دروس من معارك «التابعى»: هل الصحافة مهمة؟!

عبدالله رامى
لولا «التابعى» لكان هناك عقد امتياز لقناة السويس حتى عام 2028!
ربما يبدو سؤالًا ساذجًا.. والمفترض أن إجابته بديهية.. لكن أحيانا تدفعنا بعض السياقات للتأكيد على البديهيات.. خصوصا إذا كان هناك من يرى أن الصحافة شىء ثانوى من كماليات المجتمع؛ تندرج تحت بند «السلع الترفيهية» ويمكن الاستغناء عنها بسهولة.
نعم.. هناك صوت يتساءل: هل منعت الصحافة حربًا؟.. هل أطعمت الصحافة جائعا؟.. هل كست الصحافة عريانا؟.. أسئلة تؤدى جميعها للسؤال الفخ: هل الصحافة مهمة أصلا؟
بالطبع لست أنا من سيتولى الإجابة على هذه الأسئلة المهمة والمصيرية.. ولن أقول لك إجابات تنظيرية ونظرية عن أهمية الصحافة وتاريخها ومعاركها.. لكننا سنذهب معا لسيرة إمام الصحافة ونجمها ومجددها «محمد التابعى».. فحكايته وحياته هى الإجابة الوافية على أسئلتنا.. ففى هذه اللحظة تحديدا نحتاج جميعا بلا استثناء «صحفيين ومسؤولين»، أن نعرف قدْر الصحافة وقدَرها.
ومن حظنا أن صدر مؤخرا عن دار «ريشة» للنشر كتاب «المجدد.. صاحب الجلالة محمد التابعى» للكاتب والباحث شهدى عطية.. الذى يسلط الضوء فى 300 صفحة على محطات ولمحات فى دور وحياة الصحفى الأهم فى تاريخنا «التابعى».. أهم معاركه وطريقته فى الاشتباك.. طريقة طرح رأيه مهما كان السياق.. مواقف لولاها لكان حاضرنا مختلفًا ومتخلفًا.
غلاف روزا.. وسجن التابعى!
على غلاف العدد 276 من مجلة روزاليوسف نشر كاريكاتير يمثل الصحافة- وقتها- بامرأة مقيدة من يدها ساقيها وفمها.. ووزير الحقانية يقول للنواب: «عايزين منى أعمل لها إيه زيادة عن كده؟.. إيديها مربوطة ورجليها متقيدة وعلى فمها كمامة!.. فيرد بعض النواب: «فاضل لسه عنيها.. خد السيخ ده واقلع عنيها علشان ما تشوفش حاجة أبدا»..
كان هذا الغلاف/ المشهد بمثابة الـ«ماستر سين» يكشف سقف الصحافة وقتها وطبيعة معاركها وأيضا يبين رد فعل المسئولين وقتها على «لسان الصحافة الطويل».. ففي نفس يوم صدور العدد كان هو اليوم الذي تم فيه إيداع الأستاذ التابعي في السجن!
ولكن أين في ذلك ما نقوله عن أهمية الصحافة؟!
المفاجأة يا صديقي أن غلاف روزا لم يكن هو السبب المباشر لسجن التابعي أصلا.. لكن في كواليس المشهد المهم أن نسأل ما القضايا والملفات التي كان يكتب فيها الأستاذ التابعي وقتها؟
مد امتياز قناة السويس.. لولا التابعي!
في نفس العام (1933) أثناء وزارة «إسماعيل صدقي»؛ كان الأستاذ التابعي صاحب أقوى ضربة صحفية وأهم قضية وطنية.. حيث حصل على أوراق مهمة من مكتب وزير المالية وقتها «محمد شفيق» عن مشروع لمد امتياز قناة السويس 60 سنة: من 1968 وحتى 2028 (نعم 2028.. ليس هناك أي خطأ في كتابة التاريخ).
فماذا فعل الأستاذ وكيف كان رد الحكومة؟
بدأ الأستاذ على صفحات روزاليوسف بالكتابة تلميحا عن وجود عقد لتمديد امتياز قناة السويس للشركة الإنجليزية.. في المقابل ثار صدقي باشا ناكرا ومنكرا وواصفا ما كتبه التابعي بالشائعات!
فكان قرار الأستاذ بنشر تفاصيل الاتفاق كاملا في أهم انفراد حدث في تاريخ صحافتنا تحت عنوان: «مشروع اتفاق خطير.. بين الوزارة الحاضرة وشركة قناة السويس».. وكتب: نتبرع بنشر ما لدينا من معلومات وثيقة عن هذا المشروع ليطلع عليها حضرات السادة الوزراء والجمهور «في وقت معا».
وقتها كان وزير المالية يريد كتابة بلاغ في روزاليوسف لتكذيبها لكن كان لديها صورة زنكوغراف للمشروع.. وأرسلت الحكومة لجريدة المقطم تكذيبا في مواجهة ما نشر على صفحات روزا.. لكن «المقطم» اعتذرت بعد أن ورطتها الحكومة سابقا في تكذيبات نالت من مصداقية الجريدة!
يعني ببساطة لولا التابعي والصحافة ربما كنا سنجد شركة إنجليزية لديها عقد امتياز لقناة السويس حتى 18 نوفمبر سنة 2028.. أي بعد 3 سنوات من الآن.. تخيل!
تخيل لو أن الصحافة استسلمت لتكذيبات صدقي باشا وبلاغات وزير ماليته؟!
لكن الأستاذ التابعي في تلك القضية يعطينا الدرس الأهم والدور الأبقى لمهنة الصحافة: «أن يعرف المسئول والجمهور معا».. لإرساء ضمانة وحق المجتمع كلها في ألا يحتكر أحد معلومة أو وجهة نظر.. وفي زماننا احتكار المعلومات أخطر من احتكار «الزيت والسكر»!
القضية الثانية.. حكاية الحصاينة
لم تكن قضية امتياز قناة السويس المواجهة الوحيدة بين الأستاذ والحكومة في العام 1933.. ففي إحدى قرى السنبلاوين كانت تدور تفاصيل معركة أخرى؛ حيث ذهب رجال حكومة إسماعيل باشا إلى «قرية الحصاينة» لاستهداف أحد رجال الوفد المعروفين وقتها «الشيخ طلبة صقر» وعطلوا وابور طحن الغلال ومضرب الأرز المملوكين له.. فما كان من الشيخ طلبة إلا أن رفع دعوى ضد الحكومة.
وحتى تنجو الحكومة من فعلتها أرسلت من يمحو آثار الجريمة قبل أن تثبته المحكمة.. وعندما حاول الشيخ طلبة وأنصاره منعهم.. أطلق عليهم البوليس النار.. ليسقط منهم 3 قتلى وكثير من الجرحى.
كان الهدف أن تمحو الحكومة آثار جريمتها الأولى فارتكبت جريمة أكبر.. وحاصرت القرية أياما وألقت أهلها في السجن.. وهو ما تسبب في أزمة بوزارة العدل.
حققت النيابة ووقف النائب العام «مصطفى بك محمد» في صف أهل القرية مطالبا الحكومة بالإفراج عنهم كما رفع دعوى على مأمور المركز بتهمة التزوير في أوراق رسمية.
في تلك اللحظة تجد الحكومة نفسها متورطة أكثر.. فتغير النائب العام وتعين آخر هو «محمد لبيب عطية»!
فهل يسكت التابعى؟!
كان قلم الأستاذ حادا في الدفاع عن حقوق الحصاينة وفي مواجهة الحكومة وسخريته منها ومن تغييرها للنائب العام بعد دفاعه عن أهل القرية.. موجها رسالته للوزير: «هز الوزير رأسه هزة اهتز معها قانون العقوبات.. وأسبل القانون رمشه وصرف نظرًا عن الموضوع»!
وقتها وبعد هذا المقال الساخر تم استدعاء الأستاذ التابعي إلى النيابة في أبريل 1933.. الأكيد أن هذا الاستدعاء الذي تلاه حبس 4 شهور وغرامة 50 جنيها لم يكن بسبب مقال واحد أو قضية واحدة فجرها أو حتى غلاف ساخر للمجلة.. لكنه جاء كتكريم عن مجمل أعماله؛ خصوصا أنه في ذلك الشهر كان قد أتم 10 سنوات من العمل في الصحافة.
هناك الكثير من الحكايات والمعارك التي خاضها الأستاذ والجرائد التي أسسها والتلاميذ الذين أصبحوا أساتذة الصحافة وأسطواتها.. لكن الأهم ما تركه لنا من تعاليم ومواقف تخبرنا أهمية الصحافة ومهامها.. تقول لنا إن الصحافة أنقذت قرية كاملة وأوقفت ضياع حق شعب كامل في أهم مجرى ملاحي.. إن الصحافة يمكن أن تشتبك مع المسئول لأقصى درجة من أجل الصالح العام.
وتحقيق الصالح العام يقتضي ويحتاج دائما لصحافة قوية واشتباك فعال.. ولو سرنا على طريقة السند في رواية الأحاديث.. فإن سند الصحافة المصرية بمختلف مدارسها ومؤسساتها يصل إلى الإمام المجدد «التابعي».. لذلك لا بد أن يكون المتن على قدر وقوة السند والامتداد.