خطوة دراماتيكية أعادت تشكيل ملامح العالم التعريفات الأمريكية رابحون وخاسرون فى مرمى اقتصاد ترامب

مروة الوجيه
فى خطوة دراماتيكية أعادت تشكيل ملامح الاقتصاد العالمى، فرض الرئيس الأمريكى دونالد ترامب رسومًا جمركية مشددة على أكثر من 180 دولة، مستهدفًا الحلفاء والخصوم على حد سواء. تراوحت هذه الرسوم بين 10 % و50 %، ومع الصين اتجهت إلى نحو %125، لتكون الأشد منذ أوائل القرن العشرين، مما تسبب فى اضطراب كبير بأسواق المال، وفقدت الأسهم العالمية تريليونات الدولارات من قيمتها السوقية، وعلى الرغم من قرار ترامب المفاجئ أيضًا بتعطيل هذا القانون لفترة تصل إلى ثلاثة أشهر؛ فإن هذا اللغط كانت له عواقب على البعض وكان فى صالح البعض الآخر، وربما كان ترامب «الملياردير» أحد الرابحين من هذه المجازفة.
تعريفات ترامبية تهز العالم
بحسب وكالة «فيتش» المالية، فإن التعريفات الترامبية قد تدفع العديد من الدول إلى الدخول فى ركود اقتصادى، فيما ارتفعت احتمالات دخول الاقتصاد الأمريكى نفسه فى حالة ركود إلى 40 % بعد تطبيق هذه التعريفات الجمركية.
وتبرز هذه الإجراءات كضربة قوية للاقتصاد العالمى، خاصة فى ظل اعتماد التجارة الأمريكية على شراكات ضخمة؛ إذ بلغ إجمالى حجم التبادل التجارى الأمريكى مع دول العالم 5.4 تريليون دولار العام الماضى، ما يعادل نحو 16 % من إجمالى التجارة العالمية.
لم تستثنِ قرارات ترامب أى طرف، حيث فرضت الولايات المتحدة رسومًا جمركية بواقع 20 % على الاتحاد الأوروبى واليابان، بينما تحملت الصين رسومًا تفوق 50 % على بضائعها، مما يضع ضغوطًا هائلة على ثانى أكبر اقتصاد فى العالم. أما الدول الأخرى مثل فيتنام (46 %)، تايوان (32 %)، وكوريا الجنوبية (25 %)، فقد تلقت أيضًا ضغوطًا كبيرة.
وتعليقًا على هذه الخطوة، أوضح بن باول، كبير استراتيجى الاستثمار لمنطقة الشرق الأوسط وآسيا والمحيط الهادئ فى BlackRock قائلًا: «هذه القرارات لم تقتصر على الاقتصاد الأمريكى وحده، بل ألقت بظلالها على الأسواق العالمية بأكملها. نحن أمام سيناريو قد يؤدى إلى إعادة تشكيل التجارة الدولية، حيث بدأت بعض الدول فى البحث عن بدائل جديدة للأسواق الأمريكية».
ومع تصاعد المخاطر الاقتصادية، بدأ المستثمرون فى إعادة توجيه رؤوس أموالهم نحو الملاذات الآمنة، وعلى رأسها الذهب.
وتوقعت «جولدمان ساكس» ارتفاع سعر الذهب إلى 3300 دولار للأونصة، وهو ما يعكس تزايد الطلب على الأصول التى توفر الحماية فى أوقات الاضطراب.
وعن الاستراتيجيات الاستثمارية فى هذه المرحلة، قال باول: «الاعتماد على الأسهم والسندات التقليدية لم يعد كافيًا فى ظل هذه الظروف. يجب على المستثمرين تنويع محافظهم من خلال إضافة أصول أخرى، مثل المعادن الثمينة والعملات الرقمية، التى أصبحت جزءًا من الاستثمارات العالمية المتوازنة».
روليت ترامب الاقتصادى
وبعد إعلان الرئيس الأمريكى عن تجميد معظم الرسوم الجمركية التى كان يعتزم فرضها على دول العالم، باستثناء الصين التى باتت الآن محور حرب تجارية متصاعدة، لا تزال التطورات الدراماتيكية التى هزت الأسواق العالمية قائمة، لكن على جانب آخر هناك العديد من الفائزين والخاسرين فى هذه الحرب.
وفق تقرير لصحيفة «ذا هيل» الأمريكية، أوضح أن تراجع رئيس البيت الأبيض جاء بعد أيام من الخسائر الفادحة فى أسواق المال، إذ تم محو تريليونات الدولارات من قيمة الأسهم الأمريكية، وبدأت أسواق السندات تومض بإشارات تحذيرية، فيما أطلق قادة الأعمال صيحات إنذار بشأن احتمال حدوث ركود اقتصادى.
وحتى ترامب نفسه، المعروف بعدم اعترافه بأى تراجع، أشار إلى أن المستثمرين كانوا «يصابون بالهلع»، كما أوضح أنه كان يراقب شخصيًا تحركات سوق السندات التى شهدت انتعاشًا هائلًا عقب الإعلان عن تجميد الرسوم، لكنها انخفضت بشكل حاد مرة أخرى بعد يوم واحد فقط مع تنامى المخاوف بشأن الوضع المتأزم مع الصين الذى أخذ منحى مختلفًا تمامًا واتجهت نحو الانتقام من تعريفات ترامب من خلال رفع رسومها على الواردات الأمريكية إلى 125 %.
وتصر بكين على أنها لن تتراجع فى مواجهتها مع ترامب؛ إذ وعدت وزارة التجارة الصينية بأنها مستعدة «للقتال حتى النهاية»، بل إن متحدثًا باسم الحكومة شارك بعض اللقطات الحربية للرئيس ماو تسى تونج، مؤسس جمهورية الصين الشعبية وزعيمها التاريخى، على وسائل التواصل الاجتماعى للتأكيد على هذه النقطة.
رابحون من تعريفات ترامب
ومن فرض إلى تجميد، وكما كان هناك ضحايا لتعريفات ترامب الجمركية كان هناك أيضًا رابحون فى هذه المعركة، سواء اقتصاديًا أو سياسيًا، ويأتى على رأس قائمة الرابحين فى هذه المعركة سكوت بيسنت، وزير الخزانة الأمريكى، الذى أصبح فى موقع أقوى داخل دائرة ترامب خلال أيام معدودة، وعلى الرغم من أنه لم يقترب مطلقًا من الانشقاق علنًا عن الرئيس، إلا أنه كان بوضوح زعيم الفصيل المتشكك فى مستويات الرسوم الجمركية الشاملة والصارمة.
تراجع الضربة
أبرز الرابحين من قرارات ترامب الاقتصادية كانت فى «وول ستريت» بعد رحلة متعرجة للمستثمرين والمؤسسات المالية فى وول ستريت، إذ تم كسر عدة أيام متتالية من الانخفاضات الحادة، بواحد من أكبر المكاسب اليومية فى تاريخ وول ستريت بعد إعلان ترامب تجميد الرسوم الجمركية.
المؤشرات الرئيسية تقع تقريبًا فى منتصف الطريق بين المستويات التى كانت تتمتع بها وول ستريت قبل إعلان ترامب عن «يوم التحرير» للرسوم الجمركية.
ووفق «ذا هيل» فإن «وول ستريت» يمكن أن تستمد بعض الراحة من حقيقة أن الأصوات المؤثرة لعبت دورًا فى دفع ترامب لتغيير المسار، لكن الطريق أمامها لا يزال وعرًا ما لم تتم معالجة التوترات مع الصين.
قوة النفوذ
من جهة أخرى، رأت صحيفة «نيويورك تايمز» أن وزير الخزانة سكوت بيسنت من أبرز الرابحين من سياسات ترامب الاقتصادية، كما أنه أصبح فى موقع أقوى داخل دائرة ترامب خلال الأيام الماضية، وعلى الرغم من أنه لم يقترب مطلقًا من الانشقاق علنًا عن الرئيس، إلا أنه كان بوضوح زعيم الفصيل المتشكك فى مستويات الرسوم الجمركية الشاملة والصارمة.
اكتسب بيسنت نفوذًا داخليًا عندما سافر مع ترامب على متن الطائرة الرئاسية، مؤكدًا الحاجة إلى الوضوح للأسواق المالية وناصحًا الرئيس «بالتركيز على التفاوض مع الدول الأخرى».
بيسنت، الذى عمل سابقًا فى إدارة صناديق التحوط كان من المرجح دائمًا أن يكون أكثر تشككًا بشأن الحماية المفرطة التى دعا إليها البعض فى محيط ترامب.
وحتى بعد أن فاز النهج الأكثر اعتدالًا، ظل بيسنت مخلصًا حين أخبر الصحافة: «فيما يتعلق بترامب، كانت هذه استراتيجيته طوال الوقت».
ماسك.. استمرار القوة
جاء الملياردير إيلون ماسك كقصة فرعية فى دراما الرسوم الجمركية، إذ دخل رجل الأعمال فى معركة شرسة مع بيتر نافارو، الاقتصادى ومساعد ترامب الأكثر ارتباطًا بالمواقف الحمائية القصوى.
وبعد أن ادعى نافارو أن ماسك لديه مصلحة فى التجارة الأكثر حرية بسبب شركة تسلا -التى وصفها الاقتصادى بأنها «شركة تجميع سيارات» وليست مصنعًا حقيقيًا- وصف ماسك نافارو بأنه «أحمق».
وإلى جانب ذلك، كان ماسك شخصية رئيسية أخرى غير مرتاحة بوضوح لنظام الرسوم الجمركية الضخم، فوسط التوترات بين ترامب والاتحاد الأوروبى، أعرب ماسك علنًا عن رغبته فى إنشاء منطقة للتجارة الحرة عبر الأطلسى.
وخرج ماسك فى الجانب الفائز من النقاش الداخلى، تمامًا مثل بيسنت.
انتعاش الخصوم
من جهة أخرى كان لخصوم ترامب من الحزب الديمقراطى قدر من الفوز خلال معركة الرسوم «الترامبية»، إذ حقق حزب المعارضة فوزًا افتراضيًا، بعد تعرضه لضربة قوية طرحت شعبيته أرضًا عقب فوز ترامب بالمكتب البيضاوى نوفمبر الماضى.
ومع دخول رجل البيت الأبيض فى فترة حكمه الثانية وإصداره مئات القرارات الفيدرالية، بعضها وهمى والآخر دون تريث، كان للحزب الديمقراطى فرصة سانحة لاستغلال قرار ترامب للتعريفات الجمركية واعتباره أول خطأ كبير يمكن أن يضر ترامب بشدة مع الناخبين فى الوسط السياسى، إذ أظهرت استطلاعات الرأى أن الرسوم الجمركية غيرت شعبية الديمقراطيين على نطاق واسع، بينما تآكلت معدلات شعبية ترامب وسط الطبقات الوسطى من الشعب الأمريكى بصورة خاصة، حيث يعتبرون هم أول من يتضرر من زيادة رفع أسعار السلع الاستهلاكية بسبب قرارات التعريفات.
وللمرة الأولى منذ تولى الرئيس منصبه فى يناير، بات لدى الديمقراطيين بعض الأمل للتقدم سياسيًا، خاصة وأنه من المقرر بدأ موسم انتخابات التجديد النصفى للكونجرس.
قلق متنامٍ
كان هناك عدم ارتياح واضح بين أجزاء من الحزب الجمهورى تجاه رسوم ترامب الجمركية منذ البداية، إذ أعرب بعض الجمهوريين عن الأمل فى أن يتم تخفيف الرسوم الجمركية قريبًا، بينما انضم آخرون فى مجلس الشيوخ إلى جهود لاستعادة السلطة على هذه القضية من البيت الأبيض.
إذا تحسنت الأسواق من هنا، فقد يكون الضرر الذى لحق بالحزب الجمهورى ضئيلًا، إلا أن التقلبات لم تختف من الأسواق بعد، وهذا يخلق أيضًا عدم يقين بشأن المستقبل السياسى للجمهوريين فى ظل استراتيجية ترامب الاقتصادية المثيرة للجدل.
الخاسرون
لا شك فى أن حربًا تجارية طويلة ستضر بالولايات المتحدة وكذلك الصين، إذ إن بكين تورد سنويًا للولايات المتحدة هواتف محمولة بقيمة نحو 64 مليار دولار، وألعابًا بقيمة 30 مليار دولار، ومنسوجات وملابس بقيمة 20 مليار دولار، وفقًا لآخر الأرقام، فى حين ستؤدى الرسوم الجمركية إما إلى رفع أسعار هذه المنتجات للأمريكيين وإما ببساطة تقليل توافرها.
ومع ذلك، من المرجح أن يكون الضرر الذى سيلحق بالصين أكبر، فصادراتها إلى الولايات المتحدة تعادل ثلاثة أضعاف وارداتها تقريبًا.
من جهة أخرى تأتى القارة الإفريقية لتكون إحدى ضحايا تعريفات ترامب، يشير تعليق صادر عن مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية «سى إس آى إس» (CSIS)، وهو مؤسسة بحثية أمريكية، إلى أن الدول الإفريقية ستكون الأكثر تضررًا نسبيًا من رسوم ترامب الجمركية مقارنة بدول أخرى فى العالم، وذلك نتيجة الانخفاض المحتمل فى الطلب من جانب الولايات المتحدة، وهو ما يعنى خفض الإنتاج وفقدان الوظائف.
وتواجه بعض الاقتصادات الإفريقية تحديات جسيمة بسبب اعتمادها على قطاعات محددة تتأثر سلبًا بهذه الزيادة فى التعريفات. وعلى سبيل المثال، تصدر جنوب إفريقيا ما يقرب من 10 % من مركباتها إلى الولايات المتحدة، ومن المتوقع أن يعانى قطاع صناعة السيارات من فقدان الوظائف كنتيجة مباشرة لزيادة الحواجز التجارية.
ولا تقتصر التداعيات السلبية على القطاع الصناعى وحده، إذ تُواجه الصادرات الزراعية بدورها مخاطر أيضا، وقد حذّرت جمعية مزارعى الحمضيات فى جنوب إفريقيا من أن الرسوم الجمركية الجديدة قد تُهدد نحو 35 ألف وظيفة مرتبطة بالحمضيات فى البلاد.
ويشير العديد من المراقبين إلى أن اعتماد العديد من الدول الإفريقية بشكل كبير على تصدير السلع الخام سيفاقم من التأثيرات المحتملة للسياسات الأمريكية الجديدة، بالنظر إلى أنها ستكون عُرضة للوقوع فى فخ تقلبات أسعار هذه المواد الناتجة عن اضطراب الأسواق واحتمالات الانكماش الاقتصادى العالمي.