80 عامًا على ميلاد صاحب (الزينى بركات وحكايات الغريب) جمال الغيطانى عبقرى الرواية وصاحب التجليات الأدبية العابرة للزمان والمكان

أحمد عبدالعظيم
حكاياته دائمًا تعكس واقع المجتمع المصرى فهو صاحب «حكايات الغريب».. وأعماله تزين قامة الأدب العربى فهو كاتب «الزينى بركات».. عشق حواديت الناس البسيطة فألف «حارة الطبلاوى».. كل حروف كتاباته لا تخلو أبدًا من الجمال.. هو العابر بكلماته للزمان والمكان الأديب الكبير جمال الغيطانى الذى يحمل لنا شهر مايو من العام الجارى الذكرى الـ80 لميلاده.. الغيطانى.. حالة خاصة ونادرة تحمل فى جيناتها كل ما هو «مصرى أصيل».. عشق ما يكتب، فضمن خلود أعماله بين كل باحث عن الرُقى فى الكتابة.. ولأنه حالة أدبية استثنائية، فسرد سيرته هو «فرض» يجب أن نؤديه، لكى نذكر أنفسنا دومًا أن مصر بلد الاستثنائيين فى كل شيء.
الميلاد والحارة
ولد جمال الغيطانى فى قرية جهينة محافظة سوهاج، فى 9 مايو عام 1945، ونشأ بمنطقة القاهرة القديمة «الجمالية»، لتجمع نشأته بين الأصول الجنوبية فى ظل حفاظ الأب والأم على لكنتهما، وبين الترعرع فى الجمالية قلب التاريخ، فيذكر جمال أحمد الغيطانى أن حارة الطبلاوى التى عاش بها مع أسرته كان يوجد بها قصر مملوكى اسمه «المسافر خانة».
كانت والدته الصعيدية «ذاكرة حية متنقلة للحكم والأمثال والحكانات والثقافة الشفهية»، فكانت تستمع لحكاياته وهو ابن السابعة وتتفاعل مع تخيلاته عن النفق الذى اكتشفه فى الحارة ووجد به التماثيل وحديث أحدهم له، أما والده فكان رجلًا عاملًا لم يكمل تعليمه «لكن كلامه كان زى الشعر».
غارة إسرائيلية
أول صورة يتذكرها الغيطانى عن طفولته كانت لسماء القاهرة من منزله فى الجمالية «كانت غارة جوية إسرائيلية على القاهرة سنة 48، وأفتكر كنا نازلين من الطابق الخامس للأول للاختباء»، لم يكن عمره تجاوز السنوات الثلاثة، ولكنه امتلك منذ الصغر ذاكرة تحفظ المواقف وتستعيدها بدقة.
كان جده لأمه شيخ القرية وأزهريا لم يكمل تعليمه، ولكن يتذكر جمال الغيطانى المخطوطات التى تركها، فلاحظ وهو ما زال طفلًا كتبًا لابن عربى والقاضى عياض، ثم نشأته قرب الحسين وجامع الأزهر الشريف بالمكتبات المحيطة به، ويقول الغيطانى: «اكتشفت نفسى بنفسى، مش بس كأديب.. ومن تكوينى أدركت أنى ولدت لأكتب من عمر 7 سنوات».
التعليم الابتدائى
تلقى تعليمه الابتدائى فى مدرسة عبدالرحمن كتخدا الابتدائية ومدرسة الجمالية الابتدائية والإعدادية، والتحق بمدرسة الفنون والصنائع سنة 1959 حيث درس فن تصميم السجاد الشرقى وتخرج فى سنة 1962. الغيطانى كان حريصًا على أن يذهب إلى «عم تهامى» بائع الكتب القديمة والمستعملة قرب الأزهر، يعطيه «تعريفة (عملة مصرية قديما)» ويجلس جواره من الظهيرة إلى المغرب يقرأ كل ما هو متاح، من الفلسفة إلى التاريخ والدين، وظل هكذا حتى استطاع فى ليلة عيد أن يشترى أول كتاب جديد وهو رواية «البؤساء».. ويقول الغيطانى: «بُهرت بها، وانفتح عليا باب النعيم اللى عشت فيه طول عمري».
رسام السجاد
عمل الغيطانى رسامًا للسجاد بالمؤسسة المصرية العامة للتعاون الإنتاجى منذ عام 1963، وحتى عام 1965، ثم عمل مشرفًا على مصانع السجاد بمحافظة المنيا حتى عام1966.
اعتقل فى أكتوبر 1966 لأسباب سياسية مع مجموعة من كتاب الستينيات. عمل سكرتيرًا للجمعية التعاونية المصرية لصناع وفنانى خان الخليلى، منذ عام 1967 وحتى فبراير 1969.
كان الغيطانى يمر يوميًا على ميدان التحرير ثم كوبرى قصرى النيل، الذى صادف عليه نجيب محفوظ خلال تمشيته اليومية، وقتها لم يكن عمر جمال الغيطانى قد تخطى الـ14 عاما، فى حين كان نجيب محفوظ فى الـ 49، أقبل عليه وتعرّفا وصارا صديقين.
صداقة مع نجيب محفوظ
أصبح نجيب محفوظ أستاذًا ومعلمًا للغيطانى، يلتقيه يوميًا بمقهى ريش فى الثامنة صباحًا، كما كان بوابته إلى الحياة الثقافية والمثقفين، جمعهما الأدب والصداقة «كان أبويا الروحى وسرى كان معاه.. علاقتنا استمرت حتى شهدت على لحظاته الأخيرة»، لم يكن فقط بابًا للمعرفة، لكن حافظ لأسراره، ويستشيره الغيطانى فى حياته الشخصية ومسيرته مع الأدب.
وقد بدأ الغيطانى الكتابة فى عمر صغير، حين كان مراهقًا، وأول مظاهرها كان فى القصة القصيرة، التى نشر منها بصورة متفرقة ما يفوق الـ50 قصة قصيرة فى مصر وبيروت، فى البدايات واجه النشر صعوبة كبيرة، حتى استطاع عام 1969 نشر مجموعته القصصية «أوراق شاب منذ ألف عام» التى قرأها الكاتب والمفكر محمود أمين العالم، وطلب منه العمل محررًا ثقافيًا فى جريدة «أخبار اليوم».
القصص القصيرة
ومنذ بدأت مسيرة الغيطانى مع القراءة والمعرفة، والشروع فى كتابة القصص القصيرة، تعرّف إلى «آرسين لوبين» المعروف باللص الظريف للكاتب الفرنسى موريس لوبلان، ونظرا لنشأته فى بيئة فقيرة متعاطفًا مع البسطاء، تخيّل أنه «لوبين» يسرق من الأغنياء ويمنح الفقراء، حتى بدأ يتردد على دار الكتب- التى تبعُد دقائق عن بيته- وقرأ عن الاشتراكية.
فى عام 1958، تكون لدى جمال الغيطانى ميل شديد نحو الماركسية أو الشيوعية العلمية، وصار يقرأ عنها ويتبع منهجها المناصر للعدالة الاجتماعية مع أوائل الستينيات، حتى التقى بمثقفين آخرين وشكلوا معا تنظيمًا يساريًا تحت اسم «وحدة الشيوعيين»، وكان يضم عبدالرحمن الأبنودى وصلاح عيسى وسيد حجاب وغيرهم.
اعتقال الغيطانى
«تصورنا إننا هنغير العالم» لكن وشى عضو بهم، فتم اعتقال جمال الغـيطاني- وعمــره حـينها لم يتـخطَ الـ 21 عاما- وأصدقائه فى أكتوبر 1966، «كانت تجربة مهمة وضرورية، لكن أرجو متتعوضش» فكان الغيطانى ينام على الأسفلت ويعيش ظروفا قاسية، وحيث سحقت هويته ليصير رقمه 37 يُنادى به ويعيش فى حبس انفرادي.
خرج جمال الغيطانى من السجن فى مارس 1967، وقرر على الفور ألا يكون عضوا فى أى حزب سياسى، وأنه سيكتفى بحزب الأدب «وأنى مش هكون بوق أو أداة دعاية لأى سياسي»، ولكنه ظلّ يساريًا منحازًا للعدالة الاجتماعية.
العمل محررًا عسكريًا
بعد هزيمة يونيو 1967، عمل جمال الغيطانى محررًا عسكريًا على الجبهة حتى حرب أكتوبر 1973 مرورًا بحرب الاستنزاف فغطى على مدار 6 سنوات تقريبًا ظروف التدريبات، والعمليات العسكرية التى يتم الإعلان عنها، وفى لحظات فى الحرب، أدرك معنى كلمة «ربنا سلّم»، حين كان يشهد انفجار مكان بعد انتقاله منه بدقيقة.
نقل وقائع الحرب لصالح جريدة الأخبار، ولكنه نسج القتال والتجهيز والعتاد مع الحياة والبشر بآلامهم وأفراحهم، فقدم معايشة لأهل مدن القناة بصحبة المصور مكرم جاد الكريم، ويوم 26 أكتوبر 1973 انتقل بطائرة إلى الجبهة الشرقية للحرب، حيث سوريا وهضبة الجولان.
وكتب عن الحرب عدة كتب وروايات ودراسات، منها: «المصريون والحرب: من صدمة يونيو إلى يقظة أكتوبر»، ورواية «الرفاعي»، ورواية «حكايات الغريب» التى تحولت إلى فيلم بنفس الاسم عام 1992، ومجموعة قصصية بعنوان «أرض.. أرض»، كما كتب عن الجيوش العربية على جبهة سوريا، وخاصة الجيش العراقى، فى كتابه «حراس البوابة الشرقية».
أخبار الأدب
وعمل محررًا بقسم التحقيقات الصحفية، ثم أصبح رئيسًا للقسم الأدبى عام 1985، وكاتبًا لليوميات، ومستشارًا ثقافيًا لدار أخبار اليوم ومشرفًا على سلسلة كتاب اليوم من عام 1987 وحتى 1990، وتولى الغيطانى منصب رئيس تحرير جريدة أخبار الأدب الأسبوعية من أكتوبر 1992 وحتى رحيله. تُرجم العديد من أعماله الأدبية إلى لغات مختلفة منها (الفرنسية، السويدية، الإنجليزية، الهولندية، الألمانية، والإيطالية).
وكان جمال الغيطانى من «خبراء العمارة المعدودين ليس بالمعنى الأثرى أو التاريخى ولكن بالمعنى الفلسفى والصوفي»، وقام بجولات وشارك فى برامج تليفزيونية وقراءات ثقافية عميقة فى شارع المعز والجوامع «والبيمارستانات»، والمدارس القديمة.
سمى أحد شوارع القاهرة الفاطمية باسمه، وهو شارع متفرع من شارع المعز لدين الله الفاطمى، كما تم إطلاق اسمه على إحدى المدارس بمسقط رأسه فى محافظة سوهاج.
أبرز الأعمال
يُعد الانطلاقة الأدبية الأولى لجمال الغيطانى عام 1965، ظلّ ينشر قصصه فى دوريات مصرية وعربية كثيرة، وصفت مجموعته القصصية الأولى «أوراق شاب عاش منذ ألف عام»، بأنها «بروفة أولى على هيئة ماكيت لجميع النصوص السردية التى أتت بعد ذلك»، وخصوصا رواية «الزينى بركات».
يروى كتابه «رن» رحلته عبر الذاكرة إلى مصر القديمة، ويسبر الكتاب فى أساطيرها وتراثها المنسى، وتتوازى تلك الرحلة الروحية مع رحلة واقعية يقوم بها الكاتب، منطلقًا من هضبة الهرم باتجاه جنوب مصر.
من بين أبرز روايات جمال الغيطانى -إن لم تكن أبرزها- هى رواية «الزينى بركات» الصادرة عام 1974، والتى وصفت بأنها «إحدى أهم الروايات البارزة فى الروايات العربية»، وجسدت الرواية تجربة «معاناة القهر البوليسى فى مصر».
كما صدرت له رواية «الزويل»، وهى رواية غرائبية عن زمن سحرى، وتدور حول قبيلة «الزويل» التى تعيش بين مصر والسودان، والتى تخطط لحكم العالم.
صدرت له أيضا رواية «البصائر والمصائر» والتى وصفت بأنها «واحدة من أخصب المحاولات الأدبية التى قام بها»، وصدرت عام 1988، وأبرزت الرواية التحولات الكبرى فى المجتمع المصرى نتيجة الانفتاح الاقتصادى فى عهد السادات.
وتناقش روايته «حكايات الخبيئة» -الصادرة عن دار نهضة مصر للنشر- التناقضات الموجودة فى النفس البشرية فى ظل البطالة، وتداخل الرؤى الناتج عنها لدرجة انعدام الرؤية عند البعض، و«ينفذ الغيطانى إلى أعماق شخصياته للكشف عما هو متجذر فى أعماق الذات».
حكايات الغريب
ومن أبرز الأعمال الفنية المأخوذة عن أعمال جمال الغيطانى الأدبية، مسلسلات «الزينى بركات، حارة الطبلاوي» وفى السينما كتب أفلام «كلام الليل، خمس نجوم»، وتعد أبرز الأعمال الفنية المأخوذة عن أعماله الأدبية فيلم «حكايات الغريب».
فيلم «حكايات الغريب» مأخوذ عن قصة قصيرة للكاتب جمال الغيطانى، وعرض الفيلم عام 1992، وهو من إخراج إنعام محمد على وكتب السيناريو والحوار له السيناريست محمد حلمى هلال.
ودارت أحداث الفيلم خلال الفترة التى أعقبت هزيمة 67 وحتى انتصار أكتوبر 1973، من خلال مواطن يدعى عبدالرحمن يشعر بروح من الانهزامية واليأس التى نتجت عن الهزيمة أمام العدو، والتغيرات التى حدثت للمجتمع المصرى بعد قرار العبور ومشاركة العديد من المواطنين لقواتهم المسلحة لمواجهة الاحتلال واسترداد الأرض والكرامة.
على الرغم من علاقته الوثيقة بنجيب محفوظ، فإن الغيطانى «لم يكن فى يوم من الأيام ساعيا لتقليد محفوظ أو استنساخ شخصيته. فقد حافظ على خصوصيته صامدة كما هى رغم قوة تأثير محفوظ عليه؟ ولم يحدث فى يوم من الأيام أن أسقط ناقد أدبى على أى تشابه بين نصوص المبدعين». ومع ذلك، تتكرر أسماء الأماكن ذاتها فى أعمال ونصوص الكاتبين مع اختلاف المعالجات، نظرا لأن الكاتبين معا «وقعا فى هوى القاهرة المعزية والوله والهيام بحى الحسين»، وذلك بالإضافة إلى اشتراكهما معا فى صفة الانضباط والانصياع لنظام الحياة. وتشمل تلك الأماكن التى تتكرر أسماؤها فى أعمال الأديبين قصر الشوق والغورية وخان الخليلى وشارع المعز وخوش قدم. ووفقا للكاتب السيد ياسين، فمنذ بدايات مسيرته، «كانت هناك مؤشرات على أن الغيطانى ولو أنه كان من «مريدى شيخه» «نجيب محفوظ» إلا أنه حرص على أن يتميز عنه ولا يقلده».
برامج الغيطاني
وقدّم جمال الغيطانى (تزوج جمال الغيطانى من ماجدة الجندى، التى رأست تحرير مجلة علاء الدين وترأست القسم الأدبى فى جريدة الأهرام، وأنجبا محمد وماجدة) أكثر من برنامج تلفزيونى، من بينها «علامات» الذى تم إنتاجه عام 2007 وكان يُعرض على قناة النيل للأخبار لسنوات، وكان يستضيف فى حلقاته رموز الأدب والرواية، وأهل السياسة والصحافة، كما قدم برامج أخرى عن القاهرة القديمة، تحتفى بالتراث وتمزج التاريخ بالواقع.
من ضمن البرامج التى قدمها الغيطانى برنامج تجليات مصرية- عمارة الخلاء، وكان يستهدف الغيطانى فى هذا البرنامج تناول العمارة فى القاهرة القديمة، يحكى تاريخها ويقترب من نقوشها ورموزها، ويقدم تعريفا بأصولها، قدّم الغيطانى رؤية البرنامج، وكتب السيناريو وأخرجه محمد الشناوى، وعرضته قناة دريم عام 2002.
قدم أيضا برنامج «تجليات مصرية- قصائد الحجر» وتم إنتاجه وعرضه على قناة دريم عام 2003، تعاون فيه جمال الغيطانى مع المخرج على شوقى، وكان هدفه التنقل سيرًا فى شوارع القاهرة القديمة، ليربط التاريخ واللغة والأدب بالواقع وحكايات الناس اليومية، وكذلك ذكريات الغيطانى نفسه مع هذا المكان.
أما برنامج «تجليات مصرية- قاهرة نجيب محفوظ».. كان الغيطانى يريد أن يتعرف الناس من خلاله على القاهرة التى عاش بها الأديب العالمى، والتى جسدها فى أعماله الأدبية، فقدّم مع المخرج على شوقى البرنامج، الذى تم عرضه على قنوات دريم عام 2006، وبدأه من الحسين، حيث تم تشييع جنازة نجيب محفوظ، وانتقل منه إلى الأماكن التى شهدت طفولته وصباه والمقاهى التى اعتاد ارتيادها، وما ذكر منها فى رواياته.
جوائز وتكريم
وحصل الغيطانى على العديد من الجزائز أبرزها «جائزة الدولة التشجيعية، وسام الاستحقاق الفرنسى بدرجة فارس عام 1989، جائزة سلطان بن على العويس- 1997، جائزة الصداقة المصرية الفرنسية 1994، جائزة لورا باتليون (فرنسا)- 2005، جائزة جرينزانا كافور (إيطاليا)- 2006».
كما حصل على جائزة الدولة التقديرية- 2007، وجائزة الشيخ زايد للكتاب عام 2009- عن كتاب «رن»، ووسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى، ووسام جوقة الشرف الفرنسية برتبة قائد- 2014، وجائزة النيل للآداب- 2015.
ورحل الغيطانى فى 18 أكتوبر عام 2015، بعد أن أنهكه المرض وأدخله فى غيبوبة استمرت لثلاثة أشهر.