، خصوصًا فى ظل المشروعات القومية الكبرى، وبدء تنفيذ خطة الدولة لزيادة الصادرات إلى 100 مليار دولار سنويًا.
وفى الوقت الذى تترقب فيه الأسواق اجتماع لجنة السياسات النقدية فى يوليو المقبل، تبقى كل الأنظار على مؤشرات التضخم وسوق الصرف ومدى قدرة البنك المركزى على مواصلة خفض الفائدة دون تهديد استقرار الاقتصاد الكلى.