فى رحيل أسطورة الأغنية الشعبية: الدرس المستفاد من تجربة أحمد عدوية

محمد شميس
«فقدت الأغنية الشعبية أحد أبرز رموزها، فنانًا عبّر بصوته المميز عن وجدان الشارع المصرى، وصاحب مسيرة فنية حافلة بأغانٍ تركت بصمة لا تُنسى فى تاريخ الموسيقى الشعبية. لقد كان الفنان «أحمد عدوية» نموذجًا للفنان الأصيل الذى أبدع فى تقديم فن يحمل هوية خاصة، سار على نهجها الكثير من مطربى الأغنية الشعبية».
بهذه الكلمات نعى وزير الثقافة «د.أحمد فؤاد هنو» رحيل «أحمد عدوية»، كاعتراف رسمى من مؤسسة الثقافة المصرية بفن «أحمد عدوية»، وهذا الاعتراف جاء بعد سنوات طويلة من الغناء والعمل والصبر.
فإذا كنا نتحدث عن الغناء، فـ«عدوية» ظل يغنى بشكل احترافى رسمى، منذ عام 1972، حتى عام 2023، أى أنه ظل يغنى لمدة 51 عاماً بشكل متواصل، وحتى آخر أغنياته التى قدمها مع نجله «محمد» بالمشاركة مع «محمد رمضان» حققت نجاحا جماهيرا، حيث وصلت مشاهدتها إلى أكثر من 7 ملايين، فهو مثلما بدأ نجماً ظل نجماً جماهيرياً حتى وفاته وهذا الأمر لا يحدث فعلا إلا مع الأساطير، فنحن نتحدث عن فنان ظل محبوباً من الجمهور منذ ظهوره حتى وفاته.
بالنسبة للعمل فـ«عدوية» غير فى قاموس الغناء المصرى، وأدخل فيه مصطلحات لم تكن موجودة من قبل مثل «السح الدح امبو»، و«كركشنجى»، و«جوز ولا فرد» والكثير والكثير من مصطلحات الشارع والتى بدأت تغنى لتعبر عن واقعية ما يقدمه هذا الفنان.
وعلى المستوى الموسيقى فهو أول فنان شعبى يستخدم الآلات الغربية مثل «البيز والدرامز» وآلات النفخ النحاسية فى (زحمة يا دنيا زحمة) والتى أعادت تقديمها فرقة «جيبسى كينجز» ،وهو أشهر فريق يقدم موسيقى الجيبسى والفلامنكو فى التاريخ.
أما عن الصبر، فـ«عدوية» صبر على اتهامات المثقفين وهجوم الإعلام، وتحمل ما لا يتحمله بشر، ولكن هذا على المستوى المهنى، أما على المستوى العائلى، فـ«عدوية» صبر على ضرب أهله، وعقابهم المستمر له فى طفولته بسبب حبه للذهاب إلى الأفراح والموالد بسبب عشقه للغناء والهروب من المدرسة، ولكن هذا الظلم الأسرى ربما يكون مفهوما لأن عدوية كان ترتيبه الـ13 من أصل 14، فهذه القسوة ربما تكون مبررة بسبب خوف الأسرة من ضياع مستقبل الطفل، ولكن الظلم الثقافى الذى تعرض له «عدوية» فهو لم يكن مبررا على الإطلاق.
لأن «عدوية» بدأ بشكل احترافى عام 1972، أى بعد تولى الرئيس «السادات» الحكم بعامين، والرئيس «السادات» بعد حرب أكتوبر والنصر العظيم وقراراته السياسية والاقتصادية التى كانت ضد سياسات «جمال عبدالناصر»، جعلت هناك غضبًا شديدًا من المثقفين الناصريين، أو المتعاطفين مع المشروع الناصرى، فكان كل هؤلاء يصبون غضبهم الشديد على «أحمد عدوية» باعتباره رمزًا لهذه الفترة بسبب شهرته الواسعة والكبيرة والتى ظهرت فجأة وظلت تتضخم يومًا بعد يوم.
هذا الظلم البين، نجده فى أفلامنا السينمائية فى هذه الفترة التى تزامنت مع وقت انتشار شعبية «عدوية»، حيث كانت الأفلام تركز على الهجوم على رجال الأعمال وتظهرهم بمظهر الفاسدين، وكانت أغلب هذه الأفلام تقدم استعلاءً على أصحاب الحرف، ويتحدث أبطالها بعبارات مثل «بقينا فى زمن السباك عنده عمارة»، وما إلى ذلك، من الجمل الحوارية الاستعلائية.
وكان رمز أصحاب الحرف والمهمشين فى هذه الأفلام «أحمد عدوية» الذى شارك فى أكثر من 34 عملًا فنيًا، وكان يظهر بشخصيته كمغنٍ مثل (شعبان تحت الصفر، دائرة الشك، للفقيد الرحمة، 4-2-4، السلخانة، سطوحى فوق الشجرة، يارب ولد) وغيرها الكثير.
حتى فى الأفلام التى لم يظهر فيها عدوية، كان اسمه وصوته ونجاحه محورا للأحداث، مثلما حدث فى فيلم (خرج ولم يعد)، عندما استخدمه المخرج «محمد خان» رمزاً للضجيج والزحمة والضوضاء والعشوائية، بسبب أغنية (زحمة) رغم أن «عدوية» فى هذه الأغنية كان ينتقد هذا الزحام، ولا يمتدحه، كان يشتكى ويعبر عن هذه المشكلة، ويمارس دوره كفنان فى رصد الواقع وتقديمه للناس فى قالب إبداعى، ولكن كان يتم الهجوم عليه وكأنه المسئول عن هذه المشكلة.
يا للعجب!
لندرك كيف صبر هذا الفنان على الظلم الذى تعرض له، فأذكركم بالنعى الذى بدأنا به بداية المقال من وزارة الثقافة، ولكن فى الماضى وقت ظهور «عدوية» وزيادة شعبيته، قام «عبدالقادر حاتم» وزير الثقافة والإرشاد القومى، وهو واحد من الذين أشرفوا على خطة الخداع الاستراتيجى فى حرب أكتوبر 73، عندما شكل لجنة لمواجهة ظاهرة «عدوية»، كما أن أغنايته كانت ممنوعة فى الإذاعة والتليفزيون.
وعلى المستوى النقدى كان غالبية المثقفين يهاجمون أغانيه، لدرجة أن الكاتب اليسارى الكبير «صلاح عيسى» وصفه بـ«العندليب الأخنف»، فى سخرية و«تنمر» من «عدوية»، بغرض التقليل منه لصالح «عبدالحليم حافظ» الملقب بـ«العندليب».
هذا الاستعلاء النقدى وصل لحالة من حالات الإرهاب الفكرى، لدرجة أن أديب نوبل «نجيب محفوظ» عندما كان يشيد بصوت وأغانى «عدوية» كان يتم مراجعة رأيه بحالة استنكارية مثلما فعل الأستاذ «مفيد فوزى» وسأله فى مقابلة مصورة لماذا قلت إن «عدوية» يطربك، وكأنها جريمة.
ليرد نجيب محفوظ قائلا بالنص: «ده المسموع الأول، الله! بينافقوه؟! الشعب هينافقه؟! لا، ده راجل من الشعب بيستعمل أساليب شعبية وألفاظ شعبية وصوت خشن شعبى لا يخلو من الحلاوة».
ثم يعود أستاذنا «مفيد فوزى» ليسأله: حضرتك سمعت (سيب وأنا سيب)؟
فيرد أديب نوبل: «آه سمعتها وعجبتنى، ده كلام له مغزى كبير، ميصحش يفوتك، لو كنا عايزين نتفق، تخفف شوية، وأنا أخفف شوية، يصح تقولها للفلسطينيين والإسرائيليين «سيب وأنا أسيب»».
هذه الرؤية النقدية لأعمال «عدوية» من الأديب الكبير «نجيب محفوظ» تفسر سبب بقاء أغانى «عدوية»، لأنها تعبر عن الواقع العربى بكلمات بسيطة، مثلما يعبر «محفوظ» عن واقعنا المصرى فى رواياته، بينما يظل الكثيرون من النقاد والمثقفين منعزلين عن واقعهم ويقدمون أطروحات نقدية يتجاوزها الزمن، ويسقطها، ولا يتذكرها، بل يتذكر المظلومين من هذه النظريات مثل «عدوية».
هذا الانفصال الذى لا يزال يسيطر على الحالة النقدية الموسيقية المصرية حاليا، وكأننا نعيد الكره، ونمارس نفس الأساليب المتخلفة المبنية على احتقار ما يحبه الشعب، وكره كل ما هو جماهيرى وناجح.
واسمحوا لى أن أتحدث بشكل شخصى، فحتى الآن عندما أظهر فى البرامج أجد الهجوم على مغني الراب والمهرجانات، ليس بسبب محتواهم الذى يناقش قضايا اجتماعية وسياسية ودينية، لكن بسبب أسماء صناعها ويقال لى «يعنى إيه كزبرة، بابلو، شحتة، أوكا، أورتيجا»؟! وما إلى ذلك، وهذا أيضا ما كان يقال لـ«عدوية» بسبب أسماء صناع أغانيه، مثلا «يعنى إيه الريس بيرة، الجرن، عصفور، الطائر، أبوعتمان، قشقوش، الخشاب»، إلخ وكأن الزمن يعيد نفسه، فلا نزال نبحث عن الأمور المتعلقة بالعمل الفنى، مثل أسماء صناعه، ملابسهم، الطبقات الاجتماعية التى نشأوا فيها، ولا نناقش المحتوى نفسه، ولا نحاول استنباط ما يقدمه الفنان وعلاقته بالواقع.
ولذلك فوفاة «عدوية» والاعتراف الرسمى المؤسسى من وزارة الثقافة المصرية بالإرث الكبير الذى خلقه هذا الفنان، يضعنا تحت مسئولية كبرى، بأن لا نكرر أخطاءنا فى التعامل مع الأعمال الفنية ذات الشعبية الكبرى، حتى لا نظلم أصحابها، ونتذكر جيدا، أن ما فعله «عدوية» هو استثناء، لأنه موهبة جبارة استطاع أن يصمد لنصف قرن من العمل، وهذا ربما لن يحدث مع غيره من الموهوبين الذين ربما لن يتحملوا قسوة النقد المحمل بالاستعلاء. بل أصبح فرض علينا أن نطور من أساليبنا النقدية، ونحدثها حتى تتماشى مع متطلبات العصر، ولا نسقط فى الفخ الذى سقط فيه نقاد زمن «عدوية»!