هل تصبح الرسوم الجمركية مرحلة جديدة فى تغيُّر شكل النظام الدولى؟ قرارات «واشنطن» تحاصر العالم عند مفترق الطرق

آلاء شوقى
منذ اليوم الأول لتولى الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب» كرسى البيت الأبيض فى فترة ولايته الثانية، اتخذ العديد من القرارات -انطلاقا من عقيدته (لنجعل أمريكا عظيمة مجددًا)- التى أثارت جدلًا دوليًا واسعًا بين التنديد تارة والتهديد تارة أخرى.
أحدث تلك القرارات التى اتخذت فى أوائل أيام الشهر الجارى، وتحديدًا فى الثانى من أبريل 2025، وهو التاريخ الذى أطلق عليه ترامب مسمى (يوم التحرير)، الذى أعلنت فيه الإدارة الأمريكية أكبر زيادة فى التعريفات أو الرسوم الجمركية منذ قانون «سموت-هاولى» للتعريفات الجمركية، وهو القانون الذى صدر عام 1930، والمعروف بقدرته على إشعال حرب تجارية عالمية، وتعميق الكساد الأعظم.
وأعلن «ترامب» أن رسوماً «أساسية» بنسبة 10% فرضت على جميع الواردات القادمة إلى «الولايات المتحدة» بدأت فى 5 أبريل. إلا أن الواقع يشير إلى مواجهة عدة دول - وصفها الرئيس الجمهورى بأنها «أكثر المخالفين سوءًا» - رسوماً أكبر، ويشمل ذلك فرض رسومًا بنسبة 54% على السلع من الصين (وهى تشمل التعريفة الحالية بنسبة 20%)، ورسوم بنسبة 49% على المنتجات الكمبودية، و46% على الواردات الفيتنامية.
المتضررون من رسوم «ترامب»
إن «الاتحاد الأوروبى»، الذى يضم 27 دولة، فُرضت عليه رسوم جمركية شاملة بنسبة 20%؛ بينما تواجه عدة دول أوروبية غير أعضاء فى «الاتحاد»، مثل: «البوسنة والهرسك» رسومًاً بنسبة 36%، «وسويسرا» بنسبة 32%، و«صربيا» بنسبة 38% معدلات أعلى بكثير من المتوسط.
أما «إفريقيا»، فهى ثانى أكثر الدول تضررًا، حيث تستهدفها الرسوم الجمركية بعشرين دولة؛ ويواجه العديد منها رسومًا جمركية تتجاوز 30%، بما فى ذلك: «بوتسوانا، وأنجولا، وموريشيوس»؛ فضلًا عن «ليسوتو» التى تتصدر القائمة برسوم جمركية تبلغ 50%.
وبالنسبة إلى «آسيا» فهى –أيضًا- متضررة بشدة، من حيث النطاق والشدة؛ إذ تظهر جميع دول شرق، وجنوب، وجنوب شرق «آسيا» تقريبًا فى القائمة الأمريكية، مع معدلات مرتفعة بشكل خاص فى دول، مثل: «فيتنام» بنسبة 46%، و»كمبوديا» 49%، و«لاوس» 48%، و»ميانمار» 45%.
وبشكل عام، علق المحللون الاقتصاديون ومراقبو السوق على الرسوم الجمركية الأمريكية بتوقعات تشير لاحتمال حدوث انكماش اقتصادى؛ محذرين من خطر حدوث تباطؤ فى النمو، بالتزامن مع تسارع التضخم، وهو سيناريو مخيف يُعرف باسم «الركود التضخمى».
الرسوم الجمركية حسابات دقيقة أم لعبة إيرادات؟
أفاد عدد من المحللين الاقتصاديين بأن الأساس المنطقى وراء الرسوم الجمركية الأساسية يرتكز على سببين؛ السبب الأول: هو تأمين الإدارة الأمريكية نفسها، بأن هذا إجراء تصحيحى ضرورى لعقود من انفتاح الأسواق الأمريكية؛ أما السبب الثانى: فهو أن التعريفات الجمركية هى -فى نهاية المطاف- آلية لجمع الإيرادات، للمساعدة فى تمويل التخفيضات الضريبية الشاملة، التى تأمل الإدارة الأمريكية فى الإعلان عنها قبل نهاية العام.
فعقيدة إدارة «ترامب» التجارية، ترى العجز التجارى الأمريكى مع كل شريك ليس مجرد رقم إحصائى، بل هو دليل على الفشل الوطنى، وشهادة دامغة على عقود من اتفاقيات التجارة غير المتكافئة، حيث تنازلت «الولايات المتحدة» – من وجهة نظر الرئيس الأمريكي - عن حقوقها الصناعية، مقابل هوامش ربح الشركات، وواردات أرخص.
وعليه، تعتقد الإدارة الأمريكية أن الرسوم الجمركية، بالإضافة إلى معاقبة الدول التى فرضت حواجز تجارية –اعتبرتها- غير عادلة على السلع الأمريكية، ستحفز إعادة التصنيع فى «الولايات المتحدة». كما سيؤدى رفع أسعار الواردات إلى تغيير معادلة التكلفة، والعائد للإنتاج متعدد الجنسيات، مما يدفع الشركات الأمريكية إلى إعادة توطين قدراتها التصنيعية، وإعادة ترسيخ سلاسل التوريد داخل الحدود الأمريكية.
بصورة مبسطة.. إن الرسوم الجمركية جزء أساسى من رؤية «ترامب» الاقتصادية، إذ يجادل بأن التعريفات ستشجع المستهلكين الأمريكيين على شراء المزيد من السلع المصنعة فى «الولايات المتحدة»، ما يعزز اقتصاد البلاد، ويزيد من مقدار الضرائب المحصلة.
كما يريد «ترامب» تقليل الفجوة بين قيمة السلع التى تستوردها «الولايات المتحدة»، وتلك التى تصدرها إلى دول أخرى، بزعم أن «الولايات المتحدة» تعرضت للاستغلال من قبل -من وصفهم- بالغشاشين، وتم نهبها من قبل الأجانب حسب اعتقاده.
ولفهم تفكير الإدارة الأمريكية أكثر، فمن الضرورى اللجوء للغة الأرقام، إذ تجمع «الولايات المتحدة» – حاليًا- نحو 77 مليار دولار سنويًا من إيرادات الرسوم الجمركية، وهو رقم يتماشى مع إيرادات الاقتصادات المتقدمة الأخرى كنسبة من الناتج المحلى الإجمالى.. إلا أن المستجد فى الأمر، هو طرح فريق «ترامب» توقعات تصل إلى 800 مليار دولار.
ففى مقابلة أجريت فى 30 يناير 2025، زعم المستشار الاقتصادى للبيت الأبيض «بيتر نافارو» أن الرسوم الجمركية الجديدة ستُدرّ نحو 6000 مليار دولار سنويًا، أى نحو 6 تريليونات دولار على مدى عقد من الزمن. لكنه، لم يُقدَم –آنذاك- أى اقتراح أو حساب مُحدد للرسوم الجمركية.
إن هدف إدارة «ترامب»، اعتبره المحللون السياسيون غير واقعى إلى حد كبير.. ولكن، الآن، بعد أن أعلنت «واشنطن» الرسوم الجمركية، فيمكن فهم من أين قد تأتى هذه الأرقام من الإيرادات، حيث تفرض «الولايات المتحدة» رسومًا جمركية شاملة تتراوح بين 10% و50%؛ وهى زاوية علق عليها محللون الاقتصاد موضحين أن تلك الرسوم، قد تُحقق إيرادات سنوية تُقدر بنحو 600 مليار دولار.
تكتيك «واشنطن» فى فرض الرسوم
اتبعت «واشنطن» تكتيكاً محدداً فى فرض رسومها التى اجتاحت أغلب دول العالم، وهى ضرب الجميع مرة واحدة فى الوقت نفسه، مما لا يتيح أى فرصة للاستجابات المتسلسلة، ويمنع الحكومات من انتظار استراتيجيات الدول الأخرى فى الرد، أو تنسيق فيما بينها لاتخاذ إجراءات مشتركة، ويدفع الدول إلى اتخاذ قرارات سريعة ومستقلة ومشتتة، تفتقر للتنسيق.
بل على العكس، فحتى إن استطاعت الدول التنسيق فى الرد، فإنها –غالبًا- ما تفشل فى ذلك، بسبب انعدام الثقة، أو عدم اليقين، أو ضيق الوقت.
وعليه يُنشئ التزامن فى اتخاذ الفعل الأولى فى خلق مشكلة تنسيق، فى ظل ظروف المعلومات غير الكاملة، خاصة أن إدارة «ترامب» فرضت تعريفات مختلفة، بينما أشارت لاحتمالية تقديم بعض الإعفاءات أو التفاوض، ما عزز حيرة بعض الدول حول العالم، وترددها فى اتخاذ القرار.
ومع عدم القدرة على مراقبة سلوك الآخرين، فإن بعض الحكومات –عادة- تتبع استراتيجياتٍ تتجنب المخاطر، مثل: (الامتثال المبكر)، لتجنب أسوأ سيناريوهات العزلة.
هجمة مرتدة
رغم أن هدف إدارة «ترامب» من فرض الرسوم الجمركية يهدف –فى المقام الأول- فى أن تصب عوائده لصالح «الولايات المتحدة»، إلا أن الرسوم شأنها كشأن أى ضريبة، لها ثمن، إذ توقع عدد من المحللين الاقتصاديين أن تؤدى الرسوم لرفع الأسعار فى «الولايات المتحدة» بنسبة 9.5%، وتُخفض الناتج المحلى الإجمالى الأمريكى بنسبة 1%.
فهناك إجماع واسع بين الاقتصاديين على أن التعريفات الجمركية ستؤدى إلى ارتفاع الأسعار للمستهلكين الأمريكيين عبر مجموعة من السلع المستوردة، حيث تحمّل الشركات بعض أو كامل تكاليفها المتزايدة على المستهلكين.
فى المقابل، قد تقرر بعض الشركات الأخرى استيراد كميات أقل من السلع الأجنبية، أو التوقف تمامًا عن استيرادها، ما قد يجعل المتاح من تلك السلع أغلى ثمنًا؛ كما أنه قد تترتفع –أيضًا- أسعار السلع المصنعة فى «الولايات المتحدة» باستخدام مكونات مستوردة.
وانطلاقًا من تلك الرؤية.. نوهت تقديرات الاقتصاديين للنمو فى عام 2025، لاحتمالات كبيرة للتضخم، وهى رؤية أكدتها رئيسة بنك الاحتياطى الفيدرالى فى «بوسطن»، حينما قالت إن: «التعريفات الجمركية ستؤدى حتمًا إلى زيادة التضخم على المدى القريب».
يأتى ذلك، فى ظل توقعات أخرى مثيرة للقلق من تداعيات الرسوم الجمركية تتبلور فيما يخص تأجيل الشركات لعمليات التوظيف والاستثمار؛ فضلًا عن جهود إدارة «ترامب» لتقليص القوى العاملة الفيدرالية قد تؤدى فى نهاية المطاف إلى فقدان أكثر من نصف مليون وظيفة بحلول نهاية عام 2025.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، لأن رسوم «ترامب» الجمركية، وعدم اليقين الذى يسود المشهد بسببها، لا تعد السبب الوحيد فى ازدياد المخاوف بشأن آفاق النمو الاقتصادى الأمريكى، إذ كان أحد تداعيات فرض الرسوم السريعة، هو انخفاض أسعار الأسهم الأمريكية، فى ظل تزايد التوترات من احتمالية نشوب حرب تجارية عالمية، تعزز المخاوف من حدوث ركود اقتصادى عالمى.
فاعتبارًا من 3 أبريل الجارى، انخفض مؤشر (ستاندرد آند بورز 500) الأمريكى بأكثر من 12% عن أعلى مستوى له على الإطلاق الذى بلغه فى منتصف فبراير الماضى.. وفى يوم الأربعاء الماضى وحده أفادت صحيفة «وول ستريت جورنال» الأمريكية بأن العقود الآجلة لمؤشر (ستاندرد آند بورز 500) نخفضت بنسبة 2.7%، فى حين هبطت العقود الآجلة لمؤشر (ناسداك 100) بنسبة 2.7%، كما تراجعت العقود الآجلة لمؤشر (داو جونز) بنسبة 2.4%.
وتكمن إحدى المخاوف التى تثير قلق الاقتصاديين من التراجع الحاد والمستمر فى سوق الأسهم، هو انعكاسه السلبى المتمثل فى كبح الإنفاق بين الأمريكيين ذوى الدخل المرتفع، الذين كانوا محركًا رئيسيًا للاستهلاك فى السنوات الأخيرة.
وفى خضم تزايد وتيرة القلق، فإن قائمة مخاوف الاقتصاديين تتسع يومًا تلو الآخر، إذ أوضحوا –أيضًا- أن الرسوم الجمركية الأمريكية ستخلق –لا محالة- أزمة ثقة فى النظام التجارى مع «الولايات المتحدة»، رغم سعى بعض دول (الآسيان) إلى التهدئة، إلا أن الإحباط من النهج الأمريكى بلغ ذروته فى الكواليس الدبلوماسية، نظرًا لطبيعة الرسوم المفاجئة وشموليتها، التى بعثت برسالة سلبية بأنه حتى الحلفاء المقربون لواشنطن غير مستثنين من السياسات الحمائية الجديدة.
فى النهاية.. يمكن القول إن أغلب دول العالم تقف – الآن - عند مفترق طرق حاسم بعد محاصرتها بين الصدمة الاقتصادية، والتداعيات الجيوسياسية، واستدعاء دروس التاريخ. فالرسوم الجمركية الأمريكية الجديدة ليست مجرد إجراء تجاري؛ لكنها ستلقى بظلالها على ملامح النظام العالمى الحالى.
وفى ظل تآكل الثقة، وعودة السياسات الحمائية، وتفاقم انعدام اليقين فى المشهد الدولى، تبدو العديد من الدول أمام اختبار مُزدوَج، وهى الحفاظ على الاستقرار الداخلى لبلدانها، وفى الوقت نفسه هى أمام تحدى إعادة تموضعها داخل منظومة عالمية، تعيد تعريف موازين القوة، والمعايير الاقتصادية.