فى حب الشاعر «نادر عبدالله»

محمد شميس
مَن يتابع باب «ربع تون» والمقالات التى ننشرها فى هذه المجلة العريقة؛ سيلاحظ أننا نحرص دائمًا على استخدام مصطلح «الكاتب» بدلًا من «الشاعر» عند الحديث عن صانع فكرة الأغنية؛ لأن هناك فرقًا جوهريًا بين الشاعر وكاتب الأغانى.
هذا الفرق تناولناه بالتفصيل فى مقال سابق بعنوان (إشكالية الشاعر الغنائى)، نُشر فى فبراير 2021؛ حيث أشرنا إلى أن معظم دول العالم- خارج حدود الوطن العربى- لم تعد تستخدم وظيفة «الشاعر الغنائى»، فالشعر مهنة مستقلة بذاتها؛ أمّا كتابة الأغانى فهى شكل فنى مختلف له قواعده ومفاهيمه، لكننا فى العالم العربى لا نزال نخلط بين الاثنين.
الشعر الحقيقى يُفترض أن يحتفظ بجاذبيته وقيمته الجمالية دون الحاجة لأى دعم خارجى كصوت مُغَنَّى أو توزيع موسيقى أو لحن؛ أمّا فى الأغنية العربية الحديثة؛ فغالبًا ما يُفقد النص معناه إذا عُزل عن هذه العناصر، ولا يصمد أمام القراءة الصامتة، باستثناء حالات نادرة... ومن هنا يبدأ الحديث عن «النادر»، «نادر عبدالله» الذى بعيدًا عن لغته الشاعرية التى لا خلاف عليها؛ فإنه يتميز بقدرته على صياغة الحكاية داخل الأغنية، يشتبك مع قضايا معقدة ويطرحها بعمق، لكن بلغة بسيطة تصل إلى المتلقى بسلاسة. وعندما نتأمل معانى أغانيه ندرك مدى ثقافة هذا الفنان ووعيه، حتى إنه يُعتبر مرجعًا يلجأ إليه كثير من كتّاب الأغانى «المشاهير»، دون أن يُعلنوا ذلك طبعًا، وهذا ليس مجال فضح الأسماء.
ورُغم كونه رجلًا شرقيًّا، فإنه من أبرع مَن كتب عن المرأة ومشاعرها، ودائمًا ما يصورها كطرف فاعل ومؤثر فى العلاقة، ندًّا للرجل، وليس تابعًا كما تتخيل بعض النساء أنفسهن.
مثلًا أغنية (حب ميؤوس منه) التى كتبها لـ«سميرة سعيد»، وطرح فيها مفهوم التعدد بطريقة مختلفة؛ متجاوزًا الرؤية الدينية التى تُمرر هذا المفهوم دون اشتراط العدالة، وكأنه أمرٌ واقع يجب على المرأة القبول به.
وفى (أنا كتير عليك)، أيضًا مع «سميرة سعيد»، كتب «نادر عبدالله» عن المرأة القادرة على اتخاذ القرار، التى تعرف قيمتها وتنسحب فى الوقت المناسب.
أمّا مع «آمال ماهر»، فكتب واحدة من أشهر أغانيها وأكثرها تأثيرًا (اللى قادرة)، التى حملت رسالة تحفيزية صريحة للمرأة لانتزاع حقوقها. ورغم قوة الرسالة؛ فإن بعض الرجال على مواقع التواصل تعاملوا مع الأغنية بسخرية، ففرّغوها من مضمونها، وصنعوا منها محتوى ساخرًا يُحقر من طموحات النساء.
وفى اللون الرومانسى، أبدع أيضًا بأسلوبه المتحرّر مع «إليسا» فى أغنية (آواخر الشتا)، وصوّر بمفرداته- دون الحاجة إلى فيديو كليب- مشهدًا حميميًا تذهب فيه الحبيبة إلى منزل حبيبها بحثًا عن الدفء، فى مجتمع لا يزال تحكمه أفكار محافظة، ورغم ذلك؛ حققت الأغنية نجاحًا جماهيريًا كبيرًا، وتُعد من أنجح أغانى «إليسا».
ومؤخرًا كتب واحدة من أقرب الأغانى إلى الواقع، بعنوان (بسيط) مع «أحمد سعد». هذه الأغنية اشتبكت مع واقعنا الاجتماعى والاقتصادى، وسلّطت الضوء على الضغط النفسى الناتج عن نمط الحياة التنافسى. ورغم بساطتها الظاهرية؛ أثارت جدلًا واسعًا وتفاعلاً كبيرًا، وهذه بالضبط هى إحدى الوظائف الجوهرية للفن... وهى وظيفة يجيدها «نادر عبدالله» ببراعة الفنان الفطرى.
أعمال «نادر عبدالله» لا تُستهلك بسهولة؛ بل تُقرأ وتتأمل، وتُفسَّر بأكثر من شكل. فهى نصوص تفتح النقاش، وتسمح باختلاف التلقى وفقًا للحالة المزاجية والفكرية لكل مستمع. أغانيه تصنع تفاعلًا حيًّا، ويصبح فيها الجمهور طرفًا أصيلًا فى المعادلة الفنية، لا مجرد مستهلك سلبى.
وفى النهاية؛ من المستحيل أن نلخص مسيرة شاعر عظيم كتب أكثر من 500 أغنية فى مساحة لا تتجاوز 500 كلمة.