«شاحنات الأمل».. بين المشاعر والمخاطر حكايات وبطولات سائقى الشاحنات إلى غزة "1"

سامية صادق
«لم يكن الخوف خيارنا»
كانت السحب السوداء تغطى معبر رفح حيث وقف عبد الرحمن محمد الذى كان يقود شاحنته المتجهة لغزة يراقب طابورا طويلا من المركبات المحمّلة بالمساعدات تنتظر الإذن بالعبور.. بينما ينظر إلى الخلف بحسرة وأسى.. حيث صناديق الأدوية والبطاطين المكدّسة منذ شهور.. بينما السلطات الإسرائيلية تمنع الدخول والأهالى يموتون متأثرين بجراحهم لعدم وجود الأدوية والأغطية والطعام..
كان سائق الشاحنة القادمة من مصر يدرك أن كل دقيقة هنا تعنى المزيد من أعداد الوفيات.. لقد سمع عن الحالات الطارئة التى تحتضر فى المستشفيات بلا أكسجين.. عن الأطفال الذين يتشبثون بالحياة بينما ينخفض مخزون الغذاء وعن الأطباء الذين أرسلوا نداءات استغاثة لا تجد من يسمعها.
وأخيرًا جاء الأمر بالعبور.. يضغط الرجل على دواسة الوقود لتنطلق شاحنته ببطء وسط طابور المساعدات.. وكلما اقترب من الحدود.. شعر أن قلبه يخفق أسرع..
لم يكن الطريق سهلا.. ففى أول نقطة تفتيش، يجبر على فتح الصناديق، حيث تم فحص كل كيس دواء، كما لو كان تهريبًا وليس إغاثة.. حتى أفسدوا بعض الأدوية بفتحها بإهمال ساعات من التأخير.. ساعات من القهر وساعات من الصمت القاتل..
فى كل رحلة كان الجانب الإسرائيلى يتفنن فى مضايقاتهم
.. انتظار طويل.. تفتيش دقيق بكلاب بوليسية أسئلة لا تنتهى وكلمات تهدف إلى الاستفزاز.. لكنه لم يهتم.. ففى كل مرة يدخل القطاع كان يرى عيون الغزاويين تشع بالقوة رغم الجرح الذى يسكنهم. كانوا يقولون له ولرفاقه:
«أنتم سندنا»
فكيف يمكنه أن يخيب ظنهم؟
لم يكن الخوف خيارنا رغم دوى القذائف من حوله.. رغم صمت الهواتف وقطع الاتصال.. رغم اضطراره لإنزال المساعدات فى ساحات فارغة وهو يجهل إن كانت ستصل لمن يحتاجها أم لا.. لكنه يعلم شيئًا واحدًا: هناك قلوب تنتظر.. هناك أطفال جائعون.. هناك جرحى لا يجدون الدواء.. هناك أمهات تحضن اللا شيء وتقاوم بكل ما تبقى لها من إيمان.
وبينما كانت الشاحنة تسير فى الطريق الرملى المؤدى إلى المستودعات.. يهتزّ المكان بعد دوى انفجا قوى قريب تهتزّ له مقصورة الشاحنة بعنف وتسقط بعض الصناديق على الأرض.. ثم ترتفع سحابة من الغبار فى السماء بين أصوات الصراخ والبكاء..
يخرج عبد الرحمن من الشاحنة وهو يتفحص الأضرار ويرى السائقين الآخرين يركضون باتجاه الجرحى، لكن لم يكن هناك مجال للتوقف طويلًا فالطريق غير آمن.
يصرّ عبد الرحمن على مواصلة السير لم يكن يستطيع أن يعود.. كيف وهو يحمل حياة فى الصناديق الخشبية خلفه.. ويدخل غزة أخيرًا.. حيث يستقبله مجموعة المتطوعين والأطباء المتعبين.. يندفعوا فورًا نحو الشاحنة.. يفرغون حمولتها وكأنهم ينتشلون آخر أنفاس الأمل من بين الركام..
يقف عبد الرحمن حزينا.. متأملًا وجوه الأطفال الذين لوّحوا له من بعيد وأدرك أن رحلته لم تكن مجرد نقل مساعدات بقدر ما كانت معركة من أجل الحياة..
أما فى المستشفى الميدانى فكان المشهد أكثر إيلامًا مما تخيله.. فلم ينتظر الأطباء أن يتوقف محرك الشاحنة بل اندفعوا إليها كمن وجد كنزًا فى وسط الصحراء..
بعضهم يصعد إلى المقصورة الخلفية يحاول فتح الصناديق قبل أن تُنزل بالكامل وأصابعهم المرتجفة تشق طريقها بين عبوات الأدوية.. آخرون كانوا يصرخون بأسماء المستلزمات الطبية وهم يتقاسمون الحمولات: أين «المضادات الحيوية» أين «الحقائب الخاصة بغرف العمليات»؟ نحن بحاجة لها فورًا!
كان المشهد أقرب إلى عملية إنقاذ وسط الغرق حيث كانت يدٌ تمتد نحو سرنجات الأنسولين، وأخرى تلتقط قوارير المحاليل الوريدية وكأنها تحمل الماء لأرض عطشى.
يرى عبد الرحمن طبيبًا شابًا يفتح كيسًا من الضمادات بأيدٍ مرتعشة يقلبه بلهفة ثم ينادى زملاءه:
لدينا كمية تكفى لبضع أيام فقط استخدموها بحذر!
أما فى الطرف الآخر فكانت إحدى الطبيبات تسحب كرات الدم المعبأة من الصندوق تحمله كأنه حياة بين يديها وتندفع نحو غرفة الطوارئ صارخة:
لدينا حالات حرجة، أسرعوا..
وسط كل هذا كان عبد الرحمن يقف متجمّدًا للحظة أمام المشهد.. لكنه كان يعرف حقيقة واحدة لا يمكن إنكارها:
لم يكن مجرد سائق شاحنة عادية.. بل كان يقود شاحنات الأمل..